تقاعد رمادي

تقاعد رمادي
شارك

بقلم/نورالدين النبهاني

أصعب شعور مزعج قد يصادفه الأستاذ في سنته الأولى، بل وفي شهوره الأولى من التقاعد.. أن يمر قرب مؤسسة كان بالأمس القريب فارسها، ومالك مفاتيح أبوابها، ومزين جدرانها، فأصبح اليوم لا يملك حتى حق الدخول إليها إلا بإذن مسبق.

 وأصعب إحساس مؤلم قد يعيشه، أو يحس به أستاذ متقاعد هو مروره قرب مدرسة ابتدائية أثناء الدوام الرسمي فيسمع عبر نوافذها ضجيجا وصخبا وأصواتا تتراوح بين أسئلة المدرس وأجوبة المتعلمين.. وهم منشغلون بدرسهم.. كل هذه الأجواء تغزو مسامعه وتنشط مخيلته فتجعله يستعيد ماضيه القريب الذي لا زال حيا طريا في ذاكرته.. أيام كان ينشر العلم و المعرفة بوزرته البيضاء، وكل إشارة منه كانت ذات معنى، حتى الابتسامة كانت تعني الرضى عن المردودية ..ويتحسر عن تلك الأيام التي كان يعيش فيها مزهوا بوزرته، وحوله صبية بقلوبهم الطيبة..يستمعون له ويتجاوبون معه.. في القسم .. في فضاء المؤسسة ..بباب

المدرسة.. أثناء الدخول والخروج. .وهم في صفوف متراصة يرددون النشيد الوطني يومي السبت مساء والاثنين صباحا.. وهو بوزرته البيضاء حولهم منارة في الصباح وبينهم شمعة بعد الزوال..

اليوم يمضي على الهامش.. محاذيا لجدار المدرسة  يَسْمَعُ ويَحِنُّ. .يَسْمَعُ ويَئِنُّ ..كَظِلٍ مَاتَ صَاحِبُهُ أوْ كَشَبَحٍ يقف على قارعة الطرق، يرى الجميع ولا يراه أحد.. ووزرته التي شَارَكَتْهُ كُلَّ تلك الأمجاد تعيش مُهْمَلَةً في رُكْنٍ مُنْزَوٍ بالدولاب لم يَعُدْ لِبَيَاضِهَا أيُّ مَعْنى ولا لارتدائها أيُّ مُهِمَّةٍ.. كأي كتاب يُهْمَلُ بعد قراءَتِهِ و يُتْرَكُ منسيا في مكان مُعْتَمٍ على أحَد الرفوف ..

حين وجد نفسه بجوار جدار المدرسة وحيدا و مُجْبَرا على الوقوف ليستعيد ماضيه، وقد ارتفع ضغطه بفعل السنين، وازدادت نبضات قلبه بفعل الحنين ، و صخب الاطفال لا زال يملأ مسامعه و جرس المدرسة لا زال يَرِنُّ في أذُنَيْه.. في تلك الأثناء أحس أن كتفيْه ما عادت تقويان على حمل رأسه المثقل بالذكريات، ورجلاه أصبحتا متعبتيْن من حمل هَمِّهِ بعد هذا المشوار ..(مشوار أربعين سنة من التواجد اليومي طيلة أيام الدراسة).

 لما انتهى من شريط مشواره، واصل سيره بخطوات بطيئة و حركات ثقيلة، و بالكاد رجلاه تحملانه..مبتعدا عن جدار المدرسة، وصخب الأطفال لا زال يطارده.. وأصوات المتعلمين لا زالت تلاحق أذنيه .

اليوم …

لم تعد لإشاراته معنى ولا لابتساماته فحوى ولا لوجوده ضرورة ..لأنه ما عاد هناك قِسْم ٌو لا عادت هناك صِبْيَةٌ . ولا وزرة ..   ولا سبورة. .وعليه أن يمضي بجوار المدرسة و لا يحرك ساكنا ..لأن صفحته قَدْ طُوِيَتْ و الى الأبد و فُتِحَتْ صَفْحَةً جديدة لأناس جُدُد.. حَلُّوا مَحَله.. وعليه أن يحدد مسار تَنَقُّلِهِ و يحصره بين البيت والمسجد ..ألم تكن هداياه التي توصل بها يوم الاختفاء بتقاعده تتنوع بين سبحة ومصحف و سجادة..لا خيار له الآن إلا أن يختار رُكْنًا منزويا في المسجد وركنا خجولا في البيت.. ويركن نفسه فيهما، كما رَكَنَ وِزْرَتَهُ في رُكْنٍ مُتطرف بِدُولاَبِهِ..

اليوم…

 أحسّ أنّ شمعته قد انطفأت، تلك الشمعة التي كانت تنير دروب الصغار..

اليوم…

أحس أنّ مكتبته التي كان يحمل في ذاكرته قد احترقت عن آخرها ..

اليوم…

أحس أن خبرته التي راكمها عبر سنوات، تبخرت في الهواء، وابتلعها الفراغ ..

اليوم…

أدرك أن هاتفه الذي كان يرن في كل دقيقة باتصال الآباء وأولياء التلاميذ قد أُصِيبَ بالخرس، ولم يعد له رنينا .

 بعد مرور عدة أسابيع على أول دخول مدرسي وهو مقصي عنه بسبب التقاعد.

أدرك اليوم…وليته ما أدرك..

أنه لم يعد فارسا ضمن الفرسان..لقد تَرَّجَلَ عن جواده يوم تقاعده.. وانضم الى كوكبة الراجلين، والمتسكعين بين الحدائق العمومية ..و لن يستغرب إذا مرّ الراكبون من الفرسان بجانبه ، و لم يلتفتوا إليه ..لأنه لم يعد فارسا مثلهم ..يحارب الجهل بالعلم و يحول النار الى نور ، يبدد به ظلمات العقول.. ويجعل النار التي تلتهم الأخضر و اليابس الى نور و ضوء و مصدر إلهام ..

استوعب اليوم…

أن تلك سُنّة الحياة ،أوراق تذبل و تفقد لونها فيُحْكَم عليها بمغادرة مكانها و السقوط من أشجارها لتحل محلها اوراق مزهرة خضراء  مع تعاقب الفصول بين الخريف والربيع .

هذه الأحاسيس كانت تنتظره ..وتجاهلها لسنوات..

هذه المشاعر كانت له بالمرصاد وهو عنها غافل ..

لم يَصْحُ من غفلته إلا وقرار الاشعار بالتقاعد حد السن في يده ..ينبهه قائلا:

هنا يتوقف المشوار ..هنا تنتهي المهمة .. ساعتها أحس وشعر بأنّ الزمان يتوقف. يتوقف به.. يتوقف عنده.. ويستمر عند الآخرين ..

يتسمر في مكانه، والدنيا تلف حوله و تدور، عابسة في وجهه.. مبتسمة لغيره، للذي لا زال في الدرب سائرا..

كغيره استسلم لأمره.. وردّد مع نفسه كسابقيه (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ) ثم سار في دربه الجديد.. مع قافلته الجديدة.

فقط مروره اليوم بجانب المدرسة.. محاذيا لجدارها..

مستنشقا عبيرها.. حرّك فيه كل المواجع ..وأعاد إليه كل الذكريات ..

ذكريات لأجيال وأجيال على يديه تعلمت..

ذكريات لأمجاد و بطولات على يديه تحققت..

ذكريات لوزرته البيضاء التي أُهْمِلت بالدولاب.

ذكريات لسبورته السوداء التي استبدلت بالبيضاء..ورموها مع المتلاشيات..

ذكريات لجدران قسمه الذي سجل أمجاده و محاه الزمن بممحاة النسيان..

وصخب متعلميه الذي زال أنيسه في وحدته..

 اليوم …

ما عاد يملك إلا ابتسامة شاحبة أطلقها في الهواء مع زفرة وتنهيدة..ثم واصل سيره الى المسجد لأداء صلاة العصر.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *