الفن يرقى بالقيم الجمالية لا أن يحرقها ويتركنا ضحايا للعدم والعبثية. فيلم « زنقة كونتاكت » نموذجا
يونس وانعيمي
علمتني « تاحرايميات » الإعلام والتعليقات الصحفية أن انتبه لاستعمال بعض المصطلحات المتداولة « عرفا » كأنها مسلمات ولكنها تنطوي على تغرير بالرأي العام. أخطر هذه العبارات هي عبارة « أثار ضجة »، إذ وجدتها مستعملة بكثرة، خصوصا لدى بعض الصحافة الفرنسية، وهي تصف منع السلطات العمومية المغربية لدعم وترويج فيلم « زنقة كونطاكت » لمخرجه المغربي الفرنسي إسماعيل العراقي. هذا المنع جاء بسبب استعمال المخرج لأغاني مطربة انفصالية اسمها قيد حياتها (توفيت بسرطان العظام سنة 2015) مريم منت حسان.
اولا: للسلطات المغربية العمومية واسع النظر (حسب اختصاصاتها القانونية) أن تجمع لجانها التقنية العمومية لترى وتحكم في جدوى دعم عمل سينمائي من عدمه، وذلك وفق معايير تضعها وتستحضر فيها طبعا المصالح الفضلى للبلاد (خصوصا مصلحة الوحدة الترابية ومحاصرة الانفصاليين). وهي مصالح ليست طبعا صعبة في استنتاج واستقراء حضورها من عدمه في كل الأعمال الفنية الموضوعة للدعم العمومي. ولم تحدث أي ضجة سوى في عقول من يبحث عنها، لأن قرار منع الدعم والترويج جاء مشروعا ومسنودا بقرائن واضحة. والمركز السينمائي المغربي استفاض في تعليل قراره بكثير من الدعائم.
لكن اضيف أمرا لأولئك المروجين لهذه « الضجة المزعومة » بأن كل الدول والديمقراطيات وشركاءهم من المبدعين والفنانين يشتغلون بنفس منطق الرقابة: في فرنسا مثلا تمنع وتحارب كل الأعمال الفنية المناهضة للسامية (انظروا ما يحدث للفنان ديودوني مثلا) فبالأحرى الأعمال المناهضة لفرنسا ومصالحها السيادية… وتتوفر مؤسسة هوليود على مكتب موضوع رهن إشارة FBI (منذ ايام Edgar Hoover) مهمته افتحاص كل سيناريوهات الافلام قيد الإنتاج و »فلترتها » لكي لا تمس بمصالح امريكا السيادية، مقابل محاصرة باقي الافلام المنتجة خارج هوليود، في كل صالات العرض (تذكروا ما حصل مع مخرجين افذاذ كشارلي شابلن، واوليفر ستون ومايكل موور وسبايك لي وغيرهم). وللعلم، وفي إطار « التقلاز من تحت الجلابة » الذي تقوم به فرنسا، فإن هذه الأخيرة تدعم انتاج وترويج كل الافلام الممنوعة في امريكا وباقي العالم، تحت لواء الديمقراطية وحرية التعبير (ترشيح سبايك لي رئيسا لأحد دورات مهرجان كان). السينما ليست بمعزل عن السياسة وهي شريكة للسيادة أو لها حق طلب اللجوء السينمائي في دول أخرى لأن ارض الفن واسعة.
ثانيا: وانا ابحث عن السيرة الفنية لهذا المخرج المسمى اسماعيل العراقي، تفاجأت بكونه مخرجا مبتدئا ليس في حوزته سوى فيلم قصير (Harrach) وفيلم « زنقة كونطاكت » وبالتالي فلا بأس في أن يطور مهارات طلب الدعم لأعماله المستقبلية ويتعلم أن الدول (وليس المغرب نشازا) لا تدعم الأعمال الفنية التي لا تحترم سيادتها. ولا أظن أن اسبانيا ستدعمه في عمل يروج فيه لاستقلال الباسك ولا بريطانيا ستدعم أعماله المروجة لثورة ايرلندا الشمالية ولن يجد من يموله إن هو أنتج فيلما يحكي فيه المجزرة التي ارتكبها الحلفاء ضد النساء الألمانيات إبان انتهاء الحرب العالمية الثانية… بل ستقتاده فرنسا (بلده الثاني) إن هو قام بعمل سينمائي يروي فيها فواجع وكوارث التجارب النووية الفرنسية في جزر المارتينيك وصحراء الهكار بالجزائر. وحتى إن هو فاضت عليه « الثورة الذهنية » التي تحتل وجدانه بحكم أنه درس « تلك الفلسفة الصعلوكة » في جامعات فرنسا (هو طالب فلسفة) فيجب أن يعلم أنه وهو يدير أعماله عليه أن يديرها بذكاء استثماري وليس باللحية و « الراسطة » والسلوك البوهيمي لأنه في مقتبل العمر الفني.
ثالثا وأخيرا: احس باغتراب ثقافي لدى غالبية المخرجين الشباب. يريدون ترويج الثورة الشبابية والتجاوز الثقافي الشبابي للسلطة الثقافية الأبوية (الاب هنا بالمعنى الفرويدي والماركسي) وافهم أن غالبيتهم ملوا من الأحادية القطبية الثقافية التقليدية (اللغة، الخطاب، المعتقد، القيم، السلوك) لكن عندما يريدون تجاوز كل ذلك يقعون في محظور الإفراط في الثورية ليسقطوا في اللاأخلاق واللاقيم ويقعون ضحية العدمية (لا قيم، لا علاقات متوازنة، لا دولة، لا سيادة، لا مجتمع).
نعم ليس هناك حكم أخلاقي جاهز ومسبق ومتسلط على العمل الفني كيفما كان، فقط لأننا نرجو من هذا العمل أن يرقى بقيمنا وليس أن يحرقها ويتركنا ضحايا للعدم والعبثية.
الفن يرقى بالقيم الجمالية لا أن يحرقها ويتركنا ضحايا للعدم والعبثية.