مأساة ميلودة بنت إدريس.

مأساة ميلودة بنت إدريس.
شارك

ذة /ثريا طهري.

      أحيانا تعبر من ذهني التماعات خاطفة أفكر في كتابتها، وأشياء كثيرة تتراكم لا أدري كيف عثرت علي أو وجداني في زحمة الحياة ومشاكلها اللامتناهية، فهي: خواطر…. ذكريات…. واسترجاعات من الماضي الضارب بعمق في جذور المعيش اليومي ،ماضيا وحاضرا .

 ولعله ما حدث معي في هاته الاغنية التي وجدتني ادندن بها دون سابق إنذار لأتصل بإحدى أخواتي علها لاتزال تحفظ بعضا من  الأبيات التي عصاني فكري في استرجاعها ،أمام الانشغالات اليومية  ،وفعلا ذلك ما حصل.

  لقد  تضاربت المعلومات حول حقيقة هذه القصة بين من اعتبرها مجرد أسطورة تحولت إلى حقيقة بسبب رواد اتقنوا أدائها ، ومنهم نستحضر « الشيوخ » الذين ينتمون إلى المنطقة الشرقية(بركان، وجدة ). وكذلك من طرف الراحل » بوشعيب البيضاوي »  عراب فن العيطة، واخيرا من طرف مجموعة « أولاد البوعزاوي » التي أبدعت في أدائها. وتجذر الاشارة هنا إلى أن هذه الأغنية  انتشرت بين دول المغرب العربي ، بل وسرعان ما وصلت إلى المشرق ودول الخليج اما بسبب بشاعة الواقعة، أو طبيعة القصة التي تصورها وتحكيها.

     ونحن أطفال صغار كنا نسمع الشيوخ في الأعراس يتغنون بها، باعتبار الأجواق العصرية لم تكن موجودة انذاك بالمنطقة الشرقية – التي اتشرف بالانتماء إليها – ولم يكن عندنا الا ما يسمى ب (التقصيرة )يؤديها مجموعة من الشيوخ مصحوبين ببعض الراقصات ، حيث يهيء لهم المكان المحاط بدار أهل العريس وبرخصة من البلدية وعون السلطة، فيجلس الرجال والفتيات والفتيان، أما النساء فكن  يلجأن  الى السطوح قصد  الفرجة والاستمتاع ، تلكم كانت  هي العادات قبل التطور ،والتغيير الذي عرفته الأعراس وظهور موجة الأجواق والمجموعات، والاختلاط  الذي لا تقوم الاعراس الا به في بهو القاعات والفضاءات المخصص لكل المناسبات.

     ففي حضرة كل ذلك كانت الامسيات  لا تستقيم او تقوم الا بترديد الأغاني الشعبية ،وكل ما يزخر به الطرب الشعبي عموما  مما هو راسخ في المخيال والوجدان المغربي خاصة، والمغاربي عامة ، انها الايقاعات الموسيقية الحالمة  التي تغريك بالرقص والطرب والتفنن، واستنباط الحكم من الحياة المعيشة، فهي تجسيد حقيقي للحياة اليومية ، تبنى وتصاغ  وتقدم في طبق موسيقي ظل خالدا إلى اليوم .كما هو الشأن مع مجموعة من الشيوخ التي كانت لهم القدرة على الإبداع وعلى التقاط تفاصيل الحياة ونبض النفس البشرية والتعبير بطريقة مؤثرة عن مختلف الاحاسيس وتلويناتها  ، بصورة بلاغية رائعة، ومن هؤلاء الشيوخ يحضرني اسم « الشيخ علي التلساني البركاني » المغربي الأصل.

     لم تقتصر أغنية ميلودة  بنت إدريس – التي نحن بصدد التوقف عندها –  على مكان محدد بعينه،  بل انتشرت بسبب بشاعة الواقعة ، وباعتبارها عبرة لكل إمرأة فكرت في خيانة زوجها،  فميلودة  هذه دفعت الثمن غاليا من أجل نزوة عابرة، وفقدت ابنها الرضيع بطريقة بشعة بعد أن افترسته الذئاب في الغابة، حسب ما تحكيه الرواية المغناة.

     ويعتبر الشيخ علي التلساني البركاني أول من تغنى بالأغنية سنة 1943 ،وتقول الأغنية، وهي بالعامية؛

      ميلودة فين كنت كوليلي فين درت لوليد

                  لحبيبة كسرا ليك اكدرتي حتى نسيتي سعيد

      ميلودة كدرتي حتى نسيتي وليدك مسكين

                  البينو درها لك والويسكي يا اختي جاك بنين

     وهنا تتضارب الأقوال حول حقيقة الخيانة، لأن البعض فسرها بأنها مكيدة مدبرة من طرف أحد الضباط الفرنسيين الذي فتن بالمرأة ، التي أبت أن تخون زوجها، فأرسل الضابط سيارة تخبرها بأن زوجها تعرض لحادثة سير خطيرة وهو بين الحياة والموت بالمستشفى، لكن السائق اتجه بها إلى الغابة حيث كان الضابط في انتظارهم، وفرضوا عليها شرب الخمر حتى غابت عن الوعي وهو ماذكره الشيخ « بوتلجة بلقاسم الجزائري » في الأغنية ،عندما انشدها قائلا:

      يمكن كاس لخمر قراو اللطيف

                  بالمحيا كثرولك وقيلة الماء حسبتيه حليب

     وبعدما نال الجناة ما ارادوا تركوها وهربوا، وعندما  استفاقت بحثت عن ابنها الوحيد فلم تجد إلا أحشائه ،وتزيد الاغنية قائلة :

      وياك أنت لبغيتي فرشتيلو الحايك بيديك

                  يمكن كنت حابتو ولا حاسبتو يديك

    فجنت  ميلودة المسكينة،بعدما اتهمها  جيرانها ومعارفها بالخبل والجنون ،وشهروا بها ، ولم يرحمها المجتمع ،أو يغفر  لها فعلتها تلك .

      وصل خبرك لدزير(الجزائر )خيمة خيمة كاملة تلغا بيك

                    ميلودة دارها لك زينك ولا حواجبك اوعينيك

    لقد وصفت ميلودة بأنها إمرأة ذات حسن وجمال، وهو ماجعلها مطمعا لكل الرجال.

     أما في الرواية  التي تغنى بها  بوشعيب البيضاوي وأولاد البوعزاوي ، فنجد أن  ميلودة كانت عرضة للتحرش اليومي رغم أنها متزوجة وأم لطفل، ورغم مقاومتها لكل المغريات المتنوعة والعديدة ،فقد وقعت في الخطيئة مع خليلها، وكانت تستغل مغادرة زوجها للعمل ليلا، فتخرج لقضاء سهرة ماجنة ومقارعة كؤوس الخمر مع خليلها، ولتفادي افتضاح أمرها، قررت اصطحاب طفلها معها، ووضعته بعيدا بين الأشجار، فشربت إلى حد الثمالة، ولما انهت سهرتها رافقت خليلها، متناسية وليدها ، وفي الصباح استعادت وعيها وبحثت عنه  فلم تجده ،فسارعت رفقة أقارب لها إلى الغابة لتكون أمام هول الفاجعة إذ لم تجد إلا بعض اطرافه،وفي هذه النازلة تقول الأغنية :

      ميلودة فين كنت والحكومة شحال بحثت عليك

                  ما عندك ما تغطي جيرانك كلهم شهدوا فيك

   وبعد ان اعتقلت ميلودة من قبل مصالح الأمن، وتعرضت لشتى أنواع التنكيل والتعذيب – الذي كان معمولا به وقتها قبل أن تعرض على القضاء –  ولما وقفت في المحكمة أزالت اللثام عن وجهها، وأبهرت القضاة بجمالها ،غير ان حسنها لم يمنعهم من إدانتها بعقوبة حبسية مشددة، فانشدت تقول:

      ربي ربي كيف نعمل وياك انا وليدي مات

                  لي فالغابة باقي وقيلة داوه الحطابات

     ويقال أن معظم الناس تعاطفوا معها رغم بشاعة القصة وانشدوا:

      ما عندك مادري هاد شي كان مكتوب عليك

                  ما بيدك غير تصبري حتى مولانا يفرج عليك

    ورغم تضارب المعلومات حول القصة، فقد تحولت إلى فن راق بسبب روعة أدائها ولحنها الحزين والذي يختلف تبعا للتنوع الجغرافي بين مناطق المغرب :  المنطقة الشرقية والشمالية والغرب المغربي والجزائر. وعموما تؤكد الاغلبية أنها قصة واقعية، اختلف في تحديد مضبوط للمجال الجغرافي الذي شهد احداثها . فهناك من يقول أنها وقعت في غابة معمورة ، والبعض الاخر يقول  أنها   وقعت في إحدى  الغابات المتواجده  بضواحي الدار البيضاء. وهناك من ينقل مسرح حدثها الى إحدى مناطق غرب الجزائر ،وبالضبط في تلمسان ،وهي المنطقة التي اعتبرت بلادا لمتجر الكثير من الشيوخ المغاربة كالشيخ علي التلساني البركاني ، لتبقى الحقيقة ضائعة بين المغرب والجزائر.

وقد سمعت أيضا وانا بسلطنة عمان – في نهاية ثمانينيات القرن الماضي – بهذه القصة مع  اختلاف إسم  ميلودة ، وبعض احداثه.

    ومما ينبغي الإشارة إليه أن كلمات هذه الأغنية  تختلف تبعا لمن تغنى بها ،وساسوق على سبيل المثال لا الحصر  ماجاءت به  مجموعة اولاد البوعزاوي:

                  اميلودة بنت اختي

                            أش هاد لفضيحة درتي

                   ملي بلاك الله

                            خلي الدري لباه

                  أنا عطاوني شراب الفرجي

                             انا وصاوني في ولدي

                   انا وليدي ما زال صغير

                            انا وممتي كيف ندير

     ويبقى المتفق عليه في كل الروايات أن ميلودة أصيبت بالجنون نتيجة ما حدث لابنها وضياع أسرتها، فعاشت مأزومة في  وضعيتها الى ان فارقت الحياة.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *