شذرات استهلالية

شذرات استهلالية
شارك

المختار عنقا الادريسي

السادس من غشت 2025

   أحكي لأن ليل الصمت طال واستطال في القلب والذاكرة فصار معه ما لم يقال عبئا، وقد يغدو ندبا،

    قد أحكي عن تلك المساحات المنسية، عن كل ما خُنِقَ في المهد، عن الأصوات المنزوية في اللاشعور، عن الصدى الذي ارتجف ثم سَكَتْ، أحكي، لا لأن الحكي سَهْلٌ، بل لأن اللاحكي قد يتحول – دون أن ندري – إلى عبء خانق، في عوالم يُتَطَلَّبُ منا فيها أن نخفي  » عدم الرضى  » باسم اللياقة أو الحياء.

  ولذلك اخترت أن أُشْرِعَه باب الحكي عن بعض مما كُتِمَ في كل حكي صادق، قد تسكن حقيقة مرة

في زمن طغت فيه الضوضاء على الأصوات والصدى الداخلي، يظل الحكي الصادق أداة بوح ووسيلة نجاة مما علق بالدواخل. وقديما دعا الفيلسوف الألماني «مارتن هايدغر  » إلى عدم تقليد الآخرين، وقال [لا يذهب بعيدا من لا يعرف إلى أين هو ذاهب]، وأضاف قائلا [في الشعر تكمن الحقيقة] فإذا كان الشعر عنده، مأوى للحقيقة لأنه يفتح لِلُّغَة أفق الانكشاف، فإن الحكي الصادق يبقى بمثابة المأوى للإنسان، لأنه يُظْهِرُه في حريته، في ضعفه، في خيباته وعطفا عليه أقول: في الحكي الصادق تسكن الحياة والحقيقة معا. وبالتالي فوحده من يتألم يمكنه أن يحكي، وعلى حد تعبير  » محمود درويش  » فإن كل [من عاش دون أن يتألم فهو لا يروي إلا صورا ملساء لا تسكنها الحقيقة].

  الحقيقة ذاك الكائن المتواري خلف الكلمات والذي لا يأتينا دائما عبر المواقف الصلبة أو الكلام الصارم، فنجدها تستوطن اللغة النابضة بالحياة، وتتنفسه الصدق. فيبقى الحكي بصدقه العفوي غير المتكلف، مفتاحا لفهم الحاكي في هشاشته، ذاكرته، أنفته، صموده. وقد لن يكون كل ما يُحْكَى هو الصدق، لكن عندما يتداخل الحكي بالتجربة والمعاناة الشخصية، بالاعتراف الحر، بالجرأة على النطق، بتحريك المسكون بالدواخل، بعيدا عن أي رياء عاطفي أو قناع أخلاقي، فإنه يصبح مرآة للذات، للحظة المعيشة والمسترجعة، ولِمَا لم يُقَال، وبقي منزويا في ثنايا الأعماق.

1/ حين يكون الحكي نجاة لا رواية:

  لقد سبق للمفكر والفيلسوف العالمي «ادوارد سعيد  » أن قال ذات زمن [الذاكرة هي الفعل المضاد للنفي] ، وعليه فالحكي يكون صادقا حين ينبع من أعماق الذات مسترجعا ما يثقلها ، فيتحول إلى  أداة مقاومة للنسيان ، لتشويه الذات ، لتمزيق ثوب المعاناة ، في تجمعات قد لا تحسن الإصغاء . فيصبح الحكي مسلكا للنجاة من الصمت المُمِيتْ، ويَضْحَى كل من يروي سيرته، ذكرياته، ألمه العابر أو المقيم – بالصدق المتناهي – بمثابة من يمد حبل النجاة من ذاته إلى أيادي الآخرين وعطفا عليه، فإن الحكي الصادق هو ما لا يتطلب تزويقا أو تنميقا، ولا يتوخى إعجابا، أو حتى مَسّاً بالمَحْكِي عنه، فيأتي سردا عفويا مُنْسَابا، لأن السكوت في هذه الحالة – يُعَدُّ خيانة للذاكرة –

  أن تروي ما جرى – كما يجب أن يُروى- بل كما انطبع في القلب والذاكرة. وأن تحكيه لا كَرَاوٍ محايد، بل ككائن يمشي على الذكرى ويعترف [هكذا كانت الحكاية وهكذا كنت ولا زلت شاهدا عليها]

    أن تقول  » أنا  » وتتحدث عن  » الأنا « دون أي قناع، ودون محاولة تبرير، أن تروي لا لتنال الإعجاب، بل لتتنفس هواء نقيا منعشا يعيد لك صفاء الروح.  أن تكون في حكيك وروايتك لما عشش في دواخلك، بعيدا عن التزييف، مقاوما بصوتك المحكي ذاك الصمت الجَمْعِي، لثقافة العيب، لخطاب الاستثمار، بلغة بسيطة صادقة لكنها مؤثرة.

2/ ويبقى الحكي مقاومة هادئة:

  في مجتمعاتنا العربية المغرقة في التحفظات، عادة ما تَطْبَعُ المجاملة مواضع كل الكلام، فيصير الحكي الصادق شكلا من المقاومة الهادئة، مقاومة للنسيان أو التناسي، للمسكوت عنه، للزيف الجماعي، لاسترجاع الراحلين بكل وصاياهم وحكمهم وذكرياتهم، للتقاليد التي تجردنا من أحاسيسنا، تخيلاتنا، أصواتنا. فالحكي / المقاومة الهادئة، لا يحررنا من الخوف فحسب، بل يعيد لنا مكانتنا في منظومة الحياة يعيد لنا صوتنا المكتوم والمنزلق في متاهات التناسي، فيتجاوز إنعاش الذاكرة لأنه يحاول ترميم الكينونة بهدف فهمها وتفهمها. وهنا يستحضرني ما كان قد أشار إليه الروائي التركي « أوروخان بامون – الحائز على جائزة نوبل للآداب في 2006 – الذي يرى أن [الحكي الصادق لا تسكنه الحقيقة فقط بل يستوطنه المعنى ويسكنه الإنسان]. وبذلك يغدو الحكي الصادق، موقفا وجوديا بامتياز. وفي انتظار غد مشرق، يحدونا فيه صدق الحكي، أقول لأيامي وذكرياتي المتبقية مُرِّي بأمن وسلام، فأنا لا أطلب إلا الطمأنينة والأمان، مُرِّي بهدوء وسكينة، فأنا لم أعد ذاك المتنطع، الجسور ولم يعد آلات يرهقني أو يخيفني وإن كان لا بد من المرور، فرجاء مُرِّي بخفة وبل ضوضاء أو صخب.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *