الورقة الثانية: من ظلال الذاكرة إلى مرثية الوقت

الورقة الثانية: من ظلال الذاكرة إلى مرثية الوقت
شارك

ذ/ المختار عنقا الادريسي

طنجة. المملكة المغربية

  هو ذا العمر يمضي بنا، فتصير الذاكرة أكثر اتقادا، حضورا … من الحاضر نفسه. ومعه فإن الوقت يضحى نسمة لا ُتُمسك وكأنها ظل يتجدد.

حين نحاول احتواءه. فلا شيء أكثر غموضا منك أيها الزمن، وأنت تنفلت منا ونلتفت وراءنا فنكتشف  » أننا هرمنا  » دون أن نشعر بثقل السنين، وأن ما بين البدايات والنهايات لم يكن هناك سوى عبور خافت، محفوف بالألم والأمل، بالتعب والراحة، بالخذلان والمحبة … وباقي الثنائيات المتتالية.

فنحن أبناء اللحظات الهاربة، المنفلتة. نحاول جاهدين أن نزرع في رمل الشواطئ ذاكرة لا تُمحى صورها، شظاياها، فنستيقظ على:

 وجوه غابت منذ زمان بعيد / قريب.

أصوات كنا نظنها انطفأت، لكنها تعود إلينا متسللة من كل المحاصرات والمراقبة الاستخباراتية.

فتتيه فيها بوابات الفهم الأعمق والأحق، ويبقى ذاك الحنين ليس ضعفا أو احتراقا بقدر ما هو دليل على استمرارية الحياة، وأن صور المخيال، الاسترجاع، الكلام …لن يعيد أو يغير أي شيء، وأن الفهم الأحق لا ولن يحتاج إلى أي ضجيج. فنقتنع حينئذ بأن الهدوء، التأمل، السكينة … هي أبلغ من كل الخطابات الزائفة في زمن تلاشت فيه الصراحة، وأُدْخِلَ الكلام، الاحتجاج، الرفض … في معطف المتابعات التي تهدد كل الرافضين والرافضات.

فالزمن لا ولن ينتظر أي منا، لأنه الوحيد الذي لا يشرح الدرس مرتين، والجرس الذي يَرِنُّ في آخر كل حصة معلنا نهاية كل شيء، بما في ذلك الأخوة، الشغف، الحب، الصداقة … فنصبح – ونحن في خريفية العمر – أكثر وعيا وادراكا، أن ما تبقى هو أثمن من كل ما مضى، لأنه لم يعد لنا أي وقت للمجادلة، التسابق، البحث عن الانتصارات. بعد أن أضحى وقتا للسلام، التصالح مع الذوات ومع كل ما تبقى. وعندئذ يصبح حليفا طبيعيا للحكمة، ويغدو أكثر بلاغة من أي كلام. فكل دقيقة نعيشها بصدق هي بمثابة عمر آخر، وكل ذكرى نختزنها بوداعة، تعيد ترتيب أحلامنا، طموحاتنا، قلوبنا المنهكة خاصة وأنَّا نفهم الذاكرة على أنها ليست خزانا للماضي، بل هي مرتع خصب للأحداث التي مرت بنا، للأرواح التي غادرتنا تاركة عطرها، أثرها فينا. فنجد أنفسنا أحيانا نبتسم لذكرى صغيرة، لحدث عابر، لرائحة افتقدناها، لطعم تذكرناه … وكأننا نحاول أن نتلمس من خلال كل ذلك معنى الحياة، حين كانت أكثر: بساطة، دفئا، جمالا، روعة … فكل ما مضى يترك في القلب وشما لا يمحى.

لكن خريف العمر لا يرحم الذاكرة المشروخة، إذ يتسرب منها الضوء كما يتسرب الرمل من بين الأصابع، فنحاول الإمساك بالوجوه، الأصوات، التفاصيل …

لكنها تذوب في صمت بين ردهات الزمن، تاركة خلفها إحساسا بالفقد الجميل، ذلك الفقد الذي يوجع، ويذكرنا بأننا عشناها بعمق، لا تكتفي الذاكرة باسترجاعه، بل تعيد تشكيله كما تشاء الأرواح الناضجة. فما كنا نراه أو نحسه ألما، أضحى اليوم ضرورة. وما كنا نعده خسارة أو فقدا، هو – الان – خطوة نحو نضج أكبر وأعمق

وأسمى بالذكريات على حد تعبير الأديب البرازيلي  » باولو كويلر  » مؤلف الخميائي، الذي يرى بأنها لا تموت، إنها فقط تنتظر أن نصالحها، ويقول 【 الماضي والمستقبل موجودان فقط في ذاكرتنا. اللحظة الحاضرة خارج الزمان إنها الأبدية. وليس ما فعلته في الماضي هو ما يؤثر على الحاضر، بل ما تفعله الآن هو الذي يوفِّي بالماضي ويغير المستقبل 】. فنكون بذلك مجبرين على التصالح مع ذكرياتنا لنخفف من عبء الزمن، لأن الحنين لا يعود بنا إلى الوراء بقدر ما يعيد ترميم أرواحنا المتعبة، ليجعلنا قادرين على استقبال ما تبقى من العمر بطمأنينة القلب الذي غفر للماضي زلاته وفهم معناه في أبعد صورها.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *