« نظام التفاهة » قراءة نقدية لكتاب الفيلسوف الكندي الان دونو
محمد السميري
صدر للفيلسوف الكندي ألان دونو Alain Deneault سنة2015 كتاب تحت عنوان « La médiocrité » والذي تمت ترجمته سنة 2020الى العربية من قبل مترجم كويتي )مشاعل عبد العزيز الهاجري ( تحت عنوان « نظام التفاهة ». وقد لقي هذا الكتاب في نسخته العربية -ولا يزال – رواجا كبيرا على وسائل التواصل الاجتماعي لما لعنوانه من جاذبية وحمولة دلالية تشي بأهمية مزعومة، مع ان ترجمة كلمة La médiocrité « بنظام التفاهة » لا تفي بالغرض المطلوب فmédiocrité في اللغة الإنجليزية وحتى الفرنسية تعني الأقرب الى الصغر منه الى التميز. فرداءة الترجمة تمتد أيضا الى المعنى الإجمالي للكتاب، فكثير من الجمل صحيحة قواعديا لكنها غير ذات معنى محدد، مما يجعل القارئ للكتاب يحس اثناء قراءته بالغموض والتوهان الذي لا يستطيع معه القبض على المعنى.
يبدأ المترجم بمقدمة طويلة والتي يمكن وصفها بالحشو الزائد الغير مرغوب فيه ،والتي تم فرضها واقحامها من دون ان تفي بالغرض المطلوب الذي هو تبيان الخطوط العريضة للكتاب. يحاول الكتاب رصد مظاهر التفاهة لكن بأي معنى؟ وبأية خلفية نظرية ؟وبأية مفاهيم؟
يظهر ترهل المفاهيم وخواؤها عند المؤلف ولأول وهلة فيما يسميه « بنظام التفاهة » بحيث لا يمكن معرفة ما هو هذا النظام على وجه التحديد؟ فقد اعتبر ان الاقتصاد العالمي يدار من قبل التافهين، لكن الحقيقة ان الاقتصاد العالمي لا يدار من قبل التافهين بل من قبل الرأسماليين والميليارديرات الذين يديرون البنوك الكبرى وشركات صناعة الاسلحة وجميع الاقتصاد العالمي بما فيه اقتصاديات دول الجنوب، فيروجون متى شاءوا للجدية او للتفاهة. فهل هناك تفاهة بعد ذلك؟
.يغطي المؤلف على هذه الحقيقة ويركز على التافهين الذين هم مجرد مظهر سطحي لا قيمة له. فنظام التفاهة هو تمظهر سطحي للنظام الرأسمالي العالمي الذي تحركه حركة الرأسمال من قبل الطبقة البورجوازية العالمية الكبرى ،وقد اختار المؤلف الوصف الأخلاقي الصوري الذي يغيب جوهر الصراع الذي يتحدث عنه وهو النظام الرأسمالي الذي لم يبق لا على البشر ولا على الحجر ولا على النظام البيئي .
يقدم المؤلف حشدا كبيرا من المفكرين ذووا طابع راديكالي فيحاول بشكل غير واضح الصاق شعار « نظام التفاهة » بهم من دون ان يبين طبيعة هذا الترابط فينتقل بشكل اعتباطي من ارسطو الى مفكرين في مطلع القرن العشرين، ثم الى مفكرين محدثين في أوضاع وانماط تفكير مختلفة تماما، فيعود بمفهوم الفساد الى ارسطو مع ان هذا المفهوم يعني به ارسطو شيئا مختلفا تماما في كتابه « الكون والفساد »، ثم يأتي عن زيمن وماكس فيبر في القرن العشرين لينتقل بعد ذلك الى منتصف القرن العشرين ،بحيث لا يوجد رابط منطقي بين كل هؤلاء المفكرين-وهم كثر في الكتاب- سوى انهم مفكرون ذووا نزعة نقدية ،لكنها نزعة نقدية غير عميقة باستثناء كارل ماركس وروزا لوكسمبورغ اللذات يتحدث المؤلف عنهما لكي يقصيهما. فالترحال بين طيف من المثقفين يطرح التساؤل حول ما يجمع مثلا بين مفكر كزيمن وروزا لوكسمبورغ وبين ارسطو والتوسير وماكس قيبر واميل دوركهايم وتشومسكي وآخرين سوى نوع من العشوائية والانتقائية التي تجعل من نظام التفاهة نظاما كونيا فوق تاريخي ،فوق النظام الرأسمالي، خارج أنماط الإنتاج والذي يمتد حسب المؤلف منذ زمن ارسطو.
يحاول صاحب الكتاب إعطاء تعريف للاقتصاد فيتحدث عن الاقتصاد النفسي(الترجمة الصحيحة الاقتصاد الروحي) فيخلط بشكل ملحوظ بين المجال السيكولوجي الفرويدي والاقتصاد المالي حين حديثه عن الاقتصاديين و نظرياتهم الاقتصادية. فمصطلح الاقتصاد النفسي لم يرد عند اقتصادي مثل ماركس او عند كينز احد المنظرين الكبار للاقتصاد البورجوازي. ان هذا الترهل والخواء المفاهيمي مرده ان المؤلف يحاول الجمع بين أفكار متناقضة لمفكرين وفلاسفة مختلفين فكريا ومنهجيا. فعدم الوضوح المفاهيمي لا ينتج معرفة بل يؤثر فقط أيديولوجيا. فالكتاب من هذه الزاوية مضلل الى حد كبير.
يتحدث الكتاب عن الجامعات الغربية واصفا إياها بشكل مبالغ فيه كمنتجة للتفاهة، مع ان اعظم الاكتشافات في العلم والتكنولوجيا والعلوم الاجتماعية هي وليدة هذه الجامعات من أوروبا الى أمريكا والصين. قد يمكن القول ان المؤلف قد وضع اصبعه على بعض الامراض التي استشرت في الجامعات الغربية من قبيل تسليع المعرفة ،مع انه لا يمكن ان نقارن هذه الجامعات المتقدمة بجامعاتنا الهزيلة.
يقودنا هذا الى الحلول التي يقترحها صاحب الكتاب للخروج من نظام التفاهة. يعتبر المؤلف ان هذا الوضع خانق وبالتالي فإمكانية تغييره مستحيلة. والحل هو كما يقول: « كن راديكاليا » كخلاص فردي. فقد حاول نقد النظام الرأسمالي بدون الارتكاز على خلفية نظرية واضحة فاعتبر هذا النظام نظاما مطلقا ابديا، فالطرح بهذا المعنى طرح لا تاريخي، يحاول القفز على تناقضات النظام الرأسمالي ،فحتى لو افترضنا ان هناك نظام للتفاهة ،الا يحمل هذا النظام في جوفه تناقضاته ام هو نظام يشكل نهاية التاريخ؟ هذا ما يوهنا به صاحب الكتاب ا لذي يركز في تحليله على المظاهر السطحية للنظام الرأسمالي العالمي ،وبذلك يمكن وضعه في خانة الفكر ما بعد الحداثي ،الذي هو ضد السرديات وضد التماسك الديالكتيكي المنطقي الذي يقود الى الترهل الاسلوبي كما نجد ذلك في الفن ما بعد الحداثي على سبيل المثال ،الذي هو عبارة عن كولاج وعن لطخات من هنا ومن هنا ك ،فكل شيئ بالنسبة لهذا الفكر ما بعد الحداثي هو عبارة عن لطخات. وهذا الكتاب هو عبارة عن لطخات غير مترابطة. وهذا ما دفع به للقفز عن تناقضات النظام الرأسمالي معتبرا إياه نظاما ابديا لا يتم فيه الخلاص الا فرديا كما تظهر عبارة « كن راديكاليا ». فالكتاب بالمعطى العام هو صرخة لمفكر غربي ما بعد حداثي يخفي حقيقة النظام الرأسمالي تحت مفهوم مترهل يطلق عليه « نظام التفاهة » من دون تقديم حل جذري لهذا النظام .
وأخيرا فاءن الترويج لهذا الكتاب ذو الطابع الصحفي وترجمته الى اللغة العربية يطرح اكثر من سؤال ،مع العلم ان هناك كتابات لمفكرين غربيين ترصد بشكل علمي التناقضات والأزمة التي يمر منها النظام الرأسمالي العالمي وتمظهراتها الاجتماعية والثقافية والسياسية والبيئية.