الإصلاحية العربية وحدود مساءلة الدولة: قراءة نقدية في أطروحة بلقزيز من الحالة المغربية
بقلم: محمد السميري
ملخص
يتناول هذا المقال بالنقد والتحليل أطروحة عبد الإله بلقزيز الواردة في كتابه الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، من خلال مساءلتها نظريًا وتطبيقيًا في ضوء الحالة المغربية. وينطلق المقال من فرضية مركزية مفادها أن بلقزيز يمثّل اتجاهًا إصلاحيًا عربيًا يسعى إلى تفكيك القراءات الإيديولوجية للدولة العربية، غير أن هذا الخيار ذاته يحدّ من قدرته على مساءلة الدولة حين تكون هي أصل الأزمة وبنيتها العميقة. ويقارن المقال أطروحة بلقزيز بمقاربات محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعزمي بشارة وبرهان غليون، بوصفها مقاربات تنطلق من تحليل السلطوية والشرعية والهيمنة، لا من افتراض قابلية الدولة للإصلاح المؤسسي.
______________
مقدمة
تحتلّ إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع موقعًا مركزيًا في الفكر السياسي العربي المعاصر، باعتبارها المدخل الأهم لفهم تعثر التحول الديمقراطي واستمرار أنماط السلطوية. وفي هذا السياق، يندرج كتاب عبد الإله بلقزيز ضمن مشروع نظري يسعى إلى تجاوز القراءات الإيديولوجية التي اختزلت الدولة العربية في وظيفة القمع أو في كونها انعكاسًا مباشرًا لبنية اجتماعية تقليدية، مقترحًا مقاربة تحليلية تركّب بين التاريخ والاجتماع والسياسة، وتُرجع الأزمة إلى ظاهرة الانسداد السياسي واختلال آليات الوساطة بين الدولة والمجتمع (1).
غير أن اختبار هذه الأطروحة على الحالة المغربية يكشف عن حدودها التفسيرية، ذلك أن الدولة هنا لا تعاني فقط من انسداد في قنوات المشاركة، بل تقوم تاريخيًا على بنية سلطانية حديثة تُفرغ المؤسسات من مضمونها وتعيد إنتاج السلطة خارجها. وهو ما يطرح سؤالًا جوهريًا حول ما إذا كان الخلل في العلاقة بين الدولة والمجتمع، أم في طبيعة الدولة ذاتها.
______________
ينطلق بلقزيز من نقد حاد للتفسيرات الإيديولوجية، خصوصًا تلك التي ترى في الدولة أداة قمع طبقي، معتبرًا أن هذا التصور يختزل ظاهرة الدولة ويغفل تعقيد تشكّلها التاريخي (1). غير أن هذا النقد، على أهميته المنهجية، يفترض ضمنيًا أن توصيف الدولة بوصفها قمعية هو بالضرورة حكم معياري مسبق، لا احتمالًا تحليليًا مشروعًا تؤكده الممارسة السياسية. ففي الحالة المغربية، لا يبدو القمع عرضًا جانبيًا أو استثناءً ظرفيًا، بل آلية حكم منتظمة، سواء في شكله الصلب عبر تجريم الاحتجاج وتقييد الحريات، أو في شكله الناعم عبر إنتاج القبول الاجتماعي وتفريغ الفضاء العمومي من السياسة (2).
وتكشف التجربة المغربية كذلك محدودية تفسير الأزمة بمفهوم الانسداد السياسي وحده. فالأحزاب والبرلمان والانتخابات لا تبدو قنوات معطلة بقدر ما تبدو مؤسسات مُدجَّنة تؤدي وظيفة إدارة الشرعية داخل نظام سلطاني حديث. وقد عبّر محمد عابد الجابري عن هذا المعطى بوضوح حين أشار، في إحدى مقابلاته التلفزيونية مع نور الدين أفاية، إلى أن القرارات السياسية الحاسمة تُتخذ خارج المؤسسات المنتخبة، وأن هذه الأخيرة لا تتجاوز دور التزويق الديمقراطي (3).
ويتقاطع هذا التشخيص مع أطروحات عبد الله العروي، الذي يرى أن الدولة العربية تبنّت شكل الدولة الحديثة دون أن تمرّ بشروطها التاريخية (4)، ومع عزمي بشارة الذي يبيّن أن أزمة الدولة العربية ليست في ضعف مؤسساتها فقط، بل في افتقارها إلى شرعية تمثيلية، ما يدفعها إلى التعويض بشرعيات رمزية أو دينية أو تاريخية (5). كما يلتقي هذا التحليل مع برهان غليون، الذي يؤكد أن الدولة العربية الحديثة تقوم على تفكيك المجتمع سياسيًا ومنع تشكّل فضاء عمومي مستقل، لا على دمجه في مشروع وطني جامع (6).
ولا تبدو جدلية التوحيد والانقسام، كما يصوغها بلقزيز، قادرة على تفسير الحالة المغربية تفسيرًا كافيًا. فبدل أن يؤدي ضعف الدولة إلى صعود هويات جزئية متصارعة، يُلاحظ تفتيت الصراع الاجتماعي وتحويله إلى مطالب معزولة محليًا وقطاعيًا، بما يمنع تشكّل وعي سياسي جامع (2).
___________
تُفضي أطروحة عبد الإله بلقزيز، إذا أُخذت على محملها النظري الكامل، إلى سؤال سياسي حاسم غالبًا ما يبقى مؤجَّلًا في الخطاب الإصلاحي العربي: من هي القوة الاجتماعية والسياسية القادرة على كسر الانسداد السياسي وتفعيل المؤسسات؟ فإذا كانت المؤسسات، بحسب بلقزيز، قائمة شكليًا لكنها معطّلة وظيفيًا، فإن مسألة تفعيلها لا يمكن أن تُفهم بوصفها عملية تقنية أو إجرائية محايدة، بل باعتبارها فعلًا سياسيًا يصطدم مباشرة بمصالح القوى المهيمنة على الدولة.
تُظهر تجربة حركة 20 فبراير في المغرب حدود الأفق الإصلاحي بوضوح. فقد طرح الشارع، لأول مرة منذ عقود، مسألة تفعيل الدستور، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتوسيع المشاركة السياسية خارج القنوات المُدجَّنة. غير أن ردّ النظام لم يكن السير في اتجاه تفكيك بنية الانسداد، بل احتواء المطالب عبر تعديل دستوري مضبوط السقف، ثم إعادة ترتيب الحقل السياسي بما يسمح بإطفاء الدينامية الاحتجاجية دون المساس بجوهر السلطة. بهذا المعنى، لم يكن ما جرى تجاوزًا للانسداد السياسي، بل إعادة إنتاجه في صيغة أكثر مرونة.
في هذا السياق، يلتقي تحليل بلقزيز مع حدود الإصلاح التي يشير إليها عزمي بشارة في قراءته للانتفاضات العربية، حيث يؤكد أن الأنظمة السلطوية لا ترفض الإصلاح من حيث المبدأ، بل توظّفه كآلية لإعادة تثبيت السيطرة، ما دام الإصلاح لا يطال مركز القرار ولا يعيد توزيع السلطة فعليًا (4). فالإصلاح، حين يُدار من أعلى، يتحول من أفق للتغيير إلى أداة ضبط سياسي.
ومن هذا المنظور، يمكن فهم صعود حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة بعد 2011 لا باعتباره انتصارًا للمسار الديمقراطي، بل بوصفه جزءًا من استراتيجية احتواء. فقد مثّل الحزب قناة لتصريف الغضب الاجتماعي داخل المؤسسات، ومنح النظام واجهة انتخابية قادرة على امتصاص الاحتجاج، دون أن يمتلك الحزب القدرة الفعلية على كسر منطق الانسداد أو مساءلة مراكز السلطة الحقيقية. وهنا يتقاطع التحليل مع برهان غليون، الذي يرى أن إدماج قوى معارضة في السلطة داخل أنظمة سلطوية لا يهدف إلى تقاسم الحكم، بل إلى إعادة تنظيم الهيمنة ومنع تشكّل بديل سياسي جذري (5).
تجربة التناوب الإصلاحي، سواء في المغرب أو في حالات أخرى، تؤكد نفس الفكرة: الإصلاحات التي لا تمس جوهر السلطة وتترك مراكز القرار متماسكة تفشل في إنتاج تغيير جذري، بل تعيد إنتاج الاستقرار السلطوي تحت غطاء جديد، مع توظيف الخطاب الإصلاحي لإضفاء شرعية على الوضع القائم.
إن هذا المعطى يعيدنا إلى جوهر النقد الموجَّه للإصلاحية العربية: فهي تفترض وجود إرادة داخل الطبقة الحاكمة للانتقال من الانسداد إلى الانفتاح، في حين تُظهر التجربة التاريخية أن هذا الانسداد هو في ذاته اختيار سلطوي واعٍ، لا خللًا عرضيًا. ومن ثم، فإن السؤال الحقيقي لا يتعلق بكيفية إصلاح المؤسسات، بل بمن يمتلك القدرة السياسية والاجتماعية على فرض هذا الإصلاح، وبأي كلفة.
بهذا المعنى، لا يبدو أن أطروحة بلقزيز تخطئ في تشخيص الأعراض، لكنها تتوقف عند عتبة السبب الجذري. فالانسداد السياسي لا يسقط من السماء، بل يُنتَج ويُدار ويُعاد إنتاجه. وحين تكون الدولة هي من يدير هذا الانسداد، فإن التعويل على إصلاحها من داخلها، دون قوة اجتماعية ضاغطة ومستقلة، يتحول من مشروع للتغيير إلى رهان على استمرارية النظام في صيغة أقل صلابة.
______________
المراجع
- بلقزيز، عبد الإله. الدولة والمجتمع: جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر. المركز العربي للأبحاث.
- Susan Slyomovics, La mise en scène des droits de l’homme au Maroc.
- الجابري، محمد عابد. مقابلة تلفزيونية مع نور الدين أفاية، القناة المغربية.
- العروي، عبد الله. مفهوم الدولة. المركز الثقافي العربي.
- بشارة، عزمي. الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار. المركز العربي للأبحاث.
- غليون، برهان. نقد السياسة: الدولة والدين. المركز الثقافي العربي.
- غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن.
- هابرماس، يورغن. الفضاء العمومي.
