تنغير: التراث الثقافي بين غنى التراث والرأسمال اللامادي وغياب الرؤية الإقليمية..
بدر سعيد
في عمق الجنوب الشرقي، حيث يلتقي ضوء الأطلس الكبير برمال الصحراء، يمتد إقليم تنغير ككتاب مفتوح يروي فصولا من ذاكرة الإنسان والمكان. هنا، لا يقاس الزمن بالساعات، بل بنبض الحكايات، وبصدى الدروب التي عبرها التجار، الرحل، والعلماء، حاملين معهم ثقافة تراكمت على مدى قرون.
تنغير ليست فقط جغرافيا جميلة أو فضاء سياحي خلاب، بل هي ذاكرة حية تختزن إرثا حضاريا وإنسانيا متنوعا يشكل جزءًا من الرأسمال اللامادي الوطني.
غير أن هذا الغنى يظل في كثير من الأحيان خارج دائرة الاهتمام المؤسساتي، في غياب رؤية إقليمية واضحة تجعل من التراث والثقافة رافعة للتنمية المحلية.
غنى التراث والرأسمال اللامادي
إقليم تنغير يتميز بتنوع ثقافي وحضاري قل نظيره:
*قصور وقصبات تنطق بجمال العمارة الطينية وبحنكة الأجداد في تدبير المجال والماء والمناخ.
*فن أحيدوس ، كتعابير فنية جماعية تجسد قيم التضامن، الفرح، والانتماء.
*الزي التقليدي تاشتات امخلطن تحروبت .والصناعات الحرفية التي تمزج بين الإبداع والوظيفة، وتعبر عن هوية أصيلة.
*اللغة الأمازيغية التي تشكل وعاء للذاكرة الشفوية، للحكاية، للشعر، وللحكمة الشعبية.
*المواسم والطقوس الجماعية مثل موسم سيدي حماد أو موسى، وموسم الخطارات، التي تجمع بين الديني والاجتماعي والثقافي في توازن فريد.
اذن هذا الرصيد اللامادي الهائل يمكن أن يشكل أساسا لاقتصاد ثقافي محلي مستدام، لو تمت مواكبته بسياسات عمومية واعية ومتناسقة.
تشكل تحديات الفعل الثقافي بالإقليم
رغم كل هذا الغنى، يواجه المشهد -الثقافي بتنغير عدة معيقات:
-غياب رؤية إقليمية واضحة تؤطر الفعل الثقافي وتربطه بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
-ضعف البنية التحتية الثقافية: فباستثناء بعض المبادرات الجمعوية والموسمية، تفتقر المنطقة إلى فضاءات ثقافية قارة (دور ثقافة، مسارح، مكتبات).
-تراجع نقل المعرفة الشفوية بسبب الهجرة وتغير أنماط العيش، مما يهدد ضياع جزء كبير من الذاكرة الجماعية.
-هشاشة الدعم المادي والمؤسساتي للجمعيات والفاعلين الثقافيين، مما يجعل الفعل الثقافي قائما على الجهد التطوعي أكثر من كونه سياسة ممأسسة.
-غياب التنسيق والتكامل بين الجماعات الترابية، المديرية الإقليمية للثقافة، والمجتمع المدني، وهو ما يخلق تشتتا في الجهود وضعفا في الأثر.
نحو رؤية ثقافية إقليمية
لتجاوز هذه التحديات، يحتاج إقليم تنغير إلى بلورة رؤية ثقافية شمولية تنطلق من خصوصياته التراثية، وتستهدف جعل الثقافة محورا للتنمية. ويمكن تصور
<بعض الخطوط الكبرى لهذه الرؤية في:
<إعداد خارطة ثقافية إقليمية توثق التراث المادي واللامادي وتوجه الاستثمار الثقافي.
<دعم الرقمنة والتوثيق عبر إنشاء منصات إلكترونية تعرف بالتراث المحلي وتسهل الولوج إليه.
<تعزيز الشراكات بين الجماعات الترابية، الجمعيات، والقطاع الخاص لإطلاق مشاريع ثقافية مهيكلة.
<إحداث مراكز ثقافية متعددة الوظائف تحتضن الشباب والمبدعين وتوفر فضاءات للتكوين والإبداع.
<تنظيم مهرجانات نوعية تبرز تنوع الإقليم الثقافي وتشجع على السياحة الثقافية المسؤولة.
الخاتمة
إقليم تنغير لا يفتقر إلى التراث، بل إلى الرؤية التي تحوله من ذاكرة إلى مشروع، ومن رمزية إلى قيمة مضافة. إن صون التراث وتنميته ليس مجرد واجب أخلاقي أو ثقافي، بل هو خيار تنموي ذكي يضمن استدامة الهوية وكرامة الإنسان المحلي.
فحينما تصبح الثقافة سياسة عمومية، يتحول التراث إلى طاقة، والرأسمال اللامادي إلى قوة ناعمة تعيد للإقليم مكانته في قلب التنمية الوطنية.
