الحكي الأول عن الطفولة … التي كنتها

ثريا الطاهري الورطاسي
30 يونيو 2025
استهلال للبدء:
* بركان مدينة تنام على عطر البرتقال، تستفيق على همس الريح القادمة من جبال » بني يزناسن « .
* بركان فكرة بعيدة، كلمة وازنة، شوق إلى الماضي السحيق، زمن يَحْفِظُ في ذاكرته مظاهر الحياة ومباهجها.
* بركان العذوبة والسكينة والطمأنينة،
إذا نظرت في مياه نهره » ملوية » وماء
» شراعة « ، رأيت وجه المدينة وملامحها المنبسطة، والشوق الذي يلامس سهل
» تريفة » الغني بعطاءاته الوفيرة.
* بركان تذكارات تعيد على مسمعي أهازيج النساء في الليالي المثمرة، أغاني الفتيات، دقات » البنادير والطعريجة » التي تصدح بين صلاتي العصر والمغرب.
* بركان بكل أحلامها وأمانيها ودقات أجراس كنيستها، هي مسقط رأسي وطفولتي ومجالس صديقاتي، حيث تغريد الشحارير، دقات الدفوف خاصة خلالها مواسم الأعراس.
* بركان الفتى الشامخ المنتصب القامة،
في مواجهة جبال بني يزناسن، هي مَوْطِنٌ فَلَّاحيُ يُطوع الأرض، يحولها بساتين وضيعات خصبة معطاء.
* بركان مزيج بين القبائل المتعايشة، السامية الطباع والأفكار، الوَلاَّدَةُ للمناضلين المقاومين لفلول الاستعمار، والشباب المشبع بأفكار ونهج التيارات اليسارية.
* بركان موطن البرتقال وثمار الزعرور
– المعروف عند المغاربة ب » المزاح » – ونصبة اللوز التي يغرسها القرويون في « تافوغالت » . خريفه كروم الدالية التي تسيل خمرا، وشتاؤه قساوةً وبردا تجود به جبال ورطاس، وربيعه يقضة وانتعاشة في غابات الصنوبر وباقي الأشجار المثمرة، أما صيفه فهو المتعة والاستمتاع في الشواطئ الذهبية لمنطقة السعيدية الممتدة على رمال البحر المتوسط. وطربه غناءات واهازيج » الركَادة » و » الراي ».
تلكم بركان المدينة، التاريخ، الطبيعة، وهي الشهادة الشهيدة على الدوام .
اعادة حكي لرحلة الذكريات
ان الذكرى لا تموت حين تروى، بل تبعث من رمادها فينقا جديدا ، وقد ارتأيت أن أبدأ هذه الرحلة في ذاكرة طفولة كنتها ذات زمن ولى ، غير أنها لاتزال في دواخلي حية تُقَاوم آفة النسيان، دون أن أبتغي أي استعراض لحياتي ، ولكن لأصافح تلك الطفلة التي كنتها قائلة : لقد ولازلت وستبقين نبتة طيبة في أرض اسمها بركان قبل أن يدفع بك الزمن والأقدار إلى التواجد في بقاع أخرى من الوطن ، فاس،
الناظور، الدار البيضاء، طنجة …
وُلِدَتْ طفولتي بمدينة بركان وامتدت، وها هي تشيخ كأغنية حالمة تتردد على لسان الزمن. وأنا المقتنعة بأن الطفولة ليست مرحلة عابرة في حياتي، بل هي الينبوع الأول الذي تفجرت فيه ومنه أحاسيسي الأولى، أحلامي الصغيرة، هواجسي التي كنت أراها تكبر معي، وأحسها عند كل شروق يضيء المدينة.
بركان لم تكن مكان ولادة فقط، بل كانت حضنا، لغة، تقاليدا، هويٌة، وفي تفاصيلها
وبينها تشكل وعيي، نمت ذكرياتي وتكونت أولى ملامحي الفكرية وتبلورت تمثلاتي. الأمر الذي دفعني إلى أن أستعيد بعضا من تلك المرحلة، ليس حنينا فحسب بل لأحاول فهم من أنا اليوم؟ وكيف ساهمت تلك البدايات في رسم معالمي وخط سيري أنا الطفلة، الشابة، المرأة، الإنسانة … ومنها إلى معترك الحياة.
طفولتي … ما تبقى من الضوء في آخر النفق
حين يهتم المرأب بالحكي عن طفولته، فهو يفتح نافذة ويتركها مشرعة، تطل على زمن لا ولن يعود الا بصيغ وأساليب أخرى، زمن لا يقاس بالسنوات ولا يختصر في التواريخ. لأن الطفولة ليست ماضيا فحسب، بل هي جذر سري يشدنا إلى الأرض، كلما أوشكنا أن نضيع في طرقات ومتاهات مراحل العمر الأخرى. وهي النبض الأول الذي يرافقنا مهما تقدم بنا العمر.
منذ أن كنت بها – مدينتي – عرفت كيف كانت تخبئ دفء المنطقة الشرقية من بلادي، في قلبها بين جبال » بني يزناسن «
وسهل » أنكَاد «، وتمنح أبنائها القدرة على المزج بين البساطة والاعتزاز، بين الحياء والقوة، بين الحلم والانتماء، لأنها لم تكن في زمن الطفولة مجرد جغرافيا مكانية، بل كانت تاريخا شاهدا على عالم مكتمل الأركان. فهي الرحم الثاني الذي احتضنني، فكانت مدرستي الأولى، ساحة لفرجتي، دارا لتكويني ومسرحا لدهشتي ومجالا لممارسات كشفية صقلت مواهبي ومتحفا للأصوات والروائح والألوان. كل شيء فيها كان يبدو أكبر مما هو عليه في عيون الطفلة التي كنتها، غير أنها قادرة على التقاط واختزان الذكريات في زوايا الحي الذي سكنته رفقة والدي، وبعدهما صحبة جداي لوالدتي، فتعلمت لغة الحياة، القيام بمختلف الأعباء المنزلية، طقوس المحبة، فاكتشفت ذاتي بالعاطفة حين تدربت على الحذر من التعثر وتحمل المسؤولية والقيام بالواجب، ولو في غياب أية مراقبة، فغرست في قلبي آمالا لا حدود لها وكنزا لا منتهية قيمته، يُقَدَّرُ بالرضا، بالدفء الإنساني، الشعور بالإيمان، بقيمة الآخر …
وهمست لي في صمت: كوني كما أنت ولا تتعجلي الرحيل عن عوالم طفولتك، رغم أنها ليست بريئة من الألم. فعرفت باكرا أن الشمس قد تتوارى أحيانا خلف الغيمات، وأن ليس كل ما يقال يُفهم، وليس كل ما يُفْهم يُقَال. لقد كانت هناك لحظات صمت طويل ودموع خبأتها الوسائد ووجوه رحلت قبل أن تقول وداعا، لكنها أيضا كانت مليئة بالأحلام المُشْرَعة على زمن الأماني التي كَبُرَت في قلبي الصغير بإصرار ما كان له أن يُفْهَم.
ذاك البيت الذي ابتدأت منه الحكاية
بعد بيتنا الأول – بيت والدي – جاء الدور على بيت جدي لأمي » سي علي بن البشير الورطاسي » – والد المقاوم والعلامة «سيدي قدور الورطاسي «الذي كان قد اشتراه من طبيب فرنسي بنفس المدينة، تحفه أنواع وأشكال من الأزهار والورود، لم أر لمثلها جمالا الا في حديقة » ماجوريل » بمراكش الحمراء، مع أشجار مزهرة بلونها البنفسجي، تحيل على حقبة الاستعمار الفرنسي والتي مازال لها مثيلا في كل من مراكش والدار البيضاء وطنجة. لقد كان ذاك البيت عالما خاصا بي وحدي، يشبهني ويحميني، يشدني إليه فأقضي أوقات فراغي – وهي كثيرة – في نقش الأرض ونقل الأزهار والاعتناء بها، فكيف لا وأنا ابنة الفلاح المقاوم، الذي قضى ما يزيد عن سنتين كاملتين في » سجن العادر » المعتقل الرهيب، خلال أيام – ولي عودة لهذا الموضوع – ففي » غصن مزهر ما ليس في غابة يابسة، وفي حبة قمح ما ليس في رابية من التبن « وهي الأفعال التي ورثثها عن والدي رحمة الله عليه . لقد كان بيت جدي يمهد لي الدرب لولوج الحياة، فهو موطني داخل الوطن الكبير، لاتزال ذاكرتي تحتفظ بكل تفاصيله التي لا تمحوها السنوات ولا تبدلها مقرات اقاماتي المتلاحقة.
كل صباح تهاجمني رائحة القهوة ودفء جداي، فأشرعها نوافذ البيت الواسعة لأسمح بهجوم نور الصباح المطرز بعطر الزهور، وها أنا استرجعها كل الأصوات، كل الأشخاص … ولم أعلم أني حينها كنت أؤرخ لحياة ستصبح مع مرور الزمن مجرد ذكرى منقوشة بمداد الفخر والمحبة، في القلب والذاكرة. وأن حركات ذاك البيت ستصير دروسا في الحب، الطمأنينة، التآزر، الانتماء، الحنين … ويجعلني أشتاق لنفسي القديمة التي لا تحمل هَمّا ولا تبالي لأي أمر، لتلك الطفلة الشقراء البريئة، لبيت سيدي – كما كنا نناديه – بنخلتيه الشامختين المتعاليتين بتواضعهما، اللينتين بصلابتهما، بساقيته الطبيعية التي تجوب حديقته الغناء، النابعة من وادي » شراعة » فتتحول خارجا إلى جدول في حديقة الكنيسة المسيحية المجاورة لنا » Saint Agnès » ولعل حب الاستطلاع هو ما كان يدفعني أنا البنت
الشقية إلى تسلق سورها حتى أعرف دواخلها، واسترق النظر عبر بابها البني الكبير بفضول طفولي، أيام الآحاد لِتَعَرُّفِ صلاة المسيحيين – أو النصارى كما يقول سكان المنطقة – وهم بملابسهم الأنيقة، وكأنهم في أعياد، يحجون إليها بسياراتهم الفخمة، في انتظار دقات أجراس الكنيسة معلنة بداية الصلاة.
كنت وأنا الطفلة أقضي الساعات الطويلة على عتبة بيت جدي المحاذي لبيت أحد وجهاء المنطقة، والذي نادرا ما تفتح أبوابه. وفي الجهة المقابلة كانت تسكن امرأة
مسنة تدعى »حبيبة الشبابية » وبجانبها انتصب حانوت الخمار – أو ما يعرف آنذاك ب » الكانتينة » – ودوما أستغله يوم الثلاثاء وهو موعد السوق الأسبوعي، لأتابع حركات عابري الطريق السكارى، يغادرونها الحانة الوحيدة يعربدون يتقيؤون. في انتظار أن ألهو مع الراهبة التي تسير في اتجاه الكنيسة ملوحة لي بيدها، قبل أن تُشْعِل البخور الذي تَعُبُّ رائحته كل الأجواء. ومن بعيد أتفحصها المجسمات المعدة على شكل وجوه مشوهة، تزين الجدران الخارجية للكنيسة والتي طالما كونت لي بشاعتها خوفا لم أعرف سببه، ولازالت تلك الممسوخات الجدارية بأشكالها العجائبية عالقة بذاكرتي، حتى بعد قراءتي رواية « عزازيل » ليوسف زيدان. ولتفادي قبحها المنطبعة صوره عندي، كنت أعيد رسمها في مخيالي بشكل يجعلها أجمل، معتبرة أن ذاك البيت لم يكن بداية حكاية فقط، بل كان هو الحكاية نفسها.
يتبع