الديمقراطية والنخب السياسية بالمغرب، بين الجمود والتطور
المنظار:
نظمت مبادرة سنواصل الطريق من خلال برنامج إضاءات يوم الأحد 27 فبراير 2022 عبر تقنية الزوم، لقاء بمشاركة عزالين لعمارتي عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية وفؤاد الجعيدي مدير نشر موقع المنظار ومهتم سياسي ونقابي، هذا اللقاء الذي أداره الأستاذ أحمد بوشعيب حول موضوع ( الديمقراطية والنخب السياسية بالمغرب) وأعيد نشر محتوى تقريبي لمساهمتي في هذا لنقاش الفكري والسياسي الذي تم فتحه، لتوسيع دائرة المشاركة فيما يهم من قضايا وطنية ظلت تستأثر باهتمام المتتبعين للنقاشات العمومية، وما يجري داخل الأحزاب من تجاذبات قد تنزاح في الكثير من الأحيان عن محاولات إيجاد امتدادات لها في أوسع الأوساط وبالأخص الشباب الذي تظافرت مجموعة من العوامل لصده عن الاهتمام بالشأن السياسي الوطني. وإبعاده عن المشاركة فيه.
الرفيقات والرفاق الأعزاء
سعيد في هذه الأمسية باللقاء معكم في موضوع حيوي الديمقراطية والنخب السياسية.
لماذا الديمقراطية ؟ لأنها خيار استراتيجي لا يمكن للمجتمع أن يسترد فيه الأفراد والمجموعات أنشطتهم الحياتية وحقوقهم الطبيعية والمساهمة في عمليات البناء الوطني، في غيابها..
والنخب السياسية هي التي تحتضن الكفاح السياسي والاجتماعي وتهتم تأطير الناس، للوصول إلى الترجمة الواقعية لمضامين الديمقراطية باعتبارها الحصول على حقوق وتحصينها.
منذ سنة 1943 والحزب الشيوعي المغربي يناضل ويكافح، إلى جانب القوى الوطنية، لانتزاع هذه الديمقراطية.. وفي سبيل ذلك قدم شهداء وصنع ملاحم بطولية وذاق مناضلوه السجون والمنافي والمطاردات البوليسية كحركة اجتماعية تستهدف تحرير الإنسان وطاقاته من كل أشكال الهيمنة.
لكن هذا التاريخ القائم على الصراع والتناحر الطبقي، أدى الحزب فاتورته غاليا باغتيال بعض مناضليه.. كما حدث مع الشهيد عبد الكريم بنعبدالله القائد الشيوعي وأحد القادة البارزين في صفوف المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، وأحد مؤسسي المنظمة السرية” الهلال الأسود” وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي المغربي.
وفي ذات الوقت يعطينا هذا التاريخ صورا عن نخب الحزب الذين كانوا يساهمون بالمال من أجورهم وبتفكيرهم، خدمة للأفكار المتنورة ولمثل العدالة الاجتماعية.
وهذه القيم الإنسانية الرفيعة والمثل النبيلة كان الوعاء الطبيعي لها، وحاضنتها هي مدرسة التقدم والاشتراكية، التي راكمت تراثا إنسانيا عظيما في ثقافتنا النضالية، واستلهمت فيه التراث الوطني والانساني والعربي والأفريقي واليهودي والأمازيغي والإسلامي في جوانبه المشرقة..
الخلاصة: ان هذه النخب في دفاعها عن الديمقراطية، كانت تتبنى قيما إنسانية ووطنية، مناهضة لاستغلال الانسان لأخيه الأنسان، وأن هذا النضال والكفاح الاجتماعي كان يستدعي إطارا معرفيا وإيديولوجيا وسياسيا لإعطاء الديمقراطية معانيها الحقيقية في أذهان المناضلين من طينة المؤمنين بالأفكار الاشتراكية.
الحزب راهن ومنذ البداية على تسليح المناضلين بالأدوات المعرفية لفهم الواقع والتعاطي معه بواقعية، ودون أحلام طوباوية أو أفكار متياسرة ومتطرفة.. كان على الدوام يستحضر مساعدة الرفاق ومن مختلف المواقع على معرفة:
- ما معنى الحزب باعتبار الأداة التي تنجز التغيرات المطلوبة في المجتمع؟
- ماهي أشكال والأيديولوجيات المتصارعة والمتضاربة المصالح في المجتمع؟
- ما معنى التشكيلات الطبقية في المجتمع المغربي.؟
- كيف تبنى المواقف السياسية وعما تعبرعنه ومن أين تأتي الهيمنة وما علاقة الطبقات بوسائل الانتاج ومن أين تأتي السلطة وما موقع الذين لا يملكون سوى قوة عملهم في عمليات الصراع الجارية.؟
- وماهي التحالف بين الطبقات التشكيلات الاجتماعية القريبة من بعضها؟
هذه الثقافة كانت على المستوى المنهجي تعتمد على:
الفهم العميق للظواهر بما فيها الظواهر الاجتماعية في تاريخها في نشأتها وتطور بنياتها وتلاشيها ونشوء الأوضاع الجديدة ضمن مسارات قوانين الجدل وصراع الأضداد والمصالح بصورة لا متناهية.
مدرسة التقدم والاشتراكية ظلت تراهن في إطار عملها الجماعي والسياسي على إعداد الأطر واستقطاب الكفاءات من الجامعات المغربية ومن مستوى معرفي رفيع، حتى كادت العلوم الاقتصادية تظل حكرا على مناضلي الحزب ورائدهم الراحل عزيز بلال والذي ظل دوما يردد مقولة أن شعبنا هو أعظم مدرسة ومحك للمناضلين ومنه نتعلم معنى النضال الحقيقي بخلاف قوى سياسية أخرى ظلت تعتبر الجماهير قطيعا.
- الحزب ساهم طيلة ستة عقود في إنضاج الظروف بقوة من منطلقات وطنية صرف ولم يسجل عليه التآمر ضد المصالح العليا للبلاد أو المزايدة بها وعليها، وكلنا يتذكر الدور الذي قام به على الراحل علي يعته في مسار التفاوض الذي مهد الطريق لحكومة التناوب
- في سنة 2004 هيئة الإنصاف والمصالحة وما تلاها من جبر للضرر وإنصاف للضحايا سنوات الجمر والرصاص.
- ويتضح أن الدولة منذ 1995 وسعت من المشاورات وكانت لها الجرأة في ذكرى 50 سنة من التنمية البشرية أن تفسح المجال أمام المثقفين والخبراء لمساءلة التاريخ بكل معطياته والجرأة في التعاطي مع كل الأحداث التي عرفتها بلادنا مع الإقرار أن المستقبل يشيد وأن الأفضل ممكن.
- في سنة 1998 جاء لتسيير الشأن العمومي النخب اليسارية في حكومة شكل عمودها الفقري الاتحاد الاشتراكي.
- في سنة 2011 نص الدستور المغربي الجديد على مجمل حقوق الإنسان الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى تكريس سمو الاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب على التشريعات الوطنية والتنصيص على العمل على ملاءمة هذه التشريعات مع مقتضياتها.
- باتت الدولة تمول من المال العام الجمعيات الحقوقية التي عرفت تصاعدا في وتيرة نموها.
- الحقوق المدنية والسياسية والنقابية، عرفت بدورها نموا مضطرا وصولا إلى الجيل الثالث من هذه الحقوق التي توسعت مفاهيمها وأهدافها. والدولة المغربية بذلت جهودا في التعاطي الايجابي مع هذه الحقوق بصفة عامة.
لكن ما الذي جرى في قلب الهيئات السياسية وبالأخص اليسارية منها لما وصل مناضليها إلى المناصب الحكومية.
- فك الارتباط العضوي مع النضالات الميدانية والتعبئة اليومية وامتداداتها وسط الجماهير الشعبية.
- غدت الانتخابات ليس محطة لتطوير الكفاح الجماهيري وترسيخ الوعي بالديمقراطية والمشاركة الميدانية مع الجماهير وبجانبها وإنما الرهان على أصواتها لتعزيز المواقف التفاوضية للأحزاب.
- صارت القيادات الحزبية أكثر استعداد لتبرير الواقع عوض العمل على تغييره.
- النخب الحزبية غدت أكثر استعدادا للدفاع على مواقعها والتنكر لأبسط قواعد الديمقراطية.
- صارت الأحزاب أكثر استعدادا للانفتاح على تشكيلات اجتماعية لها الامكانيات والقدرات على ضمان الفوز بالمقاعد النيابية.
- في المقابل نما الاتجاه المتشكك في إمكانية هذه النخب من استكمال مهام ومتطلبات الانتقال الديمقراطي.
الحركة داخل المقرات الوطنية للأحزاب تنشط فيها اللقاءات كلما اقتربت لحظات التشكيل الحكومي أو ما يعرفه من تعديلات وبرزت نخب تكون تصورات على ذواتها أن المهام الوزارية والمسؤوليات وجدت من أجلها. وهي التي لم تعرف ولم تتمرس على النضال الجماهيري أو قطعت أواصره وحباله منذ زمان.
هذه النخب باتت تلمس أن نضج المسار الديمقراطي، يهدد مصالحا وبالتالي انشغلت بالمناورات الرديئة للتحايل على القوانين الداخلية لتنظيماتها وترتيب مؤتمراتها على المقاس للحفاظ للشيوخ ومن يدور في فلكهم على مواقع المسؤولية الصورية في قياداتها الوطنية.
يمكن أن نستنتج أن هذه البرجوازيات الصغرى في هذه المرحلة من مراحل نضج ظروفنا الوطنية، باتت تلمس أن مصالحها التي راكمتها في مواقع ومناصب المسؤولية صارت معرضة للتهديد ولذلك لم تتردد في إعلان الحرب على مناضليها والسعي لطردهم من التنظيمات الحزبية كلما وقع الاختلاف حول قضية أو رأي سياسي أو موقف مخالف مع الانفتاح والتحالف مع مناضلين جدد يتوفرون على المال وانخرطوا لحماية مصالحهم.
التاريخ يعلمنا أن البرجوازية الصغيرة ليست لها مواقف مبدئية إنما متذبذبة نحو اليسار أو اليمين حسب الظروف والمصلحة.
أيضا نلاحظ أن السياسة باتت منفذا للتسلق الاجتماعي وللثراء ولنا في تجارب العشر سنوات الأخيرة خير مثال.
التذبذب وصل أيضا للتحالف ليس على أسس سياسية وأيديولوجية وإنما بناء على علاقات خاصة ومصالح متبادلة وهنا أيضا الشواهد لا تعد ولا تحصى؟
وهذا بات يؤثر على الديمقراطية وما نكونه عنها من تصورات:
زعماء يطالبون الدولة بمزيد من الانفتاح والتنازل، بخطابات مدافعة عن الديمقراطية والتشاركية في بناء القرارات، لكنهم داخل تنظيماتهم يقودون حربا وبدون هوادة لإخراس الأصوات، والاعتداء على حقها في حرية التعبير ووصل الأمر إلى تهريب اللقاءات الحزبية وإعادة تركيب بنية الأحزاب بالالتفاف على القوانين التنظيمية للأحزاب وإفراغها من كل مضمون ديمقراطي أو تشاوري يحظى بالتوافق الواسع.
إن كل ما يجري اليوم هو نتيجة طبيعية لمجتمع في علاقته مع السياسة، مجتمع لازال في الطور التشكل،
أنهى مرحلة الكفاح الوطني ودخل مسلسلا طويلا نسبيا في البناء المؤسساتي وهو البناء التي باتت معه المؤسسات الحزبية اليوم عاجزة على التجاوب مع تطلعات الأوراش الوطنية ومع تطلعات الشباب وعموم والمواطنين
- ما هي الخلاصات والدروس التي نستنتجها اليوم من نخبنا السياسية
- أنها ساهمت في تبخيس السياسية من خلال النماذج القيادية التي تقدمها الأحزاب الوطنية والتي تتجلى في خطابات يغيب عنها التحليل يكثر بها التنابز وفي بعض الأحيان اللغة الساقطة.
- أن العديد من المظاهر في المجتمع والتعابير السياسية تنتج التفاهة وتعمل على سيادتها. وبالتالي تساهم بقوة في عزوف الشباب عن السياسة..
- بات التشكيك واسعا لدى النخب في الالتزام السياسي الحقيقي وفي جدوى النضال والتأطير ( يمكن العودة إلى مؤلف نظام التفاهة للفيلسوف الكندي ألان دونو لتفهم أسباب سيطرة التفاهة داخل المجتمعات الرأسمالية وسيادة الرداءة .
- أيضا وهذا رأيي الخاص أننا بتنا في أمس الحاجة لأشكال جديدة من التأطير خارج الهياكل السياسية القديمة، فكما هناك حاجة لنموذج تنموي جديد نحن أيضا في نفس الوقت في حاجة إلى أشكال جديد من التنظيم السياسي تتجاوز منطق الزوايا والأتباع ضدا في التطلعات الاجتماعية لغد أفضل تعم فيه صيانة كرامة الناس وحقوقهم ورفاهيتهم.
لنعيد للسياسة جاذبيتها وبريقها كما كانت تحظى به في فترات من تاريخنا الوطني خلال القرن الماضي.