لازال للجهل والظلامية ركنا كبيرا بيننا
نزهة الكوشي
أنا بحاجة للتعبير عن غضب غريب تملكني عندما عرفت أن الدكتور سبيلا، كان من المحتاطين لفيروس كورونا منذ بدايته، وليس غريبا على مفكر محور كتاباته الدولة الحديثة أن يكون في مستوى المواطن الواعي الحذر…
لكن، جاءه (ضيف) سلم عليه، عانقه بطريقة المغاربة، ولم يخبره أنه مصاب بكورونا.
بعد ذلك سيصاب الدكتور سبيلا بالفيروس اللعين، سيتفيد من العلاج ومراقبة طبية بالمنزل قبل أن تتدهور حالته، ويتوفاه الله بمستشفى الشيخ زايد.
لماذا أكتب كل هذا و ما هو القصد؟
بصراحة لا أعرف، وهي على كل واقعة أليمة مستعدة لثرثرة مشروعة ولقراءات شتى.
هناك قراءة المواطن القدري الذي سيقول أنه الأجل، و لا مفر منه. و هو كما علمنا الفلاسفة والمفكرون برهان سلطوي، ما أن تستمر في وضعه على طاولة النقاش حتى توصف بالملحد والعلماني.
القراءة الثانية، هي وصف حالة ألم لعجزنا على الوصول إلى الدولة أو بالأحرى المجتمع الحداثي بمعناه الشمولي، خصوصا أن الدكتور سبيلا اعترف أن المجتمع الحداثي يأخذ بل ويتأثر بالمجتمع التقليدي. فالمريض في أي مجتمع حداثي، و بالأخص إذا كان مصابا بمرض معد، لا يزور أحدا و لا يزوره أحد.
المجتمعات الحداثية توصلت إلى سن قوانين تضع المسبب لمرض ما عن قصد أو غير قصد في مكانة المجرم ويعاقب قانونيا. هناك قوانين خاصة بالتدخين مثلا عندما يسبب مواطن مدخن لمرض لمواطن آخر، و بعدما يجزم الطب الشرعي بالعلاقة الوطيدة بين تدخين الأول و مرض الثاني يتابع الأول قضائيا ويعاقب بالسجن و الغرامة.
أما عندنا، وفي ظل مشروع الدولة الحديثة عبر المدرسة و التعليم مثلا – و المدرسة كما نعلم هي عالم ما يمكن أن يكون- نشر منذ سنوات نصا في الكتاب المدرسي في السلك الابتدائي يتمحور حول حوار بين معلم و تلاميذه عن تلميذ غائب . عندما يسأل المعلم التلاميذ عن سبب غياب زميلهم، يجيبونه أنه مريض بالزكام، فيسألهم المعلم غاضبا : »ألم تزورونه؟ » ويرد التلاميذ الصغار بالنفي. حينها يشرع المعلم في تفسير عيادة المريض في الإسلام معاتبا إياهم بشدة.
بصراحة، لم أعد أتذكر مصدر النص، لكنني لا أستطيع إخفاء غضبي الشديد عن هذا الخطأ القاتل الذي يشجع التلاميذ على زيارة زميل مصاب بمرض معد.
مشروع الدولة الحديثة كما تفضل به المرحوم، مقيد بالتفكير التقليدي والأرضية الرجعية، والتاريخ بكل مراحله ….و بصعوبة عقلنة الحقل الديني.
دائما في إطار الدولة الحديثة وفيروس كورونا و محاولتي ربط نسق إبيستمولوجي بينهما، أحببت أن أضيف عدة وقائع شخصية لا أعرف هل تستحق أن أتذكرها الآن، أم أنني بحاجة فقط للتعبير على حدة غضبي و حزني العميقين .
أولها، أنني كمدرسة، ومنذ بداية عملي، كنت أستغل كل فرصة كي أمرر معلومة خاصة بالوقاية الصحية لدرجة أن أي تلميذ أصيب بالزكام مثلا يتخذ فورا مكانا له في آخر الصف بعيدا عن زملائه و بدون استشارتي ولا إذن مني…
ثانيها، ذات مرة سلمت علينا- كنا ثلاث أستاذات- زميلة تدرس « علوم الحياة و الأرض »، بعدها عرفنا أنها مصابة بزكام حاد ….مرضنا كلنا و بدون استثناء و تغيبنا كلنا عن العمل….
ما معنى أن أكون مدرسة لعلوم الحياة والأرض وأنا عاجزة أن أغير نمط عيشي و تفكيري وأحافظ على نفسي و على الآخرين؟
كيف لي أن أصف نفسي بالواعية و المثقفة، و أنا أجر أذيال التخلف والشعوذة و الغيبيات ورائي أينما حللت و ارتحلت؟
ثالث واقعة، في بداية شتنبر الماضي أصبت بتعب ومرض لا يتصور…كانت لي أعراض كورونا، واتخذت احتياطي داخل المنزل، أخذت البروتوكول العلاجي كله و بعد فترة النقاهة ذهبت عند الطبيبة لمزيد من التحاليل…عند ولوجي قاعة الانتظار، صدمت من عدد النساء هناك، ملتصقات لبعضهن البعض وبدون كمامات أو كن واضعات كماماتهن على ذقونهن….طبعا لم أجلس على الكرسي الشاغر الوحيد. فضلت الخروج والبقاء بالبهو واقفة منتظرة دوري. همست سيدة شاحبة لأخرى »وا ناري شحال حاسة براسها » رمقتها الأخرى بنظرة ساخرة وقهقهتا عاليا.
نعم، أنا أحس برأسي، عادي، فلو ضربته مثلا ضربا خفيفا حتى، هل سيحس آخر بالضربة أم أنا؟ أو ليس هو رأسي؟ ثم و بما أن لهاتين المواطنتين قدرة كافية من ملكة الملاحظة ، لماذا مثلا لم توجها ملاحظتهما لنفسيهما كي تعيا بقيمة الكمامة الموضوعة على ذقنيهما و تضعاها بطريقة صحيحة؟
الجواب واضح: لم نصل بعد للدولة الحديثة التي كتب عنها المرحوم كثيرا و تحدث عنها في محافل كبيرة.
أثناء تلك القبلة وذاك العناق بينه و بين ضيفه، التقى التقليد المغربي المعروف بوضعية حديثة وفيروس لعين مستجد، فوقع ما وقع.
هل كان على الدكتور الامتناع عن العناق والترحيب بعبارة لطيفة تذكر الآخر بخطورة الوضعية، أم أن كرم المغربي تغلب عن الحداثة في رمشة عين؟
متى نصل إلى اليوم الذي نقول فيه « لا » كي نشرع فعلا في انطلاقتنا لمجتمع حداثي يلتزم فيه الجميع بمسؤوليته أفقيا و كذلك عموديا؟
رحم الله أستاذنا جميعا….فهو توفي، لكنه لم يمت….أتمنى أن تقرأ كتاباته الغزيرة يوما في ظل مجتمع حداثي كي يعي القارئ المغربي بقيمة هذه المكتبة التي كانت تمشي على رجليها بيننا، ولم يحس بقيمتها المضافة إلا نزر قليل لكوننا لازلنا نعيش في مرحلة الشرنقة السرمدية للمجتمع المدني. فلا زالت للأضرحة مكانتها العالية، ولازال للجهل والظلامية ركنا كبيرا بيننا، ولازال للإلهاء فضاءه. الدليل أن شاشاتنا بجميع قنواتها سترقص رقصة البلاهة، السبت القادم، لأغنية مقززة لشبه مغنية بلاستيكية تبحث عن محفظة يدها كي تتجمل …
رحل سبيلا إلى عالم أفضل وشبابنا غارق في اللايكات على المؤخرات والروتين اليومي ….
متى الانطلاقة أيها اليساريون نحو مجتمع مدني حداثي؟
ماذا حضرتم كبرنامج واضح المعالم لذلك اليوم المنتظر؟ متى تعملون بجد كي نتخذ من العلم و الفكر سبيلا؟