هفهفة بوح وزمردة ذاكرة
د.سعيد ألعنزي تاشفين
الجميلون العميقون يطردون وحل الظلمة بإشعال النور ، هؤلاء لا يمكث بحضرتهم عجزُ مهما استبدّ الحصار ، ولا وهنُ مهما جلّ العياء ، ولا ظنُّ كسيح مهما استفاض طيش الرعاع . الجميلون لا يعرفون سوى الإنسانية ملّة ونِحلة وديدنا سبيلاَ، هم من يسقط السهو من ركابهم ثم يستمسكون بالحلم من جديد، إنهم يأتون في كل المواسم عبر ركاب ابتساماتهم رغم كل الخراب يغسلون أجنحة الحزن من وسوسة الغيوم، يناظرون الشمس بالوجوه النيّرة المشرقة وسبحانه يعز من يشاء .
الجميلون العميقون هم أنسي ومتكأي و موعدي ونشيدي ، وهم ما يظل في الذاكرة عندما تسقط الأقنعة و يرحل المزيفون .
و هذه تارة أخرى رسائل في حضرة البهاء ها هنا تحت رموش الأرز بحضرة بلاد زيّان، والانتباه المستقيم في كنف النّجوى و قدرة الخلق تثير عشق الخضرة هنا ؛ وأشياء جميلة لله يا هذه البلاد العميقة .
البلدة التي أمسكت بطرف اغترابي لتعلمني صحو النشيد على خطى جدتي من أمي التي كانت من هذه التربة المعطاء . إنها هيبة أم الربيع و تلك الخواطر ما فتئت تنسرب إلى أفياء الروح من شرايين قلب الأطاليس ومن باب اللهفة تطرق أبواب الروح بكل مثابرة، بينما الخيال يأبى ثم يأبى أن يصافح الروح إلا على عتبات التاريخ، بينما شعر الأرز الغجري يقرؤني مجد السلام ، بينما ذاكرتي العصماء تكبو كل مرة و تنزف مثل ضفة الروح الأخرى للجغرافيا فجر الانتماء إلى فسطاط الأطلس عريس الأمكنة كلها؛ وكأنها تخبرني ببشارات البسط حين قبضة حزن تشاكسني.
هنا القلب في مناظرة مع المكان للوصول الى سهب التاريخ ، و تجيء هذه الضحوة المدهشة تذكرني بنبل شيخ المقاومين خالي موحى أحمو ، و هذا المقاومة الأصيلة التي تجمع بين سجايا قلّ أن تجتمع مرة واحدة كما في نزلة البطولة هنا ، ذات الإيقاع الذي هو يشبه هادرات السيول بكل تلقائيتها تبسط حكمة أولى و ثانية و كأنها أفواج الأسفار المقدسة على ركاب العاديات ضبحَا و المغيرات صبحَا ، تنجدل مع طبائع الكون كأنها تنتزع ذاتها من براثن الأوحال الكونية كلها .
سبحانه كان يعلّمنا عبر ايقاع المرأة و الأرض ، و هما صلب الذاكرة ، سجايا الوجد الأصيل ، مطر ينزل من عطايا البوح الودود ، تتقدّم الذاكرة شظايا بكل إلفة كأنها بالأمس كانت مع وحي الخلق الأول في واحدة من قُرانا على مشارف تلك البلاد ، ثم برهة انسجمنا جميعنا أنا و ما بقي مني و الذاكرة و النزيف بلا موعد في رحلة تعرّفنا فيها ألف وصال و يزيد على المكان و جوهره و ارتحلتُ في فضاء لا نهائي لأقرأ تلك الرسائل من جديد حِبرا وثّقه نزيف الذاكرة و الأمكنة في حلّة الأطلس المتوسط بفج وديع بين مريرت وخنيفرة أيقونة الرّحاب ، أجدني سأذخرها، هذه الذاكرة، الى حين أحسن القرآة ، غير أن خشوع البوح يقول إن التاريخ ممشوقا بالحنين يهمس غضبانا آسفا من رعونات الجحود ، و الحصيات و أشعة الشمس الرحيمة التي لا تشبه ذاكرتي الأطلسية الوهيجة بينما كان ذعر التذكّر يتلصّص خجولا من بعيد ، و هذا صخر أرواح ملتوِِ ليس له عليه من سبيل ، ثم أطلّ عبر لتامات مسام بعض السابلة منّي ليكبو في طريق النسيان و يلفظ شذرات نزيفات على حسن توجه الشامخين الدامعين .
هنا أجدني أتلو في أجنحة الماضي التليد أن الحكايات الرّحيمة هي التي ستبقى خالدة في سفر الروح ، قرأت أن فجر الأم التي رافقتها في رحلة لطيفية الله هي أم القديسات ، قرأت في ذات الأجنحة أن المواسم كلها بعض وشاح في جنان الذين يحضرون على ميعاد الله ببحبوحة الذاكرة ، ثم دلّتني النسائم على خاصرة اليقين التي تطرق انتباه اللون بالوجد المنبلج ، و النسيان لا يكتب الأسماء إلاّ رهن انبعاثها لتهون علينا ببسطها قبض الأيام التي كبّلتنا في البلاد الرحيمة ، البلاد التي سامرتنا و علّمتنا أن نلتقط الأسئلة من جديد ، أن نصافح اللون في دروب الانتباه ثم نتلو أحجيات الحبوبة على اتساق الأزمنة الجديدات من رحم القديمات ؛ ثم طفقتُ أقرأ الرّسالات وأرمّم جراح الحكايا التي كتبت على أجنحة الليل على شرف أمي هناك هناك، وحبيبة وحيدة من دمع عصرتها بشائر القدر رغم طول المسافات بين الهنا و الهناك . و تارة أخرى و أنا الآن أعلى الجبل مع الذاكرة و حسن استرجاع الانتماء تاج على بيدر الفطنة الأولى و الروعة الثانية ، بينما في التفاصيل الصّبوحة لما زرت روحي عند خصر الوادي اقتحمني حسن الجوى بنكهة خالي موحى أحمو ، و هما احتمالات لذات اللقيا أعلى الانتماء و سفحه بالمواعيد السلسبيلْ .
فيا سبّحات الغوث كيف يكون التّرجمان محترفا لفكّ غموض الحرف و ضبابية المعنى بثنايا الحكايا و الشذرات ، يا فصاحة النشيد كيف يكون الانتباه ها هنا و كلّي شوق و حنين ، و الغفيلة قداسة أبحث عنها إذ ما ارتوَت منها مُخيّلتي و قمحت الفلوات بكلالة من صمت ، و انفلق البوح من جديد ، ثم عدنا بعد أن لوّحتْ أكفّنا بالسلام الرحيم و تلوّنت البيّنات بعقال الأزمنة المنفلتة من كل سجى، الآيبة الى رحاب المعنى والأسماء الراسخة في قيعة الانتباه ..
هكذا قال لي ومضى على شرف الذاكرة و النزيف .