ضفاف الصمت … ودروب النضج والمصالحة مع الذات.

ضفاف الصمت … ودروب النضج والمصالحة مع الذات.
شارك

ثريا الطاهري الورطاسي

شهر غشت 2025

 الجزء الأول

 مقدمة للبدء:

حين يصبح الصمت صوتا بين الحكي الأول الذي حمل رائحة البدايات، والحكي الثاني الذي تذوق مرارة الصمت والانكسارات، والثالث الذي نضج على جمر الوعي والاختيار.  يأتي الحكي الرابع حالة مختلفة تماما. فهو ليس سردا جديدا ولا خاتمة للحكي السابق، بل هو عبور إلى الضفة الأخرى من المعنى، حيث الصمت نفسه حكاية ويغدو صوتا

يروي المتخيل، يتركه في سكون يختزن كل ما قيل وما لم يُقَلْ. وعندئذ لا يُسْتَدْعَى الكلام، بل يُسْتَحْضَر الإصغاء المحفوف بالصمت، ويفيض كجدول سري، يرتوي منه الشارب حتى دون أن يراه أي كان. إنه الصمت الذي يُنْبِتٌ أشجار المعنى، تاركا للريح مهمة حملها الرسائل إلى من يعرف طريقها. وفي هذا المقام تتقاطع ظلال الذكريات مع أضواء الحكمة، فيتولد صوت لا يسمعه إلا من كانت روحه مهيأة للالتقاط. إنه صوت هادئ، نافذ …  ليعلن أن الحكي لم ينته ولن ينتهي، بعد أن تغير لونه واتخذ الصمت مرتعا له، ومن السكينة جناحين للتحليق نحو  » الأنا  » التي صرتها.

  1. رحلة النضج على ضفاف الصمت.

هناك نوع من الصمت لا يشبه الهدوء ولا الخضوع… إنه صوت داخلي يٌعَبِّرُ بصدق وبلاغة متناهية تفوق كل الصراخ.

كنت أحلم كثيرا، أسأل، أحكي، وأضحك بعفوية تامة. لكن شيئا ما تغير مع الوقت فبدأت أدرك – متأخرة – أن الكلام لا ينصت له دائما، والفعل لا تستحضر قيمته أو جدواه، وقد يستخدم ضدك – حتى عن غير قصد – وأن الشرح يرهق الروح ولا يُقْنِع من لا يريد أن يفهمك أو يقتنع بوجهة نظرك، وبذلك بدأت مسيرة الصمت عندي، صمت لا يعني الهروب أو التهرب لأنه كان قرارا.

ففي لحظات كثيرة أركبها دوامة الصمت، وكأني بها شهرزاد تحضرني وهي تسكت عن الكلام المباح

  * أسكت لأني لا أملك ما أقول، بل لأني لا أريد أن أشرح لمن تعمد أن يجهل أو يتجاهل.

 *  أسكت لأني تعبت من الرياء العاطفي، من الدفاع عن مواقفي وكأني بنفسي في محكمة بلا قضاء منصف.

  * أسكت لأن الكلمة إذا لم تجد قلبا يستقبلها، صارت مجرد صيحة ضائعة في فراغ.

 * أسكت وأنا ملزمة باختيارك أيها الصمت الموحش، الذي يحمل في طياته عتابا أكبر من أي خطاب.

 * أسكت وفي صمتي سؤال  » هل أُسْمَعُ حين لا أقول شيئا؟  » و  » هل أفهم نفسي حين لا أبتغي أي شرح أو تبرير؟ »

وأحيانا أسأل نفسي « لماذا لا تردين؟ لما لا تقولين أي شيء؟  » فأكتفي بالنظر إلى المرآة لأن الرد الحقيقي كان قد قيل … باختياري للسكوت

ََديْدَنا. رغم علمي المسبق بأن الصمت سلاح ثقيل، لذلك أستخدمه بحذر شديد، كلما اشتد بي الحال أو لحقني أي ظلم.

فيكون صمتي …عقابي الوحيد. لأني لا ولن أهين، لن أصرخ، لم أنتقم … وأختار التواري والانسحاب، منزوية داخل ذاتي بعد أن أغلقه الباب خلفي بكل هدوء. ومع مرور الزمن تعلمت أن هناك لحظات ان أنا تكلمت فيها، أضعت كرامتي … وإذا اخترت السكوت ربحت نفسي وتيقنت أني فهمت، عرفت، قررت ألا أتكلم وكأن شيئا لم يقع. وأن صمتي ليس ضعفا ولا هروبا، بل هو صوت لا يُسْمَع إلا لمن يملك قلبا نقيا ونية صادقة.

  2   الانسحاب الناضج … قرار لا هروب.

   فالرحيل ليس دائما هزيمة أو نكوصا، كما أن الانسحاب لا يعني أننا لم نعد نحب أو أننا لم نعد نهتم … بل يعني أننا أحببنا بما يكفي لدرجة أننا صرنا نفهم متى ينبغي لنا أن نتوقف، أو نَعْقِلْها ونتوكل.

ويبقى الانسحاب فعلا راشدا، متزنا، عقلانيا، واختيارا نابعا عن وعي وتروي وليس عن ضعف – كما قد يُفْهم – ويبقى الانسحاب الناضج هو أن تنقذ ما تبقى منك، قبل أن تتحول محبتك إلى استنزاف وعطاؤك إلى نزيف. خاصة إذا كنت ممن يستحق أن يُعَامل بما هو أهل له … فعندما يكون الوضع عكس ذلك ويرجى منك المجاراة، التنازل، التفهم، الصم، فإنها منظومة قيم تُرْبِكْ أكثر مما تطمئن، فتهجرك الأماكن وتبعدك المواقف لتبدأ مسيرتك الإنسحابية التدريجية، بعيدا عن أي حقد وبمنتهى اللطف وكأنك موجة لم تعد جزءا من ذاك الشاطئ.

تنسحب لتحتفظ بما بقي منك … لا لتعاقب أي كان ولكن لتعيد بناء نفسك وتحدد موقعك في خريطة طريق جديدة، تفهمك أكثر مما تؤذيك أو تقض مضجعك. ويبقى ذاك هو الانسحاب الناضج الذي لا يحتاج إلى أي ضجيج، ويقوم على صدق تام واقتناع يهمس لك قائلا:  » هذا لا يشبهك، بل يطفئك، فتدرك أنك لست مضطرا لأي شرح يبرر اختيارك، فمن يحبك بحق لن ينتظر أي شرح منك، وسيفهم الغياب حتى قبل أن يقال ولأن الكرامة لا تعني الجفاء، وإنما أن تحب نفسك – بعيدا عن كل أنانية – بما يكفي كي لا تذلها من أجل من تنكر أو لم يعد يرى قيمتها. وعندئذ أخالك قائلا  » سأترك كل تلك الأماكن … الأحلام … الذكريات، لأنك لا تريد أن تفقد نفسك فيها أو من خلاله « 

 3   من أجل المصالحة مع   الذوات

  رغم ما مر ما من ضربات الفقد، المرض، الهجرة …

فجميعها لا تشبهني، غير أنها جعلتني أعود الى نفسي، لأسامحها وأحتضنها بعد أن أخذتها مني الرياح وطوحت بها بعيدا في مهب الخوف. فوجدتني ذات يوم أمام مراتي أحدِّق فيها سائلة من تكونين الآن؟

  أأنت الطفلة، الشابة، اليافعي، العاشق، المرأة التي كان الحلم يغديها وينعش دواخلها؟ أم أنك الإنسانة التي خذلتها الظروف، الأوقات؟ أم أنك تحاولين التعايش مع كل حالاتك، تتصالحين مع ذاتك التي لا يمكن لها تتناسى بسرعة؟

فقد أكون أخطأت التقدير سكتت … حلقت بعيدا عن السرب غير أني صحوت فوجدت نفسي متصالحة مع الذات، الألم، الصمت الخذلان، الانسحاب… بعد أن علمتني الأيام ألا أكون مثالية وأن أبقى دوما صادقة مع نفسي أولا وأخيرا. وأصبحت أحتفل بصغائر الأشياء:

أفتحها عيناي صباحا دون أن يبكيني الألم، أضحك من أعماق قلبي، أقاسمه رفيق الدرب والسند الوحيد كل خواطري وتهيأتي وامالي … وهي مصالحة لم تأت دفعة واحدة، بل تولدت من كثرة الوجع وقسوته وكثرة التأمل وبلاغة الصمت … جاءت حين أدركت أنني لا أحتاج أن أقنع الآخرين بأهمية ما صرت عليه، فلا أحد غيري قادر على ترميم ما بداخلي من أعطاب.

فاليوم حين أنظر في المرآة أرى نفسي التي تستحق مني كل العناية والاعتناء، وأرافقها بكل نبل وطمأنينة.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *