مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2026 في سياق تتقاطع فيه العديد من الرهانات!؟
د. حميد النهري
من المرتقب بداية الأسبوع المقبل وضع مشروع قانون المالية لسنة 2026 لدى البرلمان لمناقشته، ويأتي ذلك في سياق وطني دقيق تتقاطع فيه الرهانات السياسية الاجتماعية والاقتصادية،
وإذا كانت ارقام الميزانية السنوية في العادة تعتبر بمثابة الترجمة الفعلية للبرامج القطاعية للدولة والتفعيل العملي لسياساتها العمومية، وذلك من خلال تقديمها أجوبة واضحة ومحددة على احتياجات مختلف القطاعات انطلاقا من أولويات الدولة؛ فإن هذه السنة تشكل استثناء على أكثر من مستوى..
فمن جهة تعتبر السنة الأخيرة في عمر الولاية الحكومية والبرلمانية الشيء الذي سيجعل النقاش حول قانون المالية 2026 أكثر اهمية باعتباره القانون المالي الاخير لهذه الحكومة؛ ومن جهة اخرى مستوى التجاوب مع التحديات الانية المفروضة والمفروضة بشكل كبير حاليا.
ويمكن تلخيص هذه التحديات الكبرى في ثلاثة تحديات كما يلي:
اولا: الزامية التجاوب مع التوجيهات الملكية الواضحة وبلورتها على أرض الواقع
فكما هو معلوم خطاب العرش لسنة 2025 كان حاسمًا ورسم أولويات المرحلة المقبلة، إذ دعا إلى جيل جديد من برامج التنمية الترابية يقوم على توحيد الجهود حول مشاريع ذات أثر ملموس وتهم بالأساس:
_دعم التشغيل من خلال تثمين المؤهلات الاقتصادية الجهوية وتوفير مناخ ملائم للاستثمار المحلي
_تقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية خاصة في مجالي التعليم والصحة، بما يصون كرامة المواطن ويكرس العدالة المجالية
_اعتماد تدبير استباقي ومستدام للموارد المائية في ظل تزايد حدة الإجهاد المائي والتغيرات المناخية
_إطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج في انسجام مع المشاريع الوطنية الكبرى.
اذن من المنتظر أن يشكل قانون المالية 2026 الأداة المحورية لتفعيل هذه التوجيهات عبر برمجة مالية دقيقة، وضبط أولويات التمويل العمومي بما يضمن الانسجام بين هذه البرامج والقدرة الفعلية على التنفيذ.
ثانيا: مسؤولية مؤسسات الدولة سواء الحكومة او البرلمان في بلورة سياسات عمومية تتجاوب مع حاجيات المواطنين.
في هذا الإطار أكد الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان على أهمية المرحلة باعتبارها السنة الاخيرة لولاية الحكومة والبرلمان، لذلك عليهم
التحلي باليقظة والوفاء بمسؤوليتهم السياسية قبل الانتخابات التشريعية المقبلة..
فالمرحلة لا تحتمل التهرب من المسؤولية بل تستوجب تقديم حصيلة واقعية بالأرقام لما تحقق وما لم يتحقق.
لذلك ستشكل مناقشة ميزانية 2026 فرصة امام جميع الفاعلين، من جهة لتحمل مسؤوليتها لمناقشة القضايا المستعجلة والاستراتيجية وتأكيد ان البرلمان دستوريا هو المؤسسة الوحيدة المؤهلة لمثل لمناقشة السياسة العمومية. ومن جهة اخرى للتجاوب مع المطالب الانية للمجتمع واقتراح حلول تمويلية عملية ملموسة لتفعيل هذه المتطلبات.
ثالثا: السياق الاجتماعي المحتقن
كما هو معلوم تميزت الأسابيع الاخيرة بتصاعد موجة احتجاجات شبابية أكدت على وجود أزمة وساطة واضحة بين الدولة والمجتمع..
فهذه الاحتجاجات تتسم بغياب حقيقي للتأطير الحزبي أو النقابي أو المدني، الشيء الذي يجعل منها دينامية اجتماعية تفرض تحديًا أمام مختلف الفاعلين السياسيين في كيفية استيعاب مطالب هذه الفئات الواسعة من الشباب خصوصًا في ظل وضعية تتسم بتزايد نسبة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي.
وسيشكل مضمون او مناقشة مشروع قانون المالية 2026 فرصة لقياس هل فعلا الفاعل السياسي استوعب رسائل الاحتجاجات ومستعد لمناقشتها وبلورة حلول عملية ملموسة للإجابة عنها؟.
اذن ثلاث تحديات ستشكل أسئلة واضحة لقانون المالية لسنة 2026 الذي لن يكون مجرد وثيقة مالية عادية بل امرأة لمرحلة سياسية تتسم من جهة، بسياق انتخابي يفرض الواقعية والمساءلة. ومن جهة اخرى بأزمة اجتماعية واضحة تفرض تقييم مدى قدرة الدولة على التوفيق بين المتطلبات الاقتصادية والتطلعات الاجتماعية.
بطبيعة الحال لا بد من الأخذ بعين الاعتبار الاكراهات المالية والاقتصادية الحقيقية والتي يأتي في ظلها مشروع قانون المالية 2026
وتتمثل فيما يلي:
1 _وضع اقتصادي متقلب يتميز ببطء التعافي بعد سنوات من الأزمات المتتالية.
2 _ضعف التمويل في إطار المعادلة الصعبة في ارتفاع النفقات خصوصا الاجتماعية مقابل انخفاض الموارد.
3_ محدودية تفعيل حقيقي للإصلاح الجبائي سواء على المستوى المالي او الاقتصادي والاجتماعي.
4 _كلفة التجاوب مع انتظارات الشارع خصوصا الاجتماعية (الصحة التعليم التشغيل) والتي تتطلب تمويلا حقيقيا لإبراز إرادة الدولة في إعادة التوازن الاجتماعي.
لكن لا يمكن أن تكون هذه الاكراهات عائقا يتم الاختباء وراءها وتقديمها كسبب لعدم التجاوب مع التحديات المفروضة
بل أكثر من ذلك اعتبار مشاريع كبرى اخرى (الملاعب)كأولوية خصوصا امام توالي النتائج الايجابية لمنتخب كرة القدم..
اذن على الجميع أن يتحمل مسؤوليته سواء حكومة او برلمان؛ فنحن امام ازمة معقدة ونعرف جيدا ان قيمة الحكومة او البرلمان تظهر خلال الأزمات؛ فعوض الاختباء وراء ارقام الظرفية الصعبة لا بد من ابتكار حلول عملية للتجاوب مع مطالب المجتمع وتجاوز الاكراهات المالية.. وفي هذا الإطار لابد من:
#اعتماد مبدأ (البحث عن الاموال حيث توجد) وليس الاموال السهلة المقتصرة على ضريبة الاستهلاك وضريبة الاجراء والموظفين.
ولتجاوز الاكراه المالي لا بد من اشكالية التشغيل، اي على الدولة ان تتحمل مسؤوليتها وتتجاوز ذلك المنظور الضيق الذي يفيد انها لم تعد قادرة على التوظيف او عدد الموظفين كبير ويؤثر على اختياراتها لان الجميع يعرف اليوم ان الدولة لا زالت في حاجة الى موظفين في جميع القطاعات، لأننا عندما نقارن مع بعض الاقتصاديات المشابهة لبلادنا على صعيد عدد الموظفين بالنسبة لعدد السكان فنحن متأخرين ولا زلنا في حاجة الى موظفين. اذن أتصور حملة من التوظيف المباشر الشفاف لامتصاص البطالة هو حل صعب لكن ليس مستحيلا. يتطلب فقط الإرادة السياسية القوية والابتكار لتجاوز التكلفة المالية لذلك.
اشكالية العائق المالي من خلال:
توسيع الوعاء الجبائي ليشمل الأثرياء فبعد تردد كبير منذ اكثر من 40 سنة حان الوقت واظن أننا تأخرنا في النص على ضريبة تهم الاثرياء سواء على الثروة أو على الإرث وتحقيق بعض مبادئ العدالة الضريبية التي اكدت عليها المناظرات الضريبية لسنة 1999 و2013 و2019 كما أكد عليها مجموعة من المفكرين الاقتصاديين المغاربة.
سيقول بعض (الطبالة) ان هذه التصورات مستحيلة وغير عملية لأنهم يتشبثون بتحليل أصبح متجاوزا اليوم في اغلب التجارب المعاصرة ويكفي إعطاء مثال النقاش الدائر في فرنسا حاليا حول ضريبة الأثرياء ونداءات اقتصاديين كبار حاصلين على جائزة نوبل للاقتصاد الذين اكدوا على ضريبة على الثروة كما ان هناك مبادرة فريدة من نوعها تستهدف تحقيق عدالة ضريبية أكبر بين الأثرياء والفقراء حول العالم، أطلقتها إسبانيا والبرازيل تهدف تحصيل ضرائب أعلى من الأثرياء لمعالجة التفاوت المتزايد. بل أكثر من ذلك طالب البَلدان من حكوماتِ العالم الانخراط في المبادرة لتحقيق نظام ضريبي عالمي أكثر عدلا وتقدما.
وأُعلن عن هذه المبادرة في المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية الملتئم في إشبيلية مؤخرا والذي انصب اهتمامه بمساهمة الأفراد الأكثر ثراء بنسبة أقل في الموارد المالية العامة مقارنة بدافعي الضرائب العاديين.
فالعدالة والانصاف الضريبي يعتبر اساس العدالة الاجتماعية وهذه الاخيرة هي مفتاح التنمية الشاملة.
الحسم في طبيعة علاقة الدولة مع القطاع الخاص
فأمام طبيعة هذا القطاع الخاص خصوصا الوطني الغريبة التي تعتمد على الدولة وفي نفس الوقت تدعي الليبرالية لذلك لا يمكن الاعتماد عليها للمساهمة في منظومة الخدمات الاجتماعية وبالتالي لا بد للدولة أن تتحمل مسؤوليتها على صعيد التنمية الاجتماعية من خلال القطاعات الأساسية (الصحة التعليم السكن ). واي اختيار غير ذلك في هذه الوضعية ستكون عواقبه خطيرة على الاستقرار الاجتماعي.
وفي الاخير لا بد من الاشارة ان مشروع قانون المالية 2026 المرتقب مناقشته بداية الأسبوع المقبل في البرلمان لا يمكن تحميله كل هذه التحديات لكن السياق العام الذي جاء فيه فرض عليه اختيارين: اما أن يشكل نقطة تحول في التجاوب مع التحديات المجتمعية المستعجلة والضرورية او ما أصبح يعرف بصوت الشارع ومطالب الاحتجاجات وبالتالي اضفاء نوع من الثقة في المؤسسات.
وإما أن يكون مجرد قانون مالية عادي جدا كبير من القوانين يعتمد ميزانية انتخابية تحاول بأرقام كسب الوقت في اخر لحظات الولاية.
وفي كلتا الحالتين سيبقى السؤال المركزي الذي يطرحه الراي العام هو: هل ارقام ومعطيات ميزانية 2026 ستترجم السياسة العمومية بشكل ملموس وتؤثر في معيش المواطن؟؟
