عن المتابعات القضائية لبعض منتخبينا
حميد المعطى
كاتب رأي
تتناقل الاخبار من هنا وهناك من جميع أنحاء المملكة ان منتخبين برلمانيين او اعضاء بمجالس جماعات ترابية او غرف مهنية متابعون قضائيا منهم من يقبع في السجون ومنهم من ينتظر بعضهم في حالة اعتقال واخرون في حالة سراح او يتحسسون رؤوسهم في انتظار الفرقة الوطنية للشرطة القضائية او يترددون على محاكم جرائم الاموال او على قاضي التحقيق والتهم الموجهة إليهم او الشبهات تتعلق في غالب الأحيان بتبديد وهدر المال العام او تزوير المحررات او الغش في الفواتير او انجاز خدمات الطرق والقناطر والحدائق او اختلالات في المحاسبة وموازنات تدبير الشأن العام والمخالفات في رخص البناء والتعمير والأخطر من هذه الممارسات هو استغلال هذه المناصب التمثيلية وجعلها غطاء لحماية انفسهم واطلاق ايديهم للقيام بأعمال يجرمها القانون مثل المتاجرة في المخدرات والاتجار في البشر والاستيلاء على الممتلكات.
كانت مثل كذا ممارسات موجودة لدى النخب السياسية التمثيلية في المغرب في الماضي منذ السبعينيات من القرن الماضي ولكنها لا تتعدى بعض الحالات المنعزلة والمحدودة واصحابها منتمون للأحزاب الإدارية اما في السنوات العشر الماضية اصبحت هذه الممارسات شبه ظاهرة تشمل كل المؤسسات التمثيلية في المجالس المحلية حضرية وقروية والمجالس الإقليمية والعمالات والمجالس الجهوية وغرف التجارة والصناعة والفاتحة والصناعة التقليدية الانتاجية والخدماتية والبرلمانية وأضحت الظاهرة تغزو جل الاحزاب اليمينية واليسارية على السواء كانت وطنية او اشتراكية او اسلامية واختلط الحابل بالنابل والصالح بالطالح وساد الانطباع بين الكتلة الناخبة بان اولاد عبد الواحد كلهم واحد وأصبح المجتمع يبخس المؤسسات التمثيلية ويرى عدم جدواها بعين التوجس والسخط الى درجة الحقد والدعابة والسخرية والتنكيت بالبرلماني الذي يحمي نفسه في بر الامان وبعلامة ج في سيارات الجماعات بأنها جابها الله وهبة من رب العالمين المنتخبين وليست وسيلة لخدمة المواطنين وبأن هذه المؤسسات تعرقل الاستثمارات وتعطل المشاريع وتؤخر التنمية في شتى المحالات وتمس بسمعة وصورة البلاد في الخارج …واخيرا العزوف عن المشاركة في الانتخابات والابتعاد عن الاحزاب والنقابات وتبخيسها.
فما هي اسباب انتشار مرض الفساد المالي في جسم بعض نخبنا التمثيلية. الاسباب معقدة ومختلفة تاريخية وثقافية وسياسية ومنها محدودية الرقابة وغياب الحكومة في تدبير الشأن العام ومنها ما يرجع إلى اتجاه الناخبين في التصويت وتوعية المترشحين وكيفية تزكيتهم ودور الدولة والاحزاب السياسية في ذلك.
تاريخيا ساهم المخزن منذ التجربة البرلمانية في الستينات عبر البحث عن كائنات انتخابية في إطار سياسي موال يدعى جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية الفديك لمواجهة مرشحي احزاب الحركة الوطنية وفي تجربة 76/77 جمعت السلطات بوسائلها المرشحين لمختلف المجالس التمثيلية كمستقلين ومحايدين في حزب أطلق عليه التجمع الوطني الاحرار وفي تجربة 84 انبثق حزب اخر بمساعدة المخزن من جمعيات السهول والجبال والوديان تحت اسم الاتحاد الدستوري، ولا زلنا نرى بعض الاستمرار لهذا الخيار.
وكانت الاهداف من انشاء هذه الاحزاب الإدارية هي اصطناع تعددية صورية وصنع أغلبيات موالية وضرب واضعاف الاحزاب الوطنية والديمقراطية في التجارب الاولى والحزب الاسلامي في التجربة الاخيرة وتستعمل السلطات اساليب الترغيب والترهيب من اجل ذلك وكانت تصطفي مرشحيها لمختلف الانتخابات من الاعيان وذوي النفوذ المالي وتساهم في انجاحهم بمختلف الوسائل في بداية التجربة البرلمانية بتزوير المحاضر وخطف الصناديق وبعد ذلك بتسخير المقدمين والشيوخ في الدعاية لمرشحي المخزن واخيرا بالحياد السلبي وغض الطرف عن توزيع المال الحلال والحرام بدون حساب لشراء الذمم والاصوات. مما شجع سماسرة الانتخابات واصحاب الشكارة لاقتحام الميدان السياسي
واذا كان مجلس النواب لستينات القرن الماضي الذي لم يكمل ولايته الاولى يتكون من اساتذة ومحامين و مثقفين ومن سياسيين ممارسين مؤطرين من احزاب قوية تحمل مشاريع مجتمع وذوي مستوى رفيع في السجال والمناقشة سواء كانوا من المعارضة او الاغلبية ومازال المغاربة يتذكرون مرافعات ومناقشة ملتمس الرقابة لسنة 1964 المنقولة مباشرة على التلفزيون اما بعد التجربة الفريدة في تركيبتها ومستواها أضحت البرلمانات الموالية تفقد شيئا فشيئا من مستواها الترافعي اذ اخترقت قبة البرلمان كائنات انتخابية لا يهمها من صفتها التمثيلية الا حماية مصالحها وتنمية ثرواتها أو اكتساب الحصانة وتبقى مهامها التشريعية والرقابية اخر اهتماماتها ولا ادل على ذلك من نسبة النواب الحاضرين في اشغال اللجان والجلسات العامة وعدد الحاضرين في المناقشة والتصويت على قانون المالية.
ان المستوى العام لممثلي الامة بالإضافة إلى ممارسات بعض البرلمانيين الخارجة على القانون بصفتهم في حالات كثيرة رؤساء او اعضاء بمجالس جماعات ترابية او غرف مهنية من تبديد المال العام او التزوير في المحررات او تلقي الرشاوى او الغش في انجاز المشاريع او التواطؤ في الصفقات العمومية….الخ من شان ذلك المس بهيبة ومصداقية المؤسسات التمثيلية وارتفاع نسبة العزوف في الانتخابات الجماعية والتشريعية التي لا تشارك فيها الطبقات الراقية والمتوسطة والواعية من المجتمع، ليفتح السوق في وجه سماسرة الانتخابات ولمن يعطي اكثر ويفتح المجال للكائنات الانتخابية لحصاد اصوات الناخبين بالمئات والالاف دون ان تحرك السلطات المعنية ساكنا مما يفقد المشهد السياسي نبله ويسقطه في المحظور
ولعل الاحزاب السياسية تتحمل الجزء الاكبر من المسؤولية فيما الت إليه الامور من فساد لبعض منتخبينا لان تلك الاحزاب هي التي تمنح التزكية للمترشحين وطنيا او جهويا او اقليميا او محليا ورحم الله الزمان الانتخابي في الستينات و السبعينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي حين كانت الاحزاب السياسية وخصوصا الديمقراطية والتقدمية منها تدقق وتتحرى طلبات الترشيح وتقيم اصحابها بمعايير الذهب من حيث الاستقامة والنزاهة والمستوى الثقافي والتعليمي والتشبع بقيم الحزب ومبادئه وانشطته النضالية وسمعته بين حيرانه ومحيطه وكانت اجتماعات لجنة الترشيحات تأخذ الوقت الكافي لاختيار المرشحين المناسبين اما اليوم فإن التزكيات توزع لمن هب ودب من الراغبين في الترشح شريطة تحمل تكاليف الحملة الانتخابية وفي بعض الاحيان تلجا الاحزاب الى البحث عن البروفيلات التي الها حظوظ في كسب المقعد بآية وسيلة
ومن شان هكذا انتخابات دون تدقيق ولا تمحيص في السيرة الذاتية للمترشحين ولا بحث او تقصي في سلوكياتهم وتصرفاتهم من شان كل ذلك تسلل واختراق لوائح الفائزين اشخاص ناقصي المروءة ذوي المقاصد السيئة البعيدة عن خدمة المصلحة العامة وانما الاستثمار في المجالس الترابية او البرلمان من اجل الاثراء غير المشروع بشتى الوسائل والتحايلات او تحصين اشخاصهم وحماية انفسهم من التحقيقات والمتابعات ومن ثمة ينخر الفساد المالي المؤسسات وتتضاءل الثقة فيها لدى المواطنين وتتقلص الاستثمارات الاجنبية وتخدش صورة البلاد الخارجية وتتراجع نسبة النمو ويتهدد استقرار المجتمع والبلاد
ان ظاهرة الرشوة والغش والابتزاز والفساد المالي منتشرة في المجتمع المغربي بكل فئاته وطبقاته وقطاعاته ومؤسساته ولكن الامر اذا تعلق بالنسبة لفئة تطوعت وترشحت لخدمة الشأن العام ونالت اصوات وثقة المواطنين فإن الامر يزداد خطورة ويهدد المجتمع بما لا تحمد عقباه من امراض تصيب البلاد في مقتل رغم تعدد آليات التفتيش وهيئات الرقابة والمراقبة والحكامة وكثرة منظمات المجتمع المدني المهتمة لمحاربة الرشوة والفساد المالي والصحافة الاستقصائية والاحزاب السياسية كل هذه المؤسسات عليها ان تضاعف من جهودها للحد من آفة الفساد مع منحها صلاحيات واسعة للإحالة على النيابة العامة كل الاختلالات والشبهات المتعلقة بالمال. العام والاثراء غير المشروع.
واذا كانت وتيرة المتابعات القضائية قد تسارعت في السنة الاخيرة فالمؤمل الا تكون عبارة عن حملة مؤقتة ومحدودة بل عملية دائمة وعادية وتشمل بالإضافة إلي المنتخبين رجال السلطة على مختلف المستويات والمدراء المركزيين والجهويين في مختلف القطاعات والمؤسسات في الاقاليم والجهات حتى تتقوى الدولة وتتحصن من الفيروسات التي تنخر اوصالها بممارسات لا قانونية ولا مسؤولة وتصل احيانا الى مستوى قياسي من التعسف والشطط في استعمال السلطة اذ تتحول سلطة تطبيق القانون وخدمة المواطنين لدى بعضهم إلى تسلط على رقاب وجيوب المواطنين
فبالإمكان الحد من الظاهرة اذا توفرت الإرادة السياسية وتظافرت جهود جميع الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمجتمع المدني وتحركت هيئات التفتيش والرقابة والمراقبة والتتبع ومؤسسات الحكامة وتمت الإحالة الذاتية للنيابة العامة لجميع القضايا المشبوهة من شتى المصادر الصحفية والاعلامية مع الاخذ بالاعتبار شكايات المواطنين وجمعيات المجتمع المدني مع مراجعة الترسانة القانونية المنظمة للانتخابات كحذف القاسم الانتخابي والتصويت الاجباري والدوائر الانتخابية المتساوية ونمط الاقتراع بإقرار الاحادي الفردي بالجماعات المحلية واللائحة الجهوية في البرلمان وحذف الغرفة الثانية والتشدد في منح التزكيات للمترشحين واليقظة والحياد الإيجابي لوزارة الداخلية والسلطات المحلية في الحملات الانتخابية من اجل فرز نخب سياسيه حقيقية في استحقاقات شفافة ونزيهة.
الم يدع صاحب الجلالة في 17 يناير الماضي بمناسبة الذكرى الستين لتأسيس اول برلمان موجها الخطاب الى ممثلي الامة الى تخليق الحياة السياسية واعتماد مدونة اخلاقية للعمل السياسي وهو خطاب يؤكد خطاباته السابقة الداعية إلى التحلي بالجدية في القيام بالواجب وربط المسؤولية بالمحاسبة والمساءلة، واقرار قانون الاثراء غير المشروع ومن اين لك هذا.