الفكر المدني وعوامل الردة في المجتمع المغربي
المنظار ( الجزء الأول )
الأستاذ سعيد ألعنزي تاشفين في هذه المقالة الثرية يسلط الضوء بالمواكبة الفلسفية والفكرية لمظاهر تفكك هيمنة اللاهوت السياسي في أروبا وما اعتمل فيها عبر التاريخ، من تحولات مست في جوهرها نظم العلاقات الاجتماعية، وما رافقها من تيارات فكرية انتصرت في نهايتها للفكر العقلاني كما انتصرت لتحولات طبقية نمت على أنقاض الفيودالية.
هذا التقديم الثري في رصد للتحولات الكبرى بأروبا، يجعل منه الأستاذ سعيد تاشفين، مدخلا لفهم طبيعة المجتمع المغربي وهذا العناد القوي الذي أنتج مزيدا من الأعطاب..
وهي أعطاب استدعت التشريح لمراحل من تاريخنا الوطني نترك تأملها والنقاش حولها للمثقفين والمعنيين بقضايانا السياسية والاجتماعية الراهنة.
ونظرا لخصوبة الموضوع وثراه المعرفي ارتأينا تقديمه على ثلاثة أجزاء.
بقلم د. سعيد ألعنزي تاشفين
كانت دوغمائية اللاهوت السياسي تاريخيا، تمارس مختلف أشكال التسلط، مستغِلة ما تستمد من شرعية من المقدس التيولوجي ،الذي جعل المحتكر للشرعية في مختلف دوائر السلطة.
وطيلة العصور الوسطى ، ظل الله في الأرض بما أصّل للفهم التيوقراطي للمشترك الإنساني الخاضع لإكراهات التصنيف. ولذلك ، بعد زمان ممتد على طول أروبا من الصراع والتدافع، إلى أن جاءت ولادة المجتمع المدني، على أنقاض مجتمع الكهنوت، الذي حكم مختلف أصقاع شمال الحوض المتوسطي إبان الزمن القروسطي بالحديد والنار خدمة لأجندة الهيمنة كما كان يرتديها زوج كنيسة / إقطاع ، والذي كان يثير مختلف النزعات العدائية لفرملة سلطة العقل من الانبلاج تحت سقف محدودية التحليل والتجلي. ولذلك حاول المجتمع المدني بأروبا، منذ الولادة الأولى كثورة فكرية جوانية ضد الفيودالية، أن يضمن لنفسه الاستقلالية عن السلطتين الزمانية والمكانية؛ وذلك بالبحث عن موطئ قدم ضمن نسقية الفضاء العمومي الجديد، الذي بدأ يتشكل بإيعاز من الطبقة البورجوازية التي خاضت حربا شرسة لانتزاع المشروعية، من كهف احتكار الميتافيزيقيا من لدن لصوص السماء ، حرصا على صون نبله المؤسّس على فكرة التطوع والحرية الفكرية في نسف الوثوقيات المؤسِّسة لروح التاريخ المعياري، كما وصفته الكنيسة أولا، ثم التحرّر من كل أشكال الوصايات كفكرة مطلقة جديدة وبديلة انطلقت من رني ديكارت صاحب الكوجيطو، ثم عبرت كل مساحات الخلخة مع سبينوزا الذي وضع عقيدة اللاهوت السياسي اليهودي وفلول الكاتوليكية في محك الدحض، نحو فريدريك هيغل الذي وضع لبنات الديالكتيك كمنطق جديد في تأويل التاريخ وفهم نظائمه، ثم لتستقر ختاما بباحة العقل الجديد المستقرة على مائدة الحداثة.
و نجد ميلاد » مقال في المنهج » وربط الوجود بالتفكير من خلال نظيمة الذات الحرة المفكرة، كان أول تمرد عقلاني واع ضد التيوقراطيا التي جعلت التأويل الإكليريكي للمقدس في خدمة رهانات التحكم وممارسة التعسف في توجيه المدنس الدنيوي بخلفيات الفهم الإكليروسي للوجود، ضدا على مفاهيم الحرية والتنوير والمسؤولية ؛ وهو ما انتهى بتمييع لعبة الجدل – الدياليكتيك بالمعنى الذي ولد فيما بعد مع كارل ماركس ومع لوديغ فيورباخ . وعليه جاءت ولادة المجتمع المدني من رحم الفلسفة الحديثة كنمط فكري جديد رعته الطبقة البورجوازية التي احتضنت العقل كأداة منهجية وكميكانيزم إجرائي لنسف أصنام الكهنوت والإقطاع، باعتبار الفلسفة ولدت كتأمل عقلاني جديد قائم على مبدأ الحرية في تأويل كل البنيات الفوقية، من فن و أداب وأيديولوجيا وتحليل مفارقاتها كما أفرزتها البنية التحتية كنمط إنتاج جديد محدِّد، قوامه تحكم نظام اقتصاد السوق في كل دواليب العلاقة الأفقية والعمودية بأروبا بعد نجاح الكشوفات الجغرافية الكبرى وميلاد اقتصاد ميركانتيلي على شظايا الإقطاع، ودعمته البورجوازية كتشكيلة سوسيو – اقتصادية جديدة راهنت على المدينة بفلورنسا وجنوة والبندقية وكل حواضر البورجوازية الصاعدة كفضاء عمومي عقلاني لبلورة المجتمع المدني من أجل الحسم مع مختلف أشكال التحكم المشرعِن لأعطاب التخلف باسم التسلط المسيحي الكاثوليكي، الذي استثمر في معارك التجهيل المقدس لمحاصرة انبلاج المواطن كقيمة وجودية مركزية من جبة الفرد، كرقم منتهَك في معادلة الإخضاع المقدس كما وضح أوليفيي روا فيما بعد..
ورغم أن نجاح الإصلاح الديني كان من أبرز المداخل المنهجية للحداثة كما تشكلت بعد إعادة ترتيب العلاقة بين الأرض والسماء بمطرقة تصويب العقيدة برفض الوصاية والحجر، ونسف كل تداعيات صكوك الغفران الزائفة في اتجاه تحرير السماء من ضغوط التحكم بالأرض .
ومغربيا ، عكس أروبا التي أنجبت المجتمع المدني كسلطة مستقلة بعد مخاض مرير من الحرب الفكرية-الثقافية ضد زواج المتعة بين الإكليروس – الكهنوت والحكم المطلق، كانت الولادة قيصرية قاسية بحيث تجلت قيصرية الولادة و قيسرية الميلاد بعد مخاض شاق صنعت بريقه الكولونيالية التي عملت على إخضاع كل أصقاع جنوب المتوسط عموما، وضمنه المغرب تحديدا لقربه الجغرافي، لمقولة اقتصاد السوق خلال القرن التاسع عشر الميلادي وفق شروط الهمينة الرأسمالية من مداخل تيسيير استيراد » الحداثة » واستنبات التحديث ؛ وضمنهما فكرة المجتمع المدني كآلية ذكية للتأقلم مع زخم الغزو المبين الذي حققته الرأسمالية بهدف تطويع الشعوب و بسط السيطرة خدمة لتسلط الرساميل.
و فعلا ثم استيراد الحداثة كسلعة برانية دون أي مضمون تاريخاني كما ارتضاه عبد الله العروي في معرض دفوعه عن شرعية الحداثة من داخل مسار الإصلاح منذ الحسن الأول في كنف قوة الإخفاقات ، وبإيعاز من النخب المدينية التي حافظت على التقليد في العمق مع شكلانيات حداثية ذات بريق ووجاهة بما كان يروم جلب عطف المركز الإمبريالي تكتيكيا لتفادي الصدام مع ترسانة الحداثة المُغرية والقاسية في الآن ذاته؛ خاصة غداة هزيمة إيسلي التي عرّت هشاشة » المخزن » ( المخزن بما هو مفهوم تاريخي صرف ) ، في كل تفاصيل سيرورته التي فككت مسارها الباحثة هند عروب منذ ولادة المفهوم إبان العهد السعدي، ومعه المجتمع التقليدي الذي أصيب بالاندهاش حيال ما كشفت عنه أروبا من تقدم هائل برهن على تفوق العقل » الكافر » على تراث دار الإسلام.
والأساس منهجيا أن فكرة الأحزاب السياسية أولا ، ثم الجمعيات ثانيا ، والنقابات فيما بعد؛ وكلها مؤسسات مدنية بشكل ما، لم تتجل يوما ما كإفراز ذاتي – جواني أملته الدينامية الداخلية بفضل نضج ميكانيزم الفرز الطبقي وميلاد البورجوازية من رماد الإقطاع وانفلات العقل من طقوس الجهل المقدس، بالأحرى كانت تجلٍّ لخضوع كل البنيات التقليدية لنمط الهيمنة وفق شروط صدمة الحداثة كشرط موضوعي قاهر حددته ظرفية التفوق الأوربي الرأسمالي الذي حرّك هواجس الشرط الذاتي في سياق المقاومة بالحيلة لتفادي الهجوم الرأسمالي الذي استهدف جنوب البحر الأبيض المتوسط خدمة لمطامح الرأسمال الصناعي الجديد.
ومنذ إصلاحات الحسن الأول مساء القرن التاسع عشر، إلى ميلاد حزب كتلة العمل الوطني فجر ثلاثينيات القرن العشرين، ثم حزب الاستقلال الذي لملم كل أطياف الحركة الوطنية عام 1944 ، إلى ميلاد جمعيات الهضاب والسهول والجبال؛ كانت دائما تجليات الحداثة مؤسساتيا وشعبيا مجرد بريق يخفي كثيرا من نكوصية ضاربة الأطناب في أعماق البنيات الثقافية وسلوكا وممارسات سياسية وجمعوية وذهنية منمَّطة على منوال الترتيب الانقسامي للأدوار الرمزية والمادية بما يحتفظ على عمق التقليد ضمن شكلانية التحديث كما بين الجابري في كثير من المتون بمحاذاة استنتاجات محمد الطوزي. ولذلك لم يشهد الفعل المدني ولادة طبيعة حتى يتسنى له الإسهام في تقويض دعائم النكوصية المركبة التي لازمت مختلف الحقول الدلالية مغربيا وأنتجت هابيتوسا خاصا رغم ما دخل على مختلف الحقول من تحولات طفيفة بعد ردح من زمن التكيّف المنهجي مع انتصار العقل » الكافر » على وهم التفوق الذي لازم المغرب منذ انتصار وادي المخازن الذي أصاب البنيات التقليدية بوهم التفوق وبغرور الخصوصية بما خلق من حالة ستاتيكو بسيكو – مجتمعية بمنأى عما كان يتحقق بأروبا من طفرات نوعية.
والمجتمع المدني إذن لا غرو ولد معطوبا لكونه جاء كرد فعل جماعي نفسي وتكتيكي ؛ » القبيلة / العشيرة / العائلة / الجماعة / » المخزن » ، وكانفعال فردي تحت وقع التحولات المفاجئة لمزاج العامة والجمهور إزاء تفوق أروبا المسيحية خلال الهزيمة النكراء في واقعة اسلي التي أماطت اللثام عن عورة التأخر التاريخي العميق وعن العجز الجليل في مواكبة وثيرة الحداثة، وزادت ثقافة الجهل المؤسّس، كما جسده الفقه الديني الرسمي مع نخبة أهل الحل والعقد إبان القرن التاسع عشر، في خضم رفض ما حل بالمغرب من واردات صناعية ضمن سيولة التحديث كما وضح محمد سبيلا في متنه المغرب في مواجهة الحداثة، في تعميق أعطاب التقليد خدمة لأجندات التأقلم التكتيكي مع الحداثة لحماية النكوصية، ليتحول مجال الجذب فيما بعد إلى الفعل الجمعوي والسياسي و الثقافي ، كمجالات تحتضن الممارسة المدنية، المختزنة للكثير من فرص الانزياح و التملص اللاواعي خدمة للتسط المقصود وبسهولة عبر تحديث شروط القبلية ولعشائرية و الطوطم و الباطريارك باسم فعل مدني تدليسي غايته الوثقى حماية التقليد من استيعاب الحديث ضمن جدولة الحداثة كعنوان بارز لأزمنة العقل الجديد كما احتضنته الفلسفة الحديثة شمال البحر الأبيض المتوسط.
وبدل أن يكون الفعل المدني مدخلا أساس لبلورة وعي مجتمعي جديد على أساس فكرة الحداثة كماهية معيارية مشكلة لروح التاريخ الجديد على قاعدة تحرير الفرد، من تسلط البنيات الجماعية وتكسير القيود المحاصرة للمرأة كنوع بشري ( الجندر )، والتي كبّلتها بسياجات التفسير الباتريريكي لمقومات النوع الاجتماعي كمحدد حاسم في تفكيك حتميات الهابيتوس رمزيا، نجده يظل فعلا فوضويا جامحا أو نخبويا صامتا لدواعي ذاتية بما يعاند تيار الزمن الجارف القائم على الإخضاع التعسفي، لقوالب الرأسمالية الجاهزة.