سم العقرب الأسود
عبد العزيز شبراط
لم يكن سليمان أصلا من الأكابر، ولكنه استطاع أن يملك مالا كثيرا، مجهول الاصل والمصدر، حوله فجأة من عامة القوم الى مصاف سادتهم، حتى الدولة لم تسأله يوما من أين جاء به، وتزوج الثانية ثم الثالثة، واقتنى أرضا شاسعة بجوار العاصة الاقتصادية، فبنى على جزء منها قصرا فخما يليق بالأكابر، وترك الباقي للأشجار المثمرة والمظللة، وكسى مجموع الارض بالعشب من النوع الغالي المستورد، كما بنى مسبحين ضخمين، أحدهما للكبار والآخر للصغار، واستورد لأرضيتهما والجوانب الداخلية رخاما أزرقا ثمينا من ايطاليا، لكن حينما يستقبل البيت بعض العائلات ضيوفا دفعة واحدة، تكون مواقيت استعمال المسبحين مقسمة بين الذكور والاناث، يستحيل أن يلتقيا معا، لا بالنسبة للكبار ولا حتى الصغار، ولكن الاسبقية كانت دائما للذكور، كان يشعر بمتعة خاصة عندما يغيب الضيوف، ويبقى وزيجاته فقط، فكان يحب أن يلج المسبح بصحبتهن جميعا أو فقط مع من يختارها أو يختارهن حسب مزاجه، ولا أحد يمكنه التواجد خارج البيت حينها من الشغالين، كان في منتصف عقده الرابع، بجثة ضخمة تعلوها رأسا مستطيلة بشعر أشعت مفتول كحبات الفلفل الحار، وجبين عريض يحكي تفاصيل حيل فريدة لا تملكها حتى الثعالب الاكثر مكرا، وله أنف ذي أرنبة مسطحة حمراء كأنف الخنزير، بدون شاربين وبلحية طويلة بلون القش، تغطي رقبته القصيرة التي تنبث بين كتفين عريضين منتفخين بدون تناسق، وفم كبير بأسنان صفراء لم يلمسها معجونا منذ خروجها من فكين غير متوازيين، وكان له قدمين ضخمتين لا قياس لهما، إذ كان البحث عن نعل جديد يشكل له عقدة، لم يستطع اتمام تعليمه، فقط كان يعرف ترتيب الحروف وانشاء بعض الكلمات لتدوين الاسماء ورسم الارقام للعد أو الترتيب، كان يحب أن يناديه القوم ب » الحاج » وكان يشعر بافتخار كبير حينما تقبل النساء الأرامل والمطلقات يديه لما يقصدنه للمعونة، التي لم يكن يوزعها بشكل عشوائي بقدر ما كان يوزعها للأقارب والمعارف قبل غيرهم، راجيا من وراء ذلك غسل الذنوب، وطمعا في الحصول على الفردوس وحور العين.
سكنه الغرور وتملكه، حتى أصبح يعتقد وكأن الشمس لا تشرق الا إرضاء له ولأمثاله، وأن المطر يهطل فقط لسقي أرضه وأرض أمثاله، وكانت أصابعه الضخمة دائما ما تلاعب سبحته بلا توقف، والتي يخبر كل من يسأله عن أصلها، أنها مرجان أصلي حصل عليها من غطاس شرقي، وكان يتفاخر بها، ظنا منه، أنها تساعده للتقرب الى الله، رغم أنه يلعب بها أكثر مما يسبح.
كان كلما أطل برأسه الضخم من قصره الفخم، يتملكه الغضب، ويشعر بالتقزز، من تواجد بيت جاره أبو أحمد أمامه مباشرة، بيت متواضع بدون طوابق، له ساحة صغيرة مساحتها أصغر من مسبحه الصغير، وزريبة تنام فيها بعض الشياه والخرفان، وبئر مفتوحة على الهواء، أمام صهريج صغير لمورد بهيمته، وتحت شجرة الكاليبتوس جوار البئر، يربط حصانا أسودا بقوائم خلفية مستقيمة، قوية العضلات، صلبة العظام، متناسقة الاعضاء، خالية من الاورام والجروح، وله عرف طويل مسترسل، أسود حالك كشعر العازبات، كما شعر الناصية والذنب، وحينما يتحرك يرفع ذيله عاليا لينساب سبيبه كالحرير،؛ أما الرأس فكان صغيرا، مستقيم الاذنين، رحب الجبهة، واسع الشدق، كبير العينين، يسر الناظرين، كما كان قليل الوبر؛ أملس الجلد، ناعم الشعر، وصافي اللون، إنه حصان عربي أصيل، يعتبره با احمد رمزا لكينونته وكيانه، وكان يشعر بفخر كبير حينما يمتطي ظهره.
وكم عانى سليمان من أجل اقناع با احمد ليبيعه الارض والبيت، فيتخلص من هذا الشؤم بنظره ويرتاح، لكن با احمد كان يرفض دائما، ويردد على مسامعه، أنه لن يبيع ارضه مهما يكن ومهما يحدث، فهي سبب وجوده، وبرائحة ترابها يحيا، وفيها كانت صرخته الاولى وفيها تنفس الهواء أول مرة، وما يزال وسطها يتعلم اسرار الحياة عبر حجرها وترابها وأشجارها وقشها، ولا يتوانى أن يردد دائما أنها القطعة الوحيدة من هذه الدنيا التي لا زال يشم فيها رائحة أبويه، هي وحدها تشعره بالانتماء الى هذه الدنيا، فبيعها يعني التخلي عن كرامته وزواله، كان با احمد طويل القامة، مستقيم الظهر رغم أنه تجاوز منتصف عقده السادس، كان دائما يصر على ارتداء لباس تقليدية أنيقة، وكان له وجه مربع يشع منه النور، بلحية طويلة بيضاء متناسقة؛ يعلوها شاربين متوسطين، يظهران كأنهما وضعتا عليهما بأناقة، وحينما يركب حصانه كان يبدو كأنه شيخ جاء توا من عهد الفتوحات، ولكن ملامحه كانت توحي أنه قنوعا وفخورا بمكتسباته، وبما رزقه الله، كان يؤمن أن ذلك هبة من السماء يحمد الله عليها، وكان مرتاحا في حياته المعيشية، راضيا على زوجته التي خلف منها بنت وولد، فالبنت تزوجت بمهاجر وهي تعيش عيشة سعيدة وهادئة الى جانب زوجها وأبنائها بإحدى دول أمريكا اللاتينية، بينما الولد وهبه الله درجة عالية من علم التكنولوجيا الحديثة، وهو ما مكنه من الاشتغال بإحدى الشركات العملاقة بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث تزوج هناك احدى الصينيات العاملات معه، ورزق معها بطفلين ؛ فاستقر هناك ولا يزور أباه الا نادرا؛ فكان با احمد هادئا ولا ينتظر اكثر مما وهبه الله وقدر له؛ لكن مسكنه كان بمثابة مسمار في قدم سليمان يؤلمه في كل خطوة يخطوها، كان سليمان يقسم بأغلظ الايمان لأصدقائه، انه لن يرتاح الا بعد قطع مسمار » الكيف » هذا الذي يفاجئه مرارا بوخز مؤلم في قدمه من حين لأخر، ويعكر عليه متعة الحياة باستمرار، سيما حينما يتساءل عنه ضيوفه عند زيارتهم لبيته الفخم، وكان كلما استشاط غضبا من هذا الوضع يردد: » آه لو تواجد خلفي هذا الكوخ الطيني الرديء لما شكل لي أي إحراج ».
لم يكن هذا الصباح مناسبا ليزور ورشته، كانت الريح الجنوبية حارة وتهدد فروع الاشجار بالسقوط، وتسقط ثمار بعضها، في ما كانت الشمس تشرق وكأنها محتشمة بأشعة باهته، وكأنها تعاقب تلك الريح العاتية التي تعاكسها، لكنه بعد تردد، شجعته زوجته الاولى على الذهاب، هي الوحيدة من بين زيجاته الثلاث، التي كان لا يرد كلامها أو يغضبها بخلاف الأخريات، كانت تبدو سيدة وقورة، مغطاة الرأس والرقبة؛ بوجه مدور خال من مساحيق التجميل، لها عينان صغيرتان وانف ناقص طوله، تضع على جسدها لباسا شرقيا أسودا، يكسو ذراعيها ويستثني يديها، اللتان تحملان من التجاعيد، أكثر مما تحمله أيادي من هن في عمرها، ويتدلى ذاك القماش الحريري الناعم على قدميها ويخفيهما على الناظرين أما الزيجات الأخريات فما زلن في بداية العمر، اكبرهما لم تتجاوز بعد عقدها الثاني، فيما ستتم الصغرى سنتها السابعة عشرة صيف هذا العام، إنهن ما زلن صغيرات ولا تعرفن شيئا عن متاهات ودروب وسراديب وأمور هذه الدنيا، إلا ما تعلمنه من سليمان في الفراش، لم يكن لهن أي رأي حول ما يدور ويحدث في هذا البيت ذو الثلاثة طوابق والمتعدد الغرف والحمامات؛ حتى أشغال البيت من طبخ وترتيب تنجزها خادمتين، وأشغال الحديقة والمسبحين والحراسة، يقوم بها زوج احدى الخادمتين، كان يحب السياقة ولا يحبذ أن يقود به أحد.
ركب سيارته الفخمة رباعية الدفع، وسار نحو ورشته، كان يقود بعنف كما يعامل الكادحين الذين يشغلهم معه، فمعظمهم أطفال قاصرين، غادروا المدرسة مبكرا والتحقوا بهذه الورشة لمساعدة الآباء على متاعب الحياة، ألف أن لا يقبل بهؤلاء الاطفال الا بعد أن يستلطفه بشأنهم آباؤهم ويعتقد الآباء، أن سليمان رجل طيب ويشغل أطفالهم فقط تعاطفا معهم، اعتادت خادمة المكتب أن تحضر له فنجان قهوة مباشرة بعد جلوسه على كرسيه الهزاز، يتناول القهوة دون سكر برشفات سريعة كعادته، ثم يشرب قرصين من دواء ضغط الدم بكأس كبيرة من الماء المعدني الطبيعي، ويتبعهما بقرص آخر لمرض السكري، ثم يبدأ يتأرجح على كرسيه وسبابته تعد حبات سبحته، التي لا تفارقه ولا يثق في أي أحد سواها، ولم يبال بالريح الجنوبية الحارة التي لم تهدأ بعد، وهي تلسع وجهه كلسعات اليعسوب، أو إبر الشيطان، كان مستقبل ثروته بعد مماته هو ما يشغل باله، كلما جلس على هذا الكرسي الهزاز، « لمن ستؤول هذه الثروة التي عانيت وضحيت بروحي من أجلها، ولم يرزقن الله بالبنين » يتسأل مع ذاته؛ وهو غارق في التفكير مع معاناته وهاجس ثروته، وقف أمامه صديقا من طينته، سلم عليه واتخذ له مكانا بجانبه، لم يمهله وقتا للراحة حتى فاجأه، » هل تستطيع تفسير منام يتكرر عندي مرارا؟ » قال سائلا »؛ فرد عليه صديقه: « تفضل لقد خبرت هذا منذ ما يزيد عن عشرين سنة »؛ اسمع يا أخي؛ » إنني أرى عقربا أسودا يلدغني كل مرة من ابهام قدمي ثم يموت، لقد حيرني هذا الحلم، وشكل لي عقدة دائمة لا تفارقني »، أجاب صديقه: صديقي سليمان، العقرب الاسود أو سمه في المنام، يشير الى مال ينفق في الفتنة، أو مال حرام من الممنوعات أو التهريب أو تجارة مشبوهة، ورؤية موت العقرب دليل على فقدان المال وخسارته، ولكن لا تأخذ هذا التفسير مأخذ الجد، هو مجرد تفسير، لا صلة له بالواقع، لكن هذا الجواب أخرس سليمان، فتغير وجهه وأتخذ لون الكركم الصناعي، وشلت حركاته ولم يعد يقو على الكلام، وظل شاردا قبل ان يقول: » والله يا أخي لقد تعبت ولا أدري ما أفعل ».
ذات جمعة مساء، وبينما كان يتأرجح كالعادة على كرسيه الهزاز، وعيناه تحملقان الى السماء الزرقاء اللامتناهية التوسع، ويعد حبات سبحته كالعادة، فاجأته شابة في عمر الزهور، يبدو أنها لم تتجاوز بعد عقدها الثاني، وجه أبيض ناصع عينان كبيرتان شفتان مدورتان كخاتم زواج، وتطلب منه مساعدة، تسمرت عيناه في وجهها حتى احمرت وجنتاها من الخجل، ولولا صوتها العذب الرقيق الذي اخبره انها تريد مساعدة مالية منه لبقي تائها فيها، تريدين مساعدة مالية؟ اليس لديك أهل؟ الا تبحثين عن شغل؟ وأمطرها بكم هائل من الاسئلة فازدادت وجنتاه احمرارا، ثم قالت بصوت عذب حزين تستجدي به عطف سليمان: لقد توفي زوجي حديثا وتركني حامل في شهري الاول، وكان معيلي الوحيد وانا يتيمة الابوين كما هو أيضا، وليس لنا عائلة، ولست متعلمة وبحثت عن شغل دون جدوى، ولا اريد أن أعبر الى الطريق الأخر، نظر اليها طويلا وفي قرارة نفسه ادرك أن الزواج بها هو الحل للمنامة التي تؤرقه، فهي شابة جميلة صغيرة وحامل وابو الجنين ميت وهي مقطوعة من شجرة كما يقال…) ثم قال: أتقبلين بي زوجا؟ تفاجأت الشابة بسؤال سليمان ودون تردد اجابت: ولما لا يا سيدي ان كنت صادقا، ثم قال سليمان لكن لدي شرط، قبل الاتفاق النهائي وعقد القران، نمر على الطبيب نقوم بصور الايكوغرافي لمعرفة جنس الجنين، ان كان ذكرا تزوجنا، وتابعنا حياتينا معا، ولكن تقسمين بالله ان يبقى أمر الجنين سرا بيننا، وتصرحين لكل الناس حتى لنسائي الاخريات، أنه من صلبي، وان كان أنثى سأتكفل بك وبها حتى تضعينها، قبلت الشابة شرط سليمان، فقفز من على الكرسي وركبت خلفه في السيارة واتجها مسرعان عند الطبيب.
لم يعد سليمان يرى في بيت با احمد رمز شؤم له، منذ أن أصبح ببيته صبيا جميلا، يعتبره وريت عهده، تصالح سليمان مع ذاته ومع جاره ابا احمد، وكان يقول له كلما التقاه: لا بد ان تستضيف أصدقائك في التبوريدة يوم احتفالي بختان ولدي، ونقيم حفلا تاريخيا ان شاء الله.
29/05/2020