الظلم بالعادة
باريس: حسن برني زعيم
لعل الذين تعودوا على ممارسة الكذب كسلوك يومي لحظي لصيق يصعب عليهم أن يميزوا، يوما مــــا ، بين الصدق والكذب ، وبين الحقيقة والحلم، ذلك لأنهم » تجرعوا » حقنة تلو أخرى كي يُسموا الكذب صدقا حينما يصدر ممن يعتقدون أنهم أكبر منهم أو أقوى ،أو ممن يرغمونهم على ذلك ، ويسمون الصدق كذبا كلما جاء به من يتوهمون أنهم أصغر منهم،أو صدر ممن يقبلون الإهانة والذل… وبهذا المنطق » المشلول » يقضون أيامهم متأرجحين بين اللحظة التي يكونون فيها صادقين وبين الساعات والأيام والشهور والسنوات والعقود التي مرت عليهم كاذبين، وهكذا ، إذن، تتبخر، مع مرور الأيام، فرصة الصدق لديهم، ويصعب عليهم أن يؤمنوا بشيء اسمه الحقيقة أو أخوها الحق، لأنهم تلقوا « برمجة » على إيقاع الكذب وشقيقه الباطل تكاد تصبح » كطبيعة جينية « …
كما أن تعلم الخضوع والخنوع بالعادة أمر خطير على سلوك الإنسان والحيوان على حد سواء، فقد أثبتت دراسات نفسية وسوسيولوجية وأنثربولوجية وتاريخية كثيرة، لا يتسع المجال للخوض فيها ، أن لتعود الناس على الخوف آثارا بارزة في حياة الأفراد ومصائر الشعوب ، وتتمثل « خطورة » هذا النوع من التعود في أنه يدخل في ما يسمى « صناعة الخوف » بالتدريج ،ويعمل – للأسف – في اتجاهين متكاملين و متناقضين في آن، وهذا وضع آدمي « غيرإنساني » يعد من أغرب ما توصلت إليه البحوث السيكولوجية ، حيث نجد الظالم ،الذي تعود على ظلم الآخر، يقابَل ، من لدن المظلوم ، بطيب خاطر إلى أن تصبح العلاقة بين الظالم والمظلوم – في نظرهما- حتمية لا يفكر أي الطرفين في تغييرها، بل نجدهما يجتهدان ويبحثان ، معا، عن الوسائل والطرق والمبررات ليبقى الوضع كما هو، وبالتالي يصير الأمر، في نظرهما، » طبعيا » لا يأتيه الباطل لا من قبل ولا من بعد.والمثير للتساؤل أن كل واحد منهما ، في أحيان كثيرة، يعتبر الآخر صديقا ، لا يحمل إزاءه أي حقد أو كراهية أو شك، و قد يحصل هذا النوع من الظلم – بالعادة – بين زوجين أو أخوين أو صديقين أو أب وابنه أو عامل وصاحب معمل وغيرهم كثير…
ونتيجة هذا الوضع أن الحقيقة والحلم يصبحان ، في اعتقادهما ،كصفحتي ورقة ، لا بقاء للواحدة دون الأخرى ، وكذلك الحق والباطل، وبالتالي سيواصل الظالم حلمه بأن تبقى الحقيقة كما تعودها ، وهي ، في تصوره ، مرادف الحق الذي كرسه بمساهمة المظلوم من خلال محدودية أفق أحلامه التي لا تتجاوز النجاة من زيادة بطش غاصب حقه ، وأما ظلم ظالمه فقد صار ، في اعتقاده ، شرطا من شروط بقائه على قيد الحياة.
ومن هنا يمكن أن نجد مدخلا لفهم شيء ما من أحوالنا التي لا تتغير نحو الأفضل ، حيث إن كثيرا منا تعودوا أن يعيشوا دون تمتعهم بحقوقهم حتى صارت المطالبة بها ، في نظرهم ،باطلا ، واقتنع كثير منا أن استمرار غصبها حق،وهذه من أهم الأسباب التي جعلت فئة عريضة من الناس يتخلفون عن المشاركة في المطالبة بالحقوق ، أو عن الانتماء إلى الأحزاب و الجمعيات و النقابات ،على الرغم من مشروعية ما نطلبه من حقوق أقرها الدستور والأعراف والطبيعة ، ولعل ما يفسر عدم انخراط بعض الناس في حراك المطالبة بالحقوق هو » تسلل » العلاقة غير الشرعية بين غاصب الحقوق والمغصوبة منه ، وهو اعتقاد ترسخ وترسب في الأذهان، ويحتاج إلى « صعقة توعية » ، من أعلى درجة ، تبدد الوهم المسيطر منذ سنين وسنين .
وهذا الوهم ،الذي يرى أن التغيير والوقوف ضد الظلم من المستحيل ، يكرس لبناء « معتقدات » اليأس والتيئيس الأبدي ، وهو عمل غير صالح بمقاييس السماء والأرض. وهو – ربما – ما تسعى الدول القوية إلى » تصنيعه » وتصديره وترسيخه للتحكم في مصائر الدول المتخلفة إلى الأبد، فلقد جعلتنا هذه الدول مقتنعين و واثقين – بحكم خوف أسبابه غامضة – أننا عاجزون عن « صناعة » آلة أو تحقيق عدل أوعيش في حرية وأمن أو بناء ديمقراطية أواستقلال في قرار، وبدا لنا أن مجرد التفكير في طريقة للتخلص من التبعية يعد ضربا من المستحيلات، بل إننا – وللأسف – نعتز بالتبعية الشاملة تحت اسم الانفتاح على العولمة والبحث عن الشريك الاستراتيجي الذي لم يكن ، بالأمس القريب ، سوى غاصبٍ نَهَبَ خيراتنا وقتل أجدادنا و حاصر تفكيرنا و اجتهد كثيرا ،ولا يزال يجتهد ، لطمس تراثنا وثقافتنا ولغاتنا الوطنية، ومن حين لآخر يكون مصدرا لإزعاجنا بإصراره على عرقلة أي محاولة لنهضتنا دون الاتكال عليه ، رافضا كل تعاون متكافئ مبني على الاحترام المتبادل ، متشبثا بنظرته الدونية إلينا ، وكمثال لذلك » نقرأ » لائحة شروط العبور أو ما يسمى بالتأشيرة التي تفرضها الدول القوية على مواطني الدول الضعيفة ، والتي لا ترقى إلى النظرة الإنسانية وحقوق الإنسان بقدر نظرتها إلى المصالح الخاصة والمال .
قد يبدو هذا الطرح كفرضيات بعيدة عن الواقع، ومن أجل البحث عن بعض البراهين يكفي أن ننظر في أحوال بعض مرافقنا الاجتماعية ، ونضرب مثلا – من أبسط ما يكون – بالمقاهي التي تغزو الأرصفة وتحرم المارة من حقهم في السير باطمئنان ، فلماذا لا يطالب الناس بحقهم في الرصيف رغم تعرضهم لخطر السيارات كلما نزلوا إلى الطريق بسبب ما يجدون أمامهم من حواجز الموائد والكراسي والأغراس والدراجات العادية والنارية المربوطة أمام المقهى ؟ ألا يعلم بعض أصحاب المقاهي أو جلهم أنهم يغصبون حقوق آلاف المارة ؟ وهل يجهل كل المارة أن من حقهم رفع دعوى على مالكي المقاهي أو مسيريها أو ضد الدولة التي لم تحميهم من مغتصب حقوقهم؟ ولماذا لا يتدخل راكبو سيارات الأجرة ، مثلا ، لردع السائق عن الإفراط في السرعة وخرق قانون السير الذي يعرضهم للخطر؟ لا شك أن هناك أسبابا أخرى كثيرة تمنعهم من ذلك ، ولا ريب أن التعود على الظلم واحد من هذه الأسباب على الأقل.
واليوم ، وبعد التقدم النسبي في التمتع ببعض الحقوق – ومن أهمها حرية التعبير والإضراب والوقفات الاحتجاجية أمام البرلمان والمؤسسات العمومية – ، يجب أن نتعاون جميعا من أجل إقناع غاصب الحق والمغصوب منه بأن حراك المطالبة بالحقوق مشروع ، وأن مراهنة الظالمين على التوقف عن النضال ما هو سوى وهم يضاف إلى الأوهام السابقة التي « دوخت » المظلوم و »فرعنت » الظالم منذ سنين ، حتى ظن المظلوم أن حياته لا تستقيم ، ولن تستمر إلا بالذل والجبن ، واعتقد الظالم أنه باق ومتمكن بفضل نجاحه في الاستعلاء والسيطرة واحتقار الناس ، في حين أن الحقيقة لا عند هذا ولا مع ذاك.