حفريات في نشأة مدينة الرباط.
علال بنور
تعاقب على تاريخ مدينة الرباط عاصمة المغرب، عدة مراحل سياسية في الحكم، ممتدة في الزمان غير ان بداية النشأة تعود إلى عهد المرابطين، الذين أنشأوا رباطاً محصنا، لان الهاجس الأمني كان أقوى العوامل التي كانت وراء هذا الاختيار، ليكون نقطة لتجمع القوة العسكرية، لرد هجومات امارة برغواطة التي كانت عاصمتها تماسنا.
لكن، في العهد الموحدي، عرفت المدينة إشعاعاً حضارياً، حيث تم تحويل الرباط أي (الحصن) على عهد الاميرعبد المومن الموحدي إلى قصبة، محصنة لحماية جيوشه التي كانت تنطلق في حملات جهادية نحو الاندلس، وفي عهد حفيده يعقوب المنصور، أراد أن يجعل من رباط الفتح عاصمة لدولته. فأمر بتحصينها بأسوار متينة، وشيد بها عدة بنايات، من أشهرها مسجد حسان بصومعته الشامخة، لا زالت شاهدة على المعمار الديني الى اليوم، وفي القرن 14 م بدأت الرباط، تعرف اضمحلالاً بسبب المحاولات المتتالية للمرنيين للاستيلاء عليها، وإنشاؤهم لمقبرة ملكية بموقع شالة خير دليل على ذلك.
شيد الامير يعقوب المنصور الموحدي سوراً عرف بالسور الموحدي، بلغ طوله 2263م. وهو يمتد من الغرب نحو جنوب مدينة الرباط، اما عرضه فهو 2.5 م وعلوه 10 أمتار، مدعما ب 74 برجاً، كما تتخلله 4 أبواب ضخمة، وهي: باب لعلو وباب الحد وباب الرواح وباب زعير وباب الأودية.
بقي موقع شالة في الرباط مهجورا منذ القرن 5 الى القرن 10 م، حيث تحول إلى رباط يتجمع فيه المجاهدون لمواجهة دولة برغواطة. لكن هذه المرحلة التاريخية تبقى غامضة، إلى أن اتخذ السلطان المريني أبو الحسن يعقوب سنة 1284م، من الموقع مقبرة لدفن أمراء بني مرين وأعيانهم، حيث شيد النواة الأولى لمجمعٍ ضم مسجداً وداراً للوضوء وقبة دفنت بها زوجته المعروفة ب « أم العز ».
حظيت شالة في عهد السلطان أبي الحسن المريني باهتمام بالغ، وفي عهد ابنه السلطان أبو عنان، بنيت مدرسة شمال المسجد وحمام، وزينت أضرحة أجداده بقبب مزخرفة، تعتبر نموذجاً حياً للفن المعماري المتميز لدولة بني مرين، تراجعت شالة مباشرة بعد قرار المرنيين، بإعادة فتح مقبرة القلة بفاس، فأهملت بناياتها، بل تعرضت في بداية القرن 15 م للنّهب والتدمير.
وفي سنة 1339 أحيط الموقع بسور خماسي الأضلاع، مدعم ب 20 برجاً مربعاً وثلاث بوابات، أكبرها وأجملها زخرفة وعمارة، الباب الرئيسي للموقع المقابل للسور الموحدي لرباط الفتح، أما داخل الموقع فقد تم تشييد أربع مجموعات معمارية مستقلة ومتكاملة، تجسد كلها عظمة مقبرة شالة ومكانتها على العهد المريني، ففي الزاوية الغربية للموقع، ترتفع بقايا « النزالة « التي كانت تأوي الحجاج والزوار. وفي الجزء السفلي تنتصب بقايا المقبرة المعروفة بالخلوة، والتي تضم مسجداً ومجموعة من القبب، أهمها قبة السلطان أبي الحسن وزوجته شمس الضحى، والمدرسة التي تبقى منارتها المكسوة بزخرفة هندسية متشابكة ومتكاملة وزليجها المتقن الصنع، نموذجاً أصيلاً للعمارة المغربية في القرن14م. وفي الجهة الجنوبية الشرقية للموقع ، يوجد الحمام المتميز بقببه النصف دائرية، التي تحتضن أربع قاعات متوازية : الأولى لخلع الملابس والثانية باردة والثالثة دافئة والرابعة أكثر سخونة، أما حوض النون، فيقع في الجهة الجنوبية الغربية للخلوة، وقد كان في الأصل قاعة للوضوء لمسجد أبي يوسف، وقد نسجت حوله الذاكرة الشعبية خرافات وأساطير جعلت منه مزاراً لفئة عريضة من ساكنة الرباط ونواحيه، خصوصا انه يعيش به سمكا من نوع خاص الى يومنا هذا .
ففي عهد السعديين، سمح للأفواج الأخيرة من المسلمين القادمين من الأندلس سنة 1609 م بالإقامة بمدينة الرباط، وقد شيد المورسكيون السور الأندلسي، وهو يقع على بعد 21 متراً تقريباً جنوب باب الحد، ليمتد شرقاً الى برج « سيدي مخلوف ». وفي هذا العهد تم توحيد الضفتين (مدينة الرباط وسلا) تحت حكم إمارة ابي رقراق، وهناك بعض المؤرخين، يسمونها بجمهورية ابي رقراق، التي أنشأها الموريسكيون، فمنذ ذلك الحين اشتهر مجاهدو سلا بنشاطهم البحري، وعرفوا عند الأوربيين باسم « قراصنة سلا »، لقد استمروا في جهادهم ضد البواخر الأوربية – خصوصا الاسبانية انتقاما منهم لأنهم طردوهم من الاندلس – إلى غاية سنة 1829.وفي سنة 1912 أصبحت الرباط المقر الرئيسي للمقيم العام الفرنسي، وبعد الاستقلال ظلت عاصمة المغرب.
اما بابي الرواح والأودية اللذان يقعان في الجانب الغربي من السور، يتميزان بهندستهما المعمارية التاريخية وزخارفهما المشبكة وأفارزهما المنقوشة بعبارات كتبت بالخط الكوفي، يعتبران من الإنجازات المتميزة للفن الموحدي في أوج ازدهاره، لقد تحول البابان حاليا إلى قاعات للمعارض الفنية خاصة الرسم، حيث يعرض برواقه أشهر الرسامين المغاربة والعالميين.
كانت قصبة الأودية في الأصل قلعة محصنة، تم تشييدها من طرف المرابطين لمحاربة امارة برغواطة، فازدادت أهميتها في عهد الموحدين، الذين جعلوا منها رباطاً على مصب وادي أبي رقراق لشن حملات عسكرية ضد الإسبان، فأطلقوا عليها اسم المهدية. بعد الموحدين، أصبحت مهملة إلى أن استوطنها الموريسكيون الذين جاءوا من الأندلس، فأعادوا إليها الحياة بتدعيمها بأسوار محصنة، وجعلها مقرا لإمارة أبي رقراق التاريخية. وفي عهد العلويين، عرفت قصبة الأودية عدة تغييرات وإصلاحات ما بين سنة 1757و1789، ثم ما بين سنة 1790 و1792، لقد عرف هذا الموقع تاريخاً متنوعاً ومتميزاً، يتجلى خصوصاً في المباني التي تتكون منها قصبة الأودية. فسورها الموحدي وبابها الأثري (الباب الكبير) يعتبران من رموز الفن المعماري الموحدي، بالإضافة إلى مسجدها المعروف بالجامع العتيق. أما المنشآت العلوية فتتجلى في الأسوار الرشيدية، والقصر الأميري الذي يقع غرباً وكذلك منشأتها العسكرية كبرج صقالة.
كانت الرباط مدينة مضيافة ، آوت الأندلسيين الذين لجأوا إليها ، بعد طردهم من إسبانيا واستقروا فيها على موجات متلاحقة بين القرنين 13 و 14 م، فجاءت أولى هذه الموجات سنة 1293، كانت تضم مهاجرين من مدينة بلنسية وأنحاء أندلسية أخرى، فضمن الموجة الأخيرة، وصل آلاف الموريسكيين الذين طردوا بقرار من الملك فيليب الثالث سنة 1609م، فاستقروا في قصبة الأودية مضيفين لها بنايات سكنية جديدة ، ولا تزال اسماء بعض العائلات الى اليوم شاهدة على أصلها الأندلسي ، مثل ملين (العائلة الأموية الأصل) وتريدان و بالأمين و بيرو و فينجروا و بركاش (أصلهم من نبلاء إسبانيا) وبالفريج وبن عمرو وغيرهم.