رغيف الأمسيات ..

رغيف الأمسيات ..
شارك

د. سهيد ألعنزي تاشفين

    الليلةُ الظلماء العصماء، ما يزال بعضها يتذكر رغيف الأمسيات الذي كان يرقص بين تجاويد الحطب الجبلي، والوسادة بنكهة الأمهات كانت تومض بمفاصل الماء الذي ينزل قطرات بين جراح الخيزران الذي يسقِّف بيتنا الطيني الذي لا يزال جزءا من النحن الممزقة .

    الليلة التي كانت فيها النار هادئة تبعث دخانا لطيفا يرقص في كل زوايا المنزل الطيني الجميل الدافئ على مقربة من نخيل رخو يرقص كذلك شامخا رغم خيانات الأرض، وما تزال الذاكرة في ارتهان الأرق الباحث عن شبح البعيد الذي يسكننا رغم رائحة المقابر التي تخنق الأنفاس عابرة مساحات الفصل سديم الشوق، ونزيف يتوضأ من وسادة التأوهات مُعدّا ألف دعاء يُوجه من ثغر المنزل الوديع إلى سدرة المنتهى راجيا أن تخلد عروس الأمهات في بحبوحة فردوس السماء، ورحيل في شذى الطيف يُحدث عنهن و عنها كل أسوار القصر القديم الذي خدشته السنون والأيادي الآثمة ومؤامرات الوقت المنحط، وطفولة لا ترتوي إلا رهن القصيد شذرات من حزن بنفسجي، وبيادر البوح الهسيس للروح بين ثنايا الأمنيات تتلوّن مثل الزغاريد على شرف الشهداء على نغمات زغردي يا أمي يا أم الثوار، زغردي تسمعك كل الأطيار، ويرفرف هوسي على ألم الذكريات رويدا رويدا، ثم ينتعل احتراق الشمس إيذانا بقدوم النهار الذي ينقل أنين الوسادة بين نهود الأمسيات إلى باحة المونولوغ، والرفيقات يلاحظن الغموض على محيا حرفي ، و يتساءلن و هن مثل الرفاق لا يفهمون .

     عانقني منك في حضن حضنك يا أمسياتي في حزمة القمر الجاثية لديك أتذكر لعل ارتواء عيوني يخفف وحشة الروح، ثم انبذيني ألف دمعة كما ألف قطرة تخترق جدار بيتنا القديم وتنبعث ريح الندى وصالا مع عذابات الهجر، يا ذات الهمس الجريح وذات المواجد المرتعبة، والشاهدات يؤرخن للفراق على هودج التراب المخيف ، و الحنين جاثم في فلوات الأقاصيص النادرة و تنهدات الشذرات النبضات لوحدها حكايات عفيفات بحزنهن في محراب الرحيل الأخير .

   كم هي عنيدة هذه الحكايات التي تأتيني مع حلول كل الأمسيات على الصبابة أرقا في انتظار حلول الغسق المنير، وطيف من طيوف الشوق يغتسل في ضاحية الروح مغتسل دامع ونعاس، والروح تنبري لتغرق في ضفة الوصل المتقطع مع برزخ الجفاء، وعنها وعنهن الأمهات رفيقات القصر الطيني حين يمكثن تحت سور المدخل الأيمن من القصر الجريح ينتظرن وداع الشمس ليحل ظمأ الليل الذي يكتب خاصرة الوصال، وبعض من أتاي الأمس عند أذان الصلاة الوسطى، وأنا المصلي  بالأماني الثكلى تعبر كل المسام لتلقي السلام عليها و عليهن هنالك بالضفة الأخرى من الوجود حيث هواية الصمت تكفي لتوثق لجفاء السجايا في دهاليز الانتظار. وتلك الفجيعة ما انجدلت مني بالتواءات الأمكنة المتاخمة للوادي بضع مسافة من بهو  » تامردولت  » الذي هرم وحيدا في كنف العياء ، على محيا تلك الأرواح المصطفة على خصر الجبل الكئيب صاحب الوجنتين و غرابيب سود. وهي هنا حاضرة ألف حضور من ذكرى الشوق ، و ها أنا أتلو لها و لهن الآن سِفر الوصال، وعليها وعليهن تترحم كل حروف الشذرات الحزينات كخيبة أمل القافلة القديمة حين خارت لديّ في معرض الترحال من ذكرى إلى ذكرى بين تمفصلات الشوق .

    و ها هو قدحي من أتاي وحده يرد أمين، ويبتسم الله ويزفنا شهداء في معركة تعب الجراح ..

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *