حين يتهم الطيبون بالقسوة

كلام للبدء
وهذا الصيف القائض، يزيد مشاكلي الصحية ضراوة، فاستغلها فرصة تواجدي بالدار البيضاء، لأقول لكل أحبتي: صباح الورود الندية لخطانا، صباح الأمل لمن يسلكونها دروب التفاؤل ويحملونه النقاء، الصفاء، المحبة…
وهن / هم يعبرون طرق الحياة المليئة بالمفاجئات ولأقاسمهم هذه الخاطرة التي تدخل ضمن منظومة الحكي الذي دأبت على تقاسمه مع الجميع.
【 حين يتهم الطيبون بالقسوة 】
في لحظات معينة ومميزة من مسيرتنا العمرية، قد نجد أنفسنا موضع اتهام بالقسوة، الجفاء، التغيير … وكل ما يدور في هذا الفلك، وقد لا تأتي هذه الاتهامات نتيجة سلوك عدائي أو فظاظة في التعامل … بل قد تكون نتيجة طبيعية لكون الواحد منا يكون قد قرر التوقف عن تقديم التنازلات – المعنوية – المعهودة فيه، أو التي دأب على منحها بطواعية وسخاء تامين للآخرين.
وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الطيبوبة حين تتحول الى سلوك دائم من التنازلات، تصير استنزافا وعبثا لا يرجى منه خيرا، خاصة وأن لا أحد يستطيع أن يداوم العطاء بلانهاية، وعليه فلا يجوز أن تبنى العلاقات الإنسانية على طرف يعطي وفق دالة تصاعدية، مقابل جهة لا تعرف سوى تقبل تلك التنازلات وذاك السخاء. وما إن تبدأ في تحديد معالم حدودك وتنازلاتك، حتى ينظر إليك كأنك تغيرت، تبدلت صرت قاسيا وغير مُقَدِّرٍ للآخرين.
【من الكرم إلى الانهاك】
فالتنازل قد يُولَدُ من طيبة، سخاء، حِكْمَةٍ، وقد يكون خوفا من الكبار واستحضارا لمكانتهم، كما قد يقوم على محبة صافية وجُودٍ كَرِيم. وعندما يتحول إلى قاعدة دائمة أو واجب اتجاه الآخر، فإنه يصبح فعلا مُخِلًّا بكل مقاييس المحبة والأصول خاصة وأن للتنازل متوالية عُمْرِيَة تتحدد في كونه – بداية – يكون جسرا ممدودا للتواصل والمحبة، وفي المنتصف يتحول إلى أداة لتفادي الفرقة والخلاف، ليصير في النهاية عبئا لا يحتمل الأمر الذي يفضي إلى القول بأنه ليس من السهل على من اعتاد التلقي، أن يقبل بتغيير القواعد. فحين ترفض، تتخلى، تتراجع، تصحح … فكأنك تقول (لا) لأول مرة بعد سلسلة متواصلة من (نعم)، فتخلع عنك ثوب الرضى الذي ضاق أفقه، وتكشف وجها جديدا – وهو في الحقيقة ليس كذلك – منسجما مع ما ينبغي أن يكون، أو مع ما أنت عليه في الأصل ، وأنك قررت أن تمنح نفسك ماكنت للآخرين مانحا.
【 نحو إعادة تعريف الذات 】
ان التوقف عن التنازل ليس فعلا عدوانيا، بل هو لحظة وعي تعيد من خلالها الاعتبار للكرامة والحماية من المُضِيِّ في الانزلاقات. ولم يكن أبدا خيانة – كما قد يُفْهَم – بل وصحوة من متاهات اللامبالاة، فحين تتوقعن الاسعاد الطوعي للآخرين، فأنت لا تُحْرِجُ أي كان، وإنما أنت مقبل على أن تصحح خطاك، وما الحدود التي رسمتها إلا تعبيرا صريحا عن استحضارٍ معقلن لعلاقاتك واحترامك لها بقدر ماهي حماية لك من أي استغلال طوباوي، حتى وإن بدا للآخر أنك صرت » أقل لطفا » أو » أكثر وقاحة «.
【 القسوة الحقيقية 】
* القسوة ليست في رسم الحدود والالتزام بها، بل تكمن في الاعتراف بها .
* القسوة هي أن يتوقع منك ذاك الآخر أن تظل دائما شخصا مرنا، سخيا، متساهلا، متسامحا، متفهما، صموتا … وأن تدوم على ما أنت عليه إلى ما لا نهاية.
* القسوة أن يُحَمِلْك
الناس ما لا تُطِيق، ثم يُحْبَطَون حين تتراجع خطوة أو خطوات إلى الخلف للانخراط في: التأمل، التقييم، اعادة البناء، التصحيح وتحديد خارطة الطريق.
* القسوة هي في أعين أولئك الذين لم يدركوا قيمتك الحقيقية، إلا عندما تشرع في حماية نفسك من كل ما يترتب عنها.
وأخيرا نجد أنفسنا متهمين بالقسوة لمجرد التوقف عن تقديم التنازلات، وهو الموقف الذي يُعْتَبر علامة على أننا بدأنا مسيرة التوازن بين الذات والماهية، وبينها والآخر، وبين الذات وما ينبغي أن تكون عليه. وقد نبدو – كذلك – قساة حين نُقْلِع عن تقديم نفس الامتيازات التي كنا نقوم بها أو نمنحها. فنحن لسنا مطالبين بأن نعيش دائما كظل لرغبات الآخر،
ولسنا مضطرين لأن نكون طيبين حد الذوبان، علما أنه يكفينا-والحياة هذه –
أن نكون عادلين مع ذواتنا حتى ولو أُسِيءَ فَهْمُنا.
【 تساؤلات ختامية 】
إن طريق الحياة وَعْرٌ وشاق ومرهق، إن لم نقل إنه مضني. وما حياتنا إلا كالطرقات، ففي كل منحى هناك طرقات، مسارات، مفترقات …
فهناك من يسلكها آمنا مطمئنا، وهناك من يتيه دون أن يترك أي أثر، وعليه فليختار الواحد منا
لحياته معنى وطريقة وطريقا هنيا، يفضي به إلى ما هو مأمول. وفي انتظار ذلك أجدني ملزمة بتأمل العديد من الأسئلة المرهقة والملخصة في:
* هل نحن موجودون فقط حين يحتاج الآخر الينا؟
* هل من واجبنا القيام
بالكثير من الأعباء دون أن يطلب منا ذلك.
* هل يفترض منا أن نتفهم ونقدم، دون أن نتلقى أي اعتراف أو كلام جميل تقديرا لمواقفنا ؟
* هل توقفنا عن العطاء
-تحت أي طائلة – يُقَابل باتهامنا بالتقصير أو الجفاء أو اللامبالاة.
وأختتم خاطرتي هذه باستحضاركما كنت قد اطلعت عليه ذات يوم، من خلال الفضاء الأزرق،
والملخص في وصية أعتبرها رُصَّتْ من ذهب، لأنها تسعى الى القول:
ينبغي أن 【 لا تحزن على ما فاتك، لأنه لم يكن لك، وتأكد أن ما أصابك هو من اختيار الله لك. وإذا وهبك الله الرضا، فاعلم أنه منحك مفتاح السعادة والهناء دون طلب. فبالرضا ننعم بكل شيء حلو أو مر، ولنكن متأكدين أن الله سيدبر الأمر ويُغْنِي الشأن ويكشف الحزن، ويُسَخِّرُ لي ولكن ولكم، من نحب ويفتح في وجوهنا كل الأبواب المغلقة، وسيعوضنا عِوَضَ خير عن كل ما مضى. فلنتفاءل-أحبتي – بكرم الله ولطفه ورحمته، لنجد السعادة والطمأنينة في كل ما حولنا 】.