صفعة أخرى

صفعة أخرى
شارك

د. خالد فتحي

في لحظةٍ فارقة، تبرز مرة أخرى أن نظام الجزائر يجري وراء السراب، انسحبت مصر من مناورات « سلام إفريقيا 3 » التي تنوي ان تنظمها جارتنا الشرقية…انسحاب بعيد عن أن يكون مجرد إجراء فني أو لوجستي عابر…هو بمثابة بيان سياسي صامت ولكنه مدوٍّ تجلت فيه حكمة القاهرة وثقلها الإقليمي… رسالة بالغة الوضوح بأن مصر، بتاريخها العريق ومكانتها الرائدة، ترفض رفضاً قاطعاً أن يُقحم اسمها في ترتيبات ومسرحيات عبثية تهدف إلى شرعنة كيان انفصالي، وتضرب عرض الحائط بمبادئ وحدة الدول وسيادتها.

 لقد أعلنت القاهرة، بصوت لا تخطئه أذن، أن كرامة الاوطان وسيادة الدول خط أحمر لا يمكن تجاوزه.

جاء هذا الموقف المصري الحازم، ليكشف عن يقظة استراتيجية مصرية تجاه محاولات جزائرية مستمرة لتمرير أجندات مشبوهة عبر بوابة المناورات العسكرية وقبل ذلك عبر قمم عالمية كالقمة الافريقية اليابانية. فالهدف الجزائري الواضح من إضافة اسم البوليساريو لقائمة المشاركين، كان السعي لإضفاء شرعية زائفة على هذا الكيان المتمرد الذي يفتقر لأي أساس قانوني أو اعتراف دولي حقيقي.

من منظور القاهرة، البلد الافريقي العربي يُعتبر هذا المسعى الجزائري طعنةً في ظهر منظومة القيم والمبادئ التي تأسست عليها جامعة الدول العربية، واستهانةً صارخة بأحد أقدس هذه المبادئ: احترام وحدة أراضي الدول الأعضاء وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.

ولكن، ما يبدو أن النظام الجزائري لم يستوعبه بعد، أو ربما يتجاهله عن عمد، هو أن مثل هذه السياسات الطائشة والمراهنات الخاسرة لا تجرّ على أصحابها سوى الخيبة السياسية، والعزلة الدولية، وتبديد الفرص التنموية والاستراتيجية. ففي الوقت الذي يتسابق فيه العالم لسحب اعترافه بكيان الوهم الانفصالي، وتتوالى المواقف الدولية الداعمة بقوة لمغربية الصحراء، تصرّ الجزائر، بعناد غريب، على تسويق سردية بالية، مُهدرةً بذلك مقدرات شعبها الاقتصادية، ومُضيّعةً فرصاً تاريخية كان يمكن أن تجعل منها لاعباً محورياً مؤثراً في حوض المتوسط والقارة الأفريقية.

إن ما يمارسه النظام الجزائري من سياسات رعناء لا يُنتج إلا عزلة دولية خانقة، ونزيفاً داخلياً لمقدرات الأمة الجزائرية. فلأجل هذه القضية المفتعلة، التي لا ناقة للشعب الجزائري فيها ولا جمل، سخّر النظام كل أدوات الدولة وإمكانياتها: إعلاماً مُوجهاً لتزييف الحقائق، ودبلوماسية مُنهكة في الدفاع عن وهم ، وجيشاً يُستنزف في مهام لا طائل من ورائها، وأموالاً طائلة تُنتزع من خزانة شعب يئن تحت وطأة أزمات اقتصادية واجتماعية متراكمة. ففي بلد تتعثر فيه عجلة التنمية، وتتراجع فيه مساحات الحريات، تُدار الأولويات بمنطق أيديولوجي ضيق، لا يمتّ بصلة لمصالح المواطن الجزائري الحقيقية، بل يخدم إرادة سياسية مُتعنتة تُقامر بمستقبل البلاد والمنطقة برمتها من أجل تكريس كيانٍ لا مستقبل له.

وفي المقابل، يمضي المغرب، بثقة وهدوء استراتيجيين، نحو ترسيخ وحدته الترابية كاملة غير منقوصة، مدعوماً بموجة متصاعدة من الاعترافات والمواقف الدولية الحاسمة، وبتحركات دبلوماسية رزينة ومحسوبة، وباستثمارات تنموية ضخمة تُحوّل أقاليمه الجنوبية إلى منارات للتقدم والازدهار. إن سحب العديد من العديد من الدول اعترافها بالكيان الانفصالي، وقيامها بفتح قنصليات عامة في مدينتي العيون والداخلة، ليس إلا دليلاً ساطعاً وبرهاناً قاطعاً على عدالة الموقف المغربي وحتمية انتصار منطق الدولة والوحدة.

وهنا، تتقاطع الرؤية المصرية مع الموقف المغربي المبدئي في نقطة جوهرية: لا مكان للانفصال، ولا تسامح مع الإرهاب المُقنّع بأقنعة سياسية، ولا شرعية لأي كيان خارج حدود السيادة الوطنية للدول المعترف بها دولياً. فمصر، بثقلها ومكانتها لا يمكن أن تساوي نفسها بكيانات هجينة وُلدت من رحم الابتزاز السياسي والمناورات الإقليمية الرخيصة، ولن تتورط أبداً في ألعاب قذرة تُدار على حساب أمن واستقرار المنطقة وشعوبها.

إن ما جرى في « سلام شمال أفريقيا 3 » ليس مجرد انسحاب تكتيكي من مناورة عسكرية، بل هو إعلان أخلاقي وسياسي بامتياز، يؤكد للعالم أجمع أن الدول التي تحترم نفسها، وتحترم القانون الدولي، وتحرص على مصالح شعوبها، لا يمكن أن تبارك التزييف، ولا أن تُساير منطق المغامرات السياسية غير محسوبة العواقب. مصر، بهذا الموقف التاريخي وجهت صفعة سياسية مدوية للنظام الجزائري الذي يبدو أنه اختار

طواعية أن يعيش في عزلة فرضها على نفسه بإصراره على دعم كيانات وهمية لا وجود لها إلا في مخيلته.

وفي الختام، يبقى السؤال مطروحاً بإلحاح على النظام الحاكم في الجزائر: كم صفعة سياسية أخرى تحتاجون إليها لتستوعبوا أن منطق التآمر ودعم الانفصال قد ولّى زمنه إلى غير رجعة؟ وكم فرصة ثمينة يجب أن تُهدَر، وكم مليار دولار يجب أن يُبدَّد من ثروات الشعب الجزائري، قبل أن يُدرك هذا النظام أن وهم البوليساريو ليس سوى مشروع فشل ذريع، ومحاولة فرضه بالتدريس والمناورة لا يمنحه شرعية بل يصنع عزلة، يدفع ثمنها الباهظ شعبٌ بريء لا فائدة له في الرهان على ورقة خاسرة؟

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *