دفاعا عن مجانية التعليم العالي ضد الخوصصة الزاحفة..
الدكتور محمد حمزة أستاذ جامعي
إذا كان المدخل الوحيد والأوحد لخروج بلادنا من دائرة التخلف وربح رهان التنمية الشاملة يمر أساسا عبر ترسيخ مركزية العلم والمعرفة، فإن إعطاء الأهمية القصوى للتعليم العمومي كأولوية وطنية يعدّ شرطاً ضرورياً لأي مشروع تنموي حقيقي. إن استثمار الموارد والطاقات في تجويد التعليم العمومي وعصرنته، وتقوية حضور البحث العلمي في صلب إستراتيجيات التنمية، يمثل التزاماً استراتيجياً تجاه المستقبل.
فالتعليم، بوصفه خدمة عمومية، ينبغي أن يظل عمومياً ومجانياً، ضامناً لتكافؤ الفرص بين مختلف فئات المجتمع. ذلك أن ضمان التعليم الجيد والتكوين المستمر يدخل في إطار مسؤولية الدولة تجاه مواطنيها، باعتباره استثماراً في رأس المال البشري الذي يشكّل الركيزة الأساسية للتقدم والرفاه الجماعي.
إن التعليم ليس سلعة تجارية، بل ضرورة اجتماعية وإنسانية، وإتاحة التعليم للجميع عبر مجانيته في كل المستويات لا ينفصل عن تحقيق متطلبات الجودة المطلوبة. إذ لا يمكن الحديث عن جودة حقيقية في غياب الإنصاف في الولوج.، فالجودة ينبغي أن تكون شاملة ومتاحة للجميع، لا أن تتحول إلى ذريعة لتمييز طبقي بين أبناء الوطن، لأن بناء مجتمع الكفاءة والجدارة رهين بتكافؤ الفرص، لا بتفاوت الإمكانيات.
كما أن التعليم الجامعي يمثل مكوناً أساسياً في بناء المواطن، وأي تهميش له أو تقليص لمجانيته سينعكس سلباً على تكوين الفرد القادر على التفكير الحر والنقدي، والمتمسك بقيم الانتماء والهوية المنفتحة..
كما أن التعليم الجامعي يمثل مكوناً أساسياً في بناء المواطن، وأي تهميش له أو تقليص لمجانيته سينعكس سلباً على تكوين الفرد القادر على التفكير الحر والنقدي، والمتمسك بقيم الانتماء والهوية المنفتحة. فالمساس بالمجانية يشكّل مدخلاً إلى الإقصاء وإعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية، ويتعارض مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تؤكد على التعليم كحق أساسي للجميع
فلم يعد ممكنا تصور بناء مجتمع حديث من دون سياسة دولة أو سياسة مجتمعية بشأن التعليم العالي! لذا.. على الدولة أن تتحمل كامل مسؤولياتها وتبذل كامل جهدها من أجل تمكين هذا القطاع الحيوي من لعب دوره المركزي في تأهيل البلاد ومساعدتها على الإيفاء بمستلزمات التحديث والعصرنة والتنمية وولوج مجتمع المعرفة. فرفع اليد عن التعليم العمومي أو تحويله إلى قطاع خاضع لمنطق السوق، إنما هو تخلٍّ عن إحدى أهم وظائف الدولة الاجتماعية، وتهديد مباشر لمستقبل البلاد في مجتمع المعرفة.
إن التراجع عن المجانية وتشجيع تعليم جامعي مؤدى عنه وخاص او خاص أجنبي (في بلد مازال يعاني من مختلف مظاهر التخلف على جميع الأصعدة، وغياب الشفافية، وانعدام آليات المراقبة والمحاسبة، وهيمنة عقلية اقتصاد الريع)، لا يمكنه إلا أن يوجه الضربة القاضية للجامعة العمومية خدمة للأجندة الرامية إلى التخلص من المرافق الاجتماعية كالسكن والصحة والتعليم. والتشبث بالمجانية ينطلقـ من تأكيدنـا على أن وطننـا لا ينبغي أن يعمق أسباب التخلف، ولا نريده أن يتعارض ومتطلبات العصر العلمية والمعرفية القائمة على العنصر البشري.
كيف لسياسة تعليمية فشلت كميا ونوعيا في عدد الطلبة المسجلين في الجامعة العمومية في ظل المجانية النسبية، أن تحقق تقدما في هذا المجال وهي ترفع شعار التراجع أو التخلي عن المجانية؟
إن تمادي الدولة المغربية وإصرارها على رفع دعمها عن الخدمات والمرافق العمومية الأساسية، وفي مقدمتها التعليم، يُعدّ مؤشراً واضحاً على التحول التدريجي نحو منطق السوق في تدبير السياسات الاجتماعية. إن مشروع القانون الإطار للتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار، بما يتضمنه من إشارات إلى إرساء مقاربة تمويلية جديدة تُحمّل الأسر جزءاً من كلفة التكوين، يعكس غياب رؤية فلسفية وثقافية واضحة للعلم والمعرفة. فهو مشروع يغفل الأسس الجوهرية للجامعة العمومية المتمثلة في الاستقلالية، والديمقراطية الداخلية، والعدالة في الولوج، ويكرّس منطق السوق على حساب المرفق العام.
إن الخطر الأكبر اليوم يتمثل في دمج القطاع الخاص داخل المرفق العمومي نفسه، بما يشبه الخوصصة الزاحفة التي تُفقد الجامعة طابعها الاجتماعي، وتضعها على سكة السوق المفتوحة. كما أن فتح الباب أمام الجامعات الأجنبية يُنذر بتحويل النظام الجامعي المغربي إلى فضاء تجاري خالص، يخضع للمضاربات والتفاوتات في الكلفة والفرص، مما يرهن مستقبل الشباب والمجتمع المغربي ككل؛ وبالتالي يقصى الجزء الكبير من ابناء الشعب المغربي من الخدمة التعليمية ذات الجودة ليتحولوا الى مواطنين من الدرجة الثانية في مغرب اليوم والغد.
إن هذا التوجه نحو خصخصة وتسليع التعليم العالي، واستنبات مؤسسات مؤدى عنها أو أجنبية، يُعدّ انحرافاً عن التجارب الدولية الناجحة التي جعلت من الدعم العمومي رافعة للنهوض بالجامعة الوطنية، كما في بعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية.
خطورة ضرب المجانية تكمن أساسا في تهديد التماسك الاجتماعي وتفكيك التجانس القيمي للمجتمع المغربي، وهو ما من شأنه هدم مقومات الانتماء إلى المجموعة الوطنية واجتثاث جذور الحس الوطني، وتفكيك الروابط الجامعة بين فئات الشعب وفتح الباب أمام انقسامات طبقية تهدد وحدة الوطن واستقراره، وتغلق آفاق التنمية أمام أجياله المقبلة، وفتح مستقبل الأجيال القادمة على آفاق مظلمة..
