هندسة الخضوع: الإنسان المروّض بين فرانكفورت والمخزن
بقلم: ذ محمد السميري
يحظى التحوّل الجذري الذي عرفه المجتمع الغربي خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين باهتمام بالغ في الفكر النقدي، ليس فقط لأنه يمثل انتقالاً من أنماط كلاسيكية للهيمنة إلى أنماط جديدة أكثر نعومة وخفاء، بل لأن هذا التحول أعاد تشكيل الإنسان ذاته بوصفه كائناً إدراكياً ونفسياً وثقافياً، مما جعل فهم آليات السيطرة يتجاوز الاقتصاد والسياسة إلى البنى المتخفية داخل الذات. وقد كانت مدرسة فرانكفورت، منذ نشأتها، الأكثر جرأة في اقتحام هذا الحقل المعقّد، إذ لم تتردد في نقد الحداثة الغربية من الداخل، وتفكيك مفهوم العقل نفسه، وتعقب أثر الصناعة والإعلام والتكنولوجيا على تكوين الإنسان وقدرته على التفكير والخيال والتجاوز¹. ومع ماركوز، وعمله المركزي «الإنسان ذو البعد الواحد»، بلغ هذا النقد مستوى جديداً من العمق، حيث لم يعد يتعلق فقط بسلطة الدولة أو رأس المال أو الأيديولوجيا، بل بعملية تصنيع للوعي تجعل الإنسان قابلاً للواقع، مندمجاً فيه إلى درجة فقدان القدرة على تخيل بدائل ممكنة².
إن الإنسان المعاصر، وفق هذا التحليل، لم يعد كائناً يملك مقدرة على التفكير الحر ولا طاقة على الرفض، بل أصبح مندمجاً في النظام إلى حد التماهي، مستسلماً لإغراءاته، مقتنعاً بضروراته، متوهماً أنه يختار وهو في الحقيقة يُختار له، ويقرر وهو في الواقع منفّذ لقرارات صاغتها قوى أعلى منه بنيوياً². وإذا كانت الماركسية الكلاسيكية قد توقعت أن يؤدي اتساع الصناعة وزيادة الوعي الطبقي إلى ثورة تقلب النظام، فإن ما حدث هو العكس تماماً: الطبقة العاملة تحوّلت إلى طبقة مستهلكة، وبهذا الانتقال تغيّر موقعها التاريخي، ولم تعد هي «النفي الحيّ» للنظام الرأسمالي، بل أحد أعمدته². لقد نجحت الرأسمالية الصناعية ثم الرقمية في تحويل العمل ذاته إلى مصدر اندماج، وجعلت الأجير يجد ذاته أكثر فيما يشتريه مما في ما يفكر فيه، وفي ما يستهلكه أكثر مما في ما ينتجه².
وهنا يتضح أن نقد ماركوز يتجاوز المستوى الاقتصادي إلى المستوى الثقافي والنفسي، إذ يبيّن أن النظام لم يعد يعتمد على القمع المادي وحده، بل على خلق حاجات جديدة، وصياغة رغبات مُصنّعة، وإغراق الإنسان في عالم من اللذات الصغيرة التي تجعل الوجود قابلاً للتحمل حتى في أكثر صوره اغتراباً². هذا « التطبيع » مع الواقع هو جوهر مفهوم البعد الواحد: الإنسان لا يعود قادراً على رؤية العالم إلا من خلال قنوات محددة، ولا يستطيع تخيل بديل إلا من داخل النظام، ولا ينتج أفكاره إلا بحدود اللغة التي صيغت له مسبقاً². كل ما هو نقدي يُعاد إدماجه، وكل ما هو رافض يُحتوى، وكل ما هو مستقل يُمحى أو يُشوَّه². حتى الاحتجاج يصبح « منتجاً » قابلاً للاستهلاك، كما حدث في كثير من الحركات الاجتماعية التي سرعان ما يتم احتواؤها وتحويلها إلى موضة سياسية أو علامة تجارية².
وإذا كان هذا هو حال المجتمعات الصناعية الغربية، فإن الأمر يبدو للوهلة الأولى غير قابل للإسقاط على المجتمعات العربية التي لا تزال تعاني من مشاكل مختلفة: ضعف التصنيع، هشاشة الطبقات الاجتماعية، محدودية المؤسسات الديمقراطية، وانتشار الفقر. غير أن التحليل العميق يُظهر أن بنية الهيمنة تتخذ أشكالاً متعددة، وأن الأنظمة العربية طوّرت بدورها آليات خاصة لإنتاج إنسان مروَّض، عبر خليط معقّد يجمع بين الإلهاء الاستهلاكي، والتجويع الاقتصادي، ورمزية السلطة، وتفكيك الروابط الاجتماعية الكفيلة بإنتاج الوعي³.
ففي المغرب، على سبيل المثال، يتجلى هذا عبر بنية المخزن التي لا تشتغل فقط كجهاز سياسي، بل كمنظومة ثقافية ونفسية تمتد داخل الحياة اليومية، عبر شبكات الزبونية، وأساليب الإدارة المعيشية، وإعادة إنتاج التراتبية الاجتماعية⁴. إن ما اكتشفه ماركوز في المجتمع الصناعي نجده هنا ولكن في صيغة هجينة: الإنسان المغربي ليس مجرد مستهلك لمنتجات الرأسمالية، بل هو في الآن نفسه كائن هش اقتصادياً، مثقل بالهموم اليومية، غارق في صراع البقاء⁴. وإذا كان العامل الغربي قد تم تدجينه عبر الامتيازات والراحة المادية، فإن الإنسان في السياق المغربي يُدجَّن في كثير من الأحيان عبر استراتيجيات التجويع، أو الضغط المعيشي، أو غياب الأفق الاقتصادي⁵. وهذا ما يجعل قابلية الخضوع أكبر، لأن الحاجة البيولوجية تصبح حاجزاً أمام الوعي السياسي⁵.
وقد وفّرت الأدبيات المعاصرة حول “سياسات التجويع” تحليلاً دقيقاً لهذا النموذج من السلطة⁵. فمقال “تجويع وليست مجاعة” يبين كيف يتحول الحرمان الغذائي إلى أداة للسيطرة السياسية⁵. وعند إسقاط هذه الأفكار على المغرب، تتضح ملامح بنية هيمنة تقوم على جعل المواطن مشغولاً بمعيشته اليومية إلى حد منعه من بلورة وعي اجتماعي نقدي⁵، وهذا ما يجعل الاستبداد ناعماً، غير ظاهر، لأنه يبدأ من مستوى الحياة المادية وينتهي عند مستوى الوعي⁵.
كما يقدم فيلم Fight Club (1999، إخراج ديفيد فينشر، عن رواية تشاك بولانيك) تمثيلاً بصرياً واضحاً لأفكار هربرت ماركوز حول الاستهلاك والتشييء. يظهر الفيلم موظفاً يعرف ذاته من خلال امتلاكه للسلع والعلامات التجارية، ويعاني من انفصال عميق عن ذاته، مما يولّد شعوراً بالفراغ والاغتراب. كما يُظهر حاجة مكبوتة إلى العنف كوسيلة للهروب من هذا الفراغ الاستهلاكي. شخصية « تايلر ديردن » تمثّل تجسيداً سينمائياً لنقد ماركوز؛ فهي تمثل الثورة على الإنسان ذو البعد الواحد عبر تدمير الرموز المالية والرأسمالية. غير أن نهاية الفيلم تكشف عن مفارقة: حتى الثورة قد تتحوّل بدورها إلى شكل من أشكال السيطرة الشمولية، وهو ما يؤكّد تحذير ماركوز من قدرة النظام على احتواء كل أشكال المعارضة وتحويلها إلى أداة لإعادة إنتاج ذاته⁶.
يمكن إضافة بعد عالمي آخر: تشير الدراسات التاريخية إلى أن التجويع يمكن أن يُستعمل فعلياً لترويض الشعوب وإخضاعها سياسياً. ففي مجاعة البنغال 1943، توضح مادهوشري موكرجي أن السياسات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية تركت ملايين الهنود دون طعام، وهو ما كان بمثابة وسيلة ضغط سياسية للحفاظ على السيطرة الإمبراطورية⁷.
إن هذه الدراسة، عبر تتبعها لمنظومة الهيمنة في الغرب من خلال مدرسة فرانكفورت، ثم إسقاطها على السياق المغربي والعربي، تكشف أن الإنسان المعاصر يعيش تحت نمط مزدوج من السيطرة: نمط يعتمد على الإغراء، ونمط يعتمد على الإفقار. كلاهما يؤدي إلى النتيجة نفسها: إنسان مروّض، فاقد للخيال السياسي، غير قادر على إنتاج وعي نقدي. لكن وعياً من هذا النوع يمكن له، إذا تبلور، أن يفتح الباب أمام تحول تاريخي جديد، يعيد للإنسان أبعاده المتعددة، ويعيد للمجتمع قدرته على إعادة بناء ذاته.
______________
هوامش
- ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، جدل التنوير: الفكر البرجوازي ونقد المجتمع الصناعي، ترجمة حجاج أبو جبر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2016.
- هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد: دراسة في أيديولوجيا المجتمع الصناعي المتقدم، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت: دار الآداب، 1988.
- غي ديبور، مجتمع الفرجة، ترجمة أحمد حسان، بيروت: دار الطليعة، 1999.
- عبد الله حمودي، الشيخ والمريد: الأنظمة الرمزية لسلطة المخزن، الدار البيضاء: إفريقيا الشرق، 2005.
- تجويع وليست مجاعة، « زوايا »، 05 أغسطس 2025،
- تحليل فقرة فيلم Fight Club، استناداً إلى: هربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد.
