أولوية استقرار النظام السياسي على المشاركة الشعبية: من الصليبيين إلى تحالفات الحاضر

أولوية استقرار النظام السياسي على المشاركة الشعبية: من الصليبيين إلى تحالفات الحاضر
شارك

بقلم: محمد السميري

مقدّمة

عندما نشر أمين معلوف كتابه «الحروب الصليبية كما رآها العرب» سنة 1983 بالفرنسية، لم يكن يقدّم عملًا تاريخيًا تقليديًا، بل قراءة نقدية لسردية القوة والهيمنة، انطلاقًا من أصوات عربية همّشتها الكتابة التاريخية الغربية. غير أن القيمة الأعمق للكتاب لا تكمن فقط في إعادة رواية الماضي، بل في كشفه عن منطق سياسي ما زال فاعلًا حتى اليوم: منطق يجعل بقاء السلطة أولوية تتقدّم على مصلحة الجماعة، ويحوّل التحالف مع الخارج إلى أداة مشروعة لحماية الحكم.

الكتاب وسياقه: التاريخ بوصفه بنية لا حدثًا

يعتمد معلوف (1983) على مؤرخين عرب مثل ابن الأثير وأسامة بن منقذ ليبيّن أن التقدم الصليبي لم يكن نتيجة تفوق ذاتي بقدر ما كان ثمرة واقع داخلي عربي مأزوم. فقد كان المشرق الإسلامي منقسمًا بين السلاجقة والفاطميين وأمراء الشام، وهي انقسامات دفعت عددًا من الحكّام إلى عقد تحالفات أو هدن مع الصليبيين، أو إلى التزام الحياد، انطلاقًا من خوفهم من الخصم الداخلي أكثر من العدو الخارجي. بهذا المعنى، لم يكن السؤال المركزي آنذاك: كيف نحمي الأرض؟ بل: كيف نحافظ على العرش؟ (معلوف، 1983).

من الأمير الوسيط إلى النظام العربي الحديث

ما يكشفه كتاب معلوف ليس مجرد سلوك سياسي عابر، بل بنية حكم قابلة لإعادة الإنتاج. فحين تغيب الشرعية المستمدة من المجتمع، يصبح الاستقواء بالخارج خيارًا عقلانيًا داخل منطق السلطة. هذا ما يفسّر استمرار النمط نفسه في التاريخ العربي الحديث، حيث نشأت الدولة القُطرية بعد الاستعمار دون تعاقد اجتماعي حقيقي، واعتمدت في بقائها على تحالفات خارجية أكثر من اعتمادها على رضا شعوبها.

وكما تحالف بعض أمراء الشام مع الفرنج لمنع ابتلاع إماراتهم، تحالفت أنظمة عربية في القرن العشرين مع قوى غربية، بل ومع الكيان الصهيوني، لا حمايةً للاستقلال الوطني، بل لضمان استقرار النظام السياسي في مواجهة الداخل. هنا تتكرّر المعادلة نفسها مع اختلاف الأدوات: العدو الخارجي يتحوّل إلى حليف، والشعب يتحوّل إلى مصدر تهديد.

أولوية الاستقرار على المشاركة الشعبية

في الخطاب الرسمي العربي، يُقدَّم «الاستقرار» بوصفه قيمة عليا، لكنه في الواقع استقرار النظام لا استقرار المجتمع. ويشير مفكّرون عرب معاصرون، مثل عبد الله العروي وبرهان غليون، إلى أن الدولة التي لا تستمد شرعيتها من المشاركة الشعبية تميل بطبيعتها إلى الخوف من المجتمع، وإلى بناء جهاز أمني يحمي السلطة لا المجال العام (العروي، مفهوم الدولة؛ غليون، بيان من أجل الديمقراطية).

ويتجلّى هذا المنطق بوضوح بعد سنة 2011، مع اندلاع الثورات العربية، حيث كشفت ردود فعل الأنظمة عن ثبات البنية ذاتها. ففي مصر بعد 2013، أُعيد تعريف الاستقرار بوصفه نقيضًا مباشرًا للثورة والمشاركة الشعبية، وترافقت إعادة بناء النظام مع توثيق التحالفات الغربية والإقليمية بوصفها مصادر شرعية وحماية. وفي سوريا، جرى استدعاء التحالفات الخارجية على نطاق غير مسبوق، وتحويل الصراع إلى ساحة دولية، انطلاقًا من أولوية بقاء النظام، حتى ولو كان الثمن تفكك المجتمع والدولة معًا. أما في الخليج العربي، فقد مثّلت أحداث 2011 لحظة حاسمة دفعت إلى تعزيز التحالفات الأمنية مع الغرب، وتوسيع مفهوم الأمن ليشمل الضبط الاستباقي للمجتمع.

وفي السياق نفسه، يمكن قراءة موجة التطبيع العربي مع إسرائيل منذ 2020 بوصفها امتدادًا لهذا المنطق البنيوي، حيث لم يُقدَّم التطبيع كمشروع سلام عادل، بل كأداة لتعزيز موقع النظام دوليًا، وضمان استمراره في بيئة إقليمية مضطربة. هنا تتكرّر معادلة العصور الوسطى بلغة حديثة: الحليف الخارجي يصبح ضامنًا لبقاء الحكم، بينما تُؤجَّل قضايا السيادة والعدالة والمشاركة الشعبية إلى أجل غير مسمّى.

ضمن هذا الإطار، يصبح التحالف مع الغرب أو التطبيع مع إسرائيل جزءًا من استراتيجية أوسع هدفها الأساسي هو تحصين الحكم، لا تحقيق مشروع وطني أو تحرري. وهذا ما يجعل من هذه التحالفات استمرارًا تاريخيًا لمنطق قديم، لا خيانة استثنائية ولا خطأ تكتيكيًا عابرًا.

تفكيك خطاب «الاستقرار أولًا»

يرتكز الخطاب الرسمي العربي على معادلة تبسيطية مفادها أن المشاركة الشعبية تؤدي بالضرورة إلى الفوضى، وأن الاستقرار لا يتحقق إلا عبر القبضة الأمنية والتحالفات الخارجية. غير أن هذا الخطاب يتجاهل حقيقة أساسية: أن الاستقرار القائم على الإقصاء والقسر ليس استقرارًا، بل تعليقًا مؤقتًا للأزمة. فالتجارب العربية بعد 2011 تُظهر أن الأنظمة التي قدّمت الأمن على السياسة لم تُنتج دولًا أكثر تماسكًا، بل مجتمعات أكثر هشاشة، ودولًا أشدّ اعتمادًا على الخارج.

إن الخوف من الشعب، الذي يُقدَّم بوصفه حرصًا على الدولة، هو في جوهره اعتراف غير مباشر بغياب الشرعية. فالدولة الواثقة من تمثيلها لمجتمعها لا تحتاج إلى حماية خارجية ولا إلى تحويل المجال العام إلى مساحة أمنية. وعليه، فإن خطاب «الاستقرار أولًا» لا يدافع عن الدولة بقدر ما يدافع عن نظام الحكم القائم، ويعيد إنتاج الشروط ذاتها التي أدّت تاريخيًا إلى الانقسام والارتهان.

خاتمة

تكمن أهمية كتاب أمين معلوف في أنه يذكّرنا بأن التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يعيد إنتاج بنياته عندما تبقى شروطها قائمة. فما جرى زمن الحروب الصليبية من تقديم الحفاظ على العروش على وحدة الجماعة، يتكرّر اليوم في صورة أنظمة تُقدّم أولوية استقرار النظام السياسي على المشاركة الشعبية، وتستبدل الشرعية الداخلية بالحماية الخارجية. إن كسر هذه الحلقة لا يمرّ عبر تغيير التحالفات الدولية، بل عبر تفكيك البنية نفسها: بناء دولة تستمد مشروعيتها من شعوبها، وتجعل من المشاركة الشعبية مصدر استقرار حقيقي، لا تهديدًا يجب تحييده.

______________

المراجع:

  • امين معلوف. الحروب الصليبية كما رآها العرب. باريس: 1983.
  • ابن الأثير. الكامل في التاريخ.
  • أسامة بن منقذ. كتاب الاعتبار.
  • عبد الله العروي. مفهوم الدولة.

•      برهان غليون. بيان من أجل الديمقراطية.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *