إنها مسؤوليتنا جميعا
د. خالد فتحي
مما لا شك فيه أن مخرجات المجلس الوزاري الأخير قد أثبتت مرة أخرى أن للمؤسسة الملكية أسلوبها الخاص والمختلف في التفاعل مع الأزمات….، أسلوب يستمد قوته من شرعية تاريخية راسخة، ومن تراكم التجربة واستيعاب صحيح لرهانات الداخل والخارج، في سياق وطني وإقليمي ودولي متقلب.
لقد برهنت المؤسسة الملكية، مرة أخرى، على قدرتها على تحويل لحظات التوتر المجتمعي إلى فرص للتجديد الخلاق، فهي لم تتجاهل المطالب الشبابية التي عبّرت عن نفسها في الشارع وفي الفضاء الرقمي، كما حاول البعض الترويج لذلك، بل تعاملت معها بعقلانية ورزانة وهدوء سياسي، وحوّلتها من موجة احتجاج إلى فرصة مواتية للإصلاح، ومن لحظة « غضب » إلى رافعة لتجديد فلسفة الدولة في الحكم.
القرارات التي خرج بها المجلس الوزاري، والمنعقد بعد عشرة أيام فقط من الخطاب الملكي في افتتاح البرلمان، هي أكبر، بهذا المفهوم، من ان تكون مجرّد استجابة ظرفية لضغط اجتماعي. إنها لتعبر عن خيار استراتيجي يؤطّر رؤية ملكية واضحة، لا تنفك تسعى بكل السبل إلى بناء دولة اجتماعية حديثة تضمن الكرامة لكل مواطن، وتربط المسؤولية بالمحاسبة، والسلطة بخدمة الصالح العام.
لقد رأينا جميعاً كيف تحولت الإشارات التي تضمنها الخطاب الملكي عند افتتاح السنة التشريعية إلى قرارات ملموسة ومرقمة في المجلس الوزاري، وهو ما يؤكد أن الملك يوجه الحكومة إلى ضرورة إبداع حلول من خارج الصندوق عوض تكرار تلك الوصفات التي جربت وثبت اخفاقها، والى اختيار طريق المأسسة بدل الانجرار إلى الشعبوية، وبالخصوص إلى تفضيل النهج المتدرج في معالجة الأزمات…. هذا النهجٌ الذي يحافظ على الأمن والاستقرار، وينصت لنبض المجتمع، ويسعى إلى تحقيق الممكن من المطالب الواقعية.
إنه في زمن عالمي مضطرب، يثبت المغرب مرة أخرى أن الإصلاح الهادئ القائم على الإصغاء والتدرج أكثر نجاعة من سياسات الانفعال وردود الفعل.
بهذا المعنى، يمكن القول إن الملك جعل من هذا المجلس الوزاري منعطفاً استراتيجياً في العلاقة بين الدولة والشباب. فقد بعث رسائل واضحة مفادها أن الاحتجاجات لم تمر دون صدى، وأن الدولة تمتلك من المرونة والقدرة ما يجعلها قادرة على التكيف والتقاط المطالب المشروعة وتوظيفها في خدمة الإصلاح الشامل. إنها مقاربة سياسية تراهن على تحويل الطاقة الاحتجاجية إلى قوة اقتراحية، وتجعل من التفاعل مع الشارع مدخلاً للتجديد والخلق لا للمواجهة والتصعيد.
وفي الجوهر، لم يكن المجلس الوزاري مجرد مناسبة لتدارس مشاريع قوانين حاسمة، بل شكّل خطاباً فعلياً موجهاً للشعب، بلغة القرارات لا الشعارات. لقد قال الملك بوضوح إن الشباب ليسوا مجرد متلقين للخطاب الرسمي، بل يجب ان ينظر لهم على أنهم فاعلون أساسيون في مشروع الدولة الوطنية الحديثة.
ومن هنا، تبرز الحاجة إلى أن تتحمل الأحزاب السياسية مسؤوليتها التاريخية. فهي مطالبة اليوم بمراجعة ذاتها بجرأة، واستعادة ثقة الشارع التي تآكلت بفعل التردد والجمود والعقم التنظيري والفكري. على الأحزاب أن تتصالح مع المجتمع وتتحرر من الخطاب الخشبي، وأن تتخلص من المفسدين الذين شوهوا صورتها وشلوا ارادتها، وأن تفتح أبوابها أمام الكفاءات الشابة لكي تتحول إلى قوة اقتراحية حقيقية قادرة على محاكاة احلام الشعب ومواكبة التحولات الكبرى التي يشهدها المغرب. وهذه مهمة القيادات الحزبية التي عليها ان تعطي القدوة، وأن تضع احزابها على سكة الإصلاح ، فالإصلاح يأتي من الأعلى كما أنه لا يكتمل إلا بوسائط سياسية قوية تستطيع ان تُترجم تطلعات المواطنين إلى برامج .
لكن المسؤولية لا تقع على الأحزاب وحدها، بل أيضاً على الشباب المحتج نفسه. فالمشاركة ليست تنازلاً عن المبدأ، بل هي أسمى أشكال المواطنة. والمرحلة تقتضي أن ينتقل هذا الجيل من الاحتجاج إلى المشاركة البناءة الواعية والمسؤولة، وأن يخوض معركة الإصلاح من داخل المؤسسات، لا من هوامش المقاطعة. فالمغرب اليوم في حاجة إلى جيل يشارك في صياغة السياسات، لا الى جيل يكتفي برفضها.
أما الحكومة والمؤسسات المنتخبة، فهي مطالبة بأن تترجم مضامين القرارات الملكية إلى سياسات عمومية ملموسة يشعر المواطن بأثرها في حياته اليومية. فالإصلاح لا قيمة له إن لم يتحول إلى تعليم جيد، وصحة في المتناول، وفرص شغل تحفظ الكرامة وماء الوجه.
عليها ان تعي ان الشباب المغربي لا يطالبها بمعجزات بل بفرص. انه يريد مكانا في السياسات العمومية، في المدرسة والجامعة وسوق الشغل وفي مراكز القرار. والمطلوب منها ان تهيئ له كل هذه المسارات ليصبح شريكا في صناعة هذه السياسات لا مستهلكا لها فقط.
لقد كان التوجيه الملكي واضحاً خلال هذا المجلس الوزاري في اتجاه تعزيز المأسسة وتقوية الدولة الاجتماعية، عبر مقاربة متوازنة تجمع بين الإصغاء الشعبي والقرار المسؤول. إنها دعوة صريحة إلى تجاوز زمن الخطابات إلى زمن الأفعال، وإلى تحويل الثقة التي يمنحها المواطن إلى نتائج ملموسة تعزز اللحمة الوطنية وتعيد الاعتبار للمجال العام.
إن المغرب يدخل اليوم مرحلة جديدة عنوانها التفاعل الخلاق بين الدولة والمجتمع. مرحلة تُعيد ترتيب العلاقة بينهما على أساس الشراكة والثقة، وتجعل من الشباب محوراً لكل سياسة عمومية، فهم عماد التنمية وذخر المستقبل وأمل الأمة.
انه بين منطق الاحتجاج ومنطق الإصلاح، اختار المغرب طريق التجديد من داخل المؤسسات، عبر إصلاح معقلن عميق المرامي، يرسخ الاستقرار ويضمن الكرامة ويصنع النهضة المنشودة.
بهذه الروح، تبدو المؤسسة الملكية في موقع من يصغي، ويبادر، ويقود، ويوظف الدينامية المجتمعية لتطوير حلول واقعية وفعالة. وهي بذلك تؤكد مرة أخرى أن الإصلاح في المغرب ليس استجابة ظرفية، بل هو مسار متجدد مستمر في الزمن يستمد شرعيته من قدرته على الإصغاء للمجتمع والتفاعل معه، ضمن رؤية تؤمن بأن الاستقرار الحقيقي لا يقوم إلا على العدل في كل صوره، وبأن الكرامة الحقيقية لا تتحقق إلا بالمشاركة….مشاركة الجميع وخصوصا فئة الشباب .
