التفقير والإفساد من سيميائية الأهواء إلى سوسيولوجيا الدولة الرخوة (أو من مسيرة التدبير المفوض إلى المسار الديمقراطي المستدام)

التفقير والإفساد من سيميائية الأهواء إلى سوسيولوجيا الدولة الرخوة (أو من مسيرة التدبير المفوض إلى المسار الديمقراطي المستدام)
شارك

مصطفى المنوزي

رئيس أكاديمية الحكامة التشريعية والأمن القضائي

 تكشف العلاقة الملتبسة بين التفقير والإفساد عن دينامية خفية تعيد تشكيل بنية الدولة من الداخل، حيث تتحوّل أهواء فردية، بما تحمله من نزعات التبرير والتسويغ، إلى علامات سيميائية تنتج أنماطًا من السلوك العام تُسهِم في تطبيع الأعطاب بدل مقاومتها. ومع مرور الوقت، يتجاوز الأمر مستوى الانحراف الأخلاقي ليأخذ شكل آليات منتظمة تشرعن التفقير المعرفي وتحوّله إلى مسار للتقهقر التربوي، موازٍ لتمأسس الفساد بوصفه استراتيجية للإفساد لا مجرد ممارسة عارضة ؛ وفي هذا السياق، تغدو الدولة نفسها حقلًا لإعادة إنتاج هذه الأعطاب؛ إذ تنصهر عمليات التجهيل مع منطق الغنيمة، ويتحوّل ضعف الرقابة وتماهي المسؤوليات إلى بنية تُفرز ما يمكن تسميته بـسوسيولوجيا الدولة الرخوة: دولة تتآكل فيها الشرعية من الداخل، وتتراجع فيها قدرة المؤسسات على الضبط والتوجيه، وتُستبدَل فيها المساءلة القانونية بتدبير ظرفي قائم على التسويات وتبادل المنافع.

إن أغلب الاختلالات التي تشوب العلاقة بين المؤسسات والسلطات تعود أساسًا إلى خصاص أخلاقي وعوز إتيقي يوازيهما تراخٍ قانوني مزمن. وقد تحوّلت هذه الأعطاب، بفعل التراكم، من نتائج هامشية إلى أسباب بنيوية تعيد إنتاج العطب داخل النسق نفسه. ولم يعد الوضع يتحمّل الاكتفاء بالوساطة أو آليات الحكامة التقنية، لأن نزيف الشرعية والفعالية لن يتوقف إلا عبر مساءلة قانونية حقيقية تعيد ضبط الحدود بين الصلاحيات والمسؤوليات. فالأمر لم يعد يتعلق فقط بأزمة ثقة، بل بات يطرح سؤال المصداقية والنزاهة نفسه بقوة. ولم نعد أمام مجرد معاينة لوقائع الفساد، بل أمام تطبيعٍ كامل معه، بلغ حدّ تحويله إلى سياسة غير معلنة وإلى خيار يؤطّر العلاقات والتعاقدات ويحوّل الفساد إلى استراتيجيا للإفساد. وتزداد حِدّة المشهد حين يتقاطع هذا التطبيع مع الفقر المعرفي الذي تحوّل إلى مسلسل للتفقير التربوي، بما يجعله مماثلًا للفساد في طبيعته ونتائجه. فكما أن الفساد ينتج الإفساد، فإن التفقير ينتج التجهيل، ومعهما معًا تتسع دوائر الضعف المؤسساتي. وهكذا نصل إلى الخلاصة المركزية: نحن إزاء استشراء مؤشرات الدولة الرخوة؛ دولة تُعيد إنتاج الأعطاب الأخلاقية والمعرفية في شكل سياسات فعلية، تذوب فيها الحدود بين الصلاحيات والمسؤوليات، ويتقدم فيها منطق التسويات على منطق القانون، ويحل فيها الإضعاف محل الضبط، وتتراجع فيها القدرة على الحكم باسم الشرعية لتغدو الشرعية نفسها موضع سؤال. ولهذا فإن تفكيك ديناميات التفقير والإفساد، بما تحمله من سيميائيات للأهواء وبُنى للرّخاوة، يقودنا إلى حقيقة لا يمكن القفز عليها: لا مجال لاستعادة الدولة لفاعليتها ولا لمؤسساتها لهيبتها من دون العودة إلى المفهوم الحديث للعدالة باعتبارها مؤسسة، لا مجرد جهاز أو أداة تقنية. فالمؤسسة القضائية، في معناها الحديث، ليست فضاءً للبتّ في النزاعات فقط، بل هي حاضنة للشرعية ومولّدة للثقة ومُنظِّمة للعقد الاجتماعي. غير أن هذا الاحتكام لن يكون مجديًا ما لم يُصَحَّح المناخ الذي تعمل فيه العدالة، وذلك عبر تأهيل مطلب الأمن القانوني والأمن القضائي. فالأول يضمن وضوح القواعد واستقرارها وقابليتها للتوقع، ويحرّر الفعل العمومي من هوى التأويلات المزاجية ومنطق التسويات. أما الثاني فيضمن استقلال القضاء وفعاليته، ويحول دون تحويل القانون إلى أداة تقنية في يد السلطة، أو إلى مجال مفتوح للاجتهاد اللامسؤول.

إن مواجهة الدولة الرخوة لا تتم بالشعارات أو بدعاوى الإصلاح الظرفي، بل بإرساء عدالةٍ قادرة على تجفيف منابع الإفساد، العطب يعيد إنتاج نفسه مهما تغيّرت الواجهات. وبذلك يغدو تأهيل الأمن القانوني والقضائي ليس خيارًا إداريًا أو تقنيًا، بل شرطًا وجوديًا لاستعادة الدولة وقطع حلقات التفقير التربوي، وإعادة بناء التوازن بين السلطة والمسؤولية. فمن دون عدالة مؤسَّسة، مستقلة، وآمنة في قواعد اشتغالها، سيبقى سؤال الشرعية معلّقًا، وسيظل لقوتها، وللمجتمع لثقته، وللمؤسسات لجدواها ، في أفق إعادة صياغة جودة التعاقد الاجتماعي؛  ولعل تكثيف استدعاء مطلب استقلال السلطة القضائية لَشرط لِضمان  فعلية ونجاعة تحقيق مبدأ فصل السلط الدستوري وذلك بترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب مقابل تكريس مبدأ عدم التعسف في استعمال السلطة أو الحق  أو القانون ، ولتظل الاحلام والرهان و الآمال معلقة على هيئة عليا للقضاء الإداري ، تتجاوز مجرد غرفة في محكمة النقض إلى مجلس للدولة .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *