الورقة الأولى: بين الغروب والوميض.
المختار عنقا الادريسي
في لحظات الغروب، ينساب الضوء الأخير من بين أصابع المساء فيجعلنا نشعر وكأننا نقف عند تخوم الحياة … حيث تلتقي نهاية الأشياء مع بداياتها المخيفة. فتبدو الشمس وهي تميل نحو الأفق وكأنها تستأذن رواد مقهى » الحافة » بمدينة طنجة في الرحيل، بين تداخل وتكامل البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي، معلنة عن الغياب اليومي، فعندئذ يدرك المتأمل بأن في عمق ذاك الرحيل يسكن وَعْدٌ بالعودة، تماما كما يفعل الأمل في قلب أنهكه التعب، الخسارات، الانتظارات ف【 ما مضى قد مضى، وما سيأتي، سيأتي أما أنت فكن هنا في اللحظة 】 – على حد تعبير جبران خليل جبران في » دمعة وابتسامة « .
وأنا جالس أتأمله ذاك الغروب الذي أضحى أكثر من مشهد بصري، ليصير عندي حالة روحية، تَخف معها وعندها الأصوات، ويهدأ ضجيج الطموحات معلنا بداية الرحلة إلى عالم الدواخل، نحو الذاكرة، المخيال … نحو ما تبقى عندي من صدق وصفاء وبساطة. وأنا أحمل معي وميضا قد يخبو، لكنه لا ينطفئ. ويمنحني القدرة على النهوض … التجدد، ويهبني الابتسامة الدائمة
رغم كل الهزات التي لا تُرى لأننا – وكما يقول « نيتشه » في كتابه « هكذا تكلم زرادشت » – 【 نحمل في أنفسنا فوضى كافية، لتلد نجمة راقصة 】، عند حديثه عن الخلق والإبداع وتجاوز الذات. وبعيدا عن فهم الفوضى على أنها الاضطراب السلبي، لأنها عنده طاقة داخلية متفجرة، ورغبة كبيرة في التحرر من كل القيود. في حين ترمز النجمة الراقصة إلى الإنسان الأعلى الذي يتجاوز ذاته الضعيفة ليعيد خلق معنى / معاني
للحياة، نحن في أمس الحاجة إليها. وعطفا على كل ذلك فسفينة الزمن بمختلف مساراتها وتقلباتها لا تأخذنا إلى الشيخوخة الجسدية، بل تنقلنا إلى النضج الوجودي الذي يجعلنا نرى الحياة كما لم نراها من قبل. فما كان يؤلمنا بالأمس، صار اليوم درسا لنا، وما كنا نخشاه صار جزءا من وعينا، وما كنا له طاردين من الذاكرة صار وشما من الحكمة على جدارات الروح …
وأنا جالس في مكاني أنتظر فرصة اكتمال الغروب، أترقب النور الداخلي الذي يلف كياني دون أن تغرب عنه شمس هذا اليوم، استرجعت ما كان قد عبر عنه » جلال الدين الرومي » بقوله:
【 حين تقبل ما يجري وتثق أن كل ما يفعله الله خير ينجلي عنك الحجاب
وتفتح لك أبواب الحكمة 】 وهو ما لا يعني الاستسلام السلبي، بل هو الثقة الكبيرة في المعنى الإلهي العميق وراء الأحداث. وهذا القبول هو ما سيسمح لنا بأن نرى مالم نكن نراه من قبل.
