من التمدن إلى التحضر أو سؤال الحق في المدينة
(مقاربة سوسيو سياسية أنثروبولوجية)
التهامي حبشي/ إعلامي و باحث سوسيولوجي.
الحلقة السابعة
الذكاء الترابي الجماعي في قلب التخطيط الحضري الاستراتيجي التشاركي:
وفِي هذا الصدد، ينبغي النظر إلى التخطيط الحضري (La Planification Urbaine)، كحقل واسع للحوار والتشاور والتفاوض، بين تجارب وخبرات مختلفة ومتقاطعة، أي كحقل ممكنات أو إمكانات للفعل الجماعي وللإمكان الترابي، من خلال ما أصبح يسمى بالذكاء الترابي، وباليقظة الاستراتيجية في خدمة هذا الأخير.(د. المصطفى دليل، الهندسة الترابية..، مرجع سابق،ص.272). ومفهوم الذكاء الترابي (L’Intelligence Territorial) مفهوم رحالة ومتعدد الاستعمال، يتموقع في ملتقى النظرات المتعددة التخصصات (Pélissier et Pybourdin,2009). لقد انبثق هذا المصطلح المرن من صلب الممارسة الميدانية والتطبيق العملي في الحقل الترابي(Ludovie,2008)، إذ يستقي أصالته من بعض تجارب الملاحظة الترابية، وخاصة مع جون جاك جيراردو، الذي اقترح هذا المفهوم، منذ سنة 1998، من أجل القيام بمقاربة علمية نسقية، ومتعددة ومتداخلة التخصصات، لتشخيص وتحليل و تنمية الترابات المعتمدة، تسمى طريقة كاطاليز (Méthode CATALYSE)، وهي منهجية تستند على استخدام تكنولوجيات الإعلام والاتصال، والطرائق المتعددة المقاييس أو المعايير (Multicritères) والتحليلات الفضائية، التي يقوم بها الممارسون في عمليات ملاحظة وتأويل النتائج المتعلقة بتراب معين. (Girardot,2008). كما تولد مفهوم الذكاء الترابي، الذي يستعمله اليوم بكثرة، علماء وخبراء حقول الجغرافيا والاجتماع، والسياسة والاقتصاد، والتنمية وإعداد التراب..، من مفهوم الذكاء الاقتصادي (L’Intelligence Economique)، الذي استعمله مايكل بورتر ( (Michael Porter ;1998، للإشارة إلى مبدأ الترابط أو التفاعل بين الفاعلين فوق تراب معين، من أجل الرفع من أدائه الاقتصادي والاجتماعي. وسيبدو ذلك أكثرـ من خلال تقرير برنار كرايون حول « الذكاء الترابي: التنافسية والتماسك (Bernard Crayon ;L’intelligence économique, Compétitivité et Cohésion,2003) الذي أكد فيه على أن الترابات هي بوتقات (des creusets) من الأنشطة الاقتصادية، التي تطابق بين المعارف والخبرات التقليدية والتكنولوجيات المتعددة. والتي يبدو أن تنشيط مصالحها، مرتبط مباشرة بقدرتها على التنظيم، في إطار شبكات متلائمة مع منهجية قائمة على إفراز وتنفيذ ذكاء اقتصادي، بواسطة التنافسية والجاذبية (Compétitivité-attractivité)، وبواسطة الأمن والإعلام (المعلومة) . فباقتناعهم بأن الإرساء الترابي محدد أساسي في مواجهة المنافسة، يسارع كل فاعلي الذكاء الاقتصادي إلى تبني الذكاء الترابي ».(Moinet et Coussi,2014). لقد ظهر مفهوم الذكاء الترابي، لتوضيح الكيفية التي تتطور بها المجالات الترابية، باعتماد مقاربة علمية ومنهجية، متعددة التخصصات (Interdisciplinaires)، تسمح بإدماج استخدام المعلومات والتكنولوجيات، ومناهج أخرى قصد تنمية التراب. (Murphy Dale et Biygautane Mohamed ; »La dynamique Economique des Territoires, Leçons de l’expérience de Dubai,in »Intelligence Territoriale et Développement Régional par l’entreprise »,Sous la direction de Guerraoui Driss et Clerc Philippe, L’Harmattan,2012,P.99.)). ومن هنا يقوم الذكاء الترابي على منظومة متكاملة تتكون أبرز محاورها من اليقظة، التشخيص، تنسيق العمل العام، الشراكات، المعرفة، الابتكار، التأثير والحماية. ( Mallowan Monica, Markon Christian ; » Intelligence Economique et Territoriale au service d’une stratégie de développement Régional : La délicate Question de la formation des acteurs »,P.9.). ذلك أن التراب يتملك عدة طرائق من الذكاء الاقتصادي، التي يمكنها أن تكون وسيلة للمساعدة على اتخاذ القرار الترابي المناسب (Demazière et Faugouin ,2008 ; Pelissier ,2009 ;Macron et Moinet, 2011 ; Delis et Bertacchini ,2006)). وبهذا المعنى، يمكن تعريف الذكاء الترابي باعتباره » مجموعة أفعال الذكاء الاقتصادي، المسيرة بطريقة منسقة، من طرف الفاعلين العموميين والخواص (تجار وغير تجار)، المتموقعين فوق تراب معين، بهدف تقوية الأداء الاقتصادي المحلي، وعبر هذه الوسيلة، تحقيق تحسين عيش الساكنة المحلية. »( Macron et Moinet, 2011 ). فالذكاء الترابي، حسب جون جاك جيراردو، » مجموعة من المعارف متعددة التخصصات التي تساهم، من جهة، في فهم واستيعاب بنيات وديناميات المجالات، والتي تعد، من جهة أخرى، آلية يسخرها المتدخلون الترابيون بغية تحقيق أهداف التنمية المستدامة داخل التراب ». (Jean-Jacques Girardot ; »Intelligence et Gouvernance Territoriale »,P.21. document pdf disponible sur le lien :www.foad-mooc.auf.org,consulté le 16/05/2018.). ذلك أن التراب لا يمكنه اختزاله في نشاط الفاعلين الاقتصاديين » ولا ينظر إليه بصفته مقاولة أو سوقا فقط ، بل هو أيضا فضاء للتعاون. (Joyal André ; »L’intelligence Territoriale au services des PME Innovantes En Régions non Métropolites »,Expériences Canadiennes et Brésiliennes, in Intelligence Territoriale et Développement Régional par l’entreprise », op.cit ,P.162.) ). وبعبارة أخرى، للباحث يان برتاشيني، الذكاء الترابي » جهاز أو منظومة من المعطيات والمعلومات المستخدمة من لدن الفاعلين المحليين، لتعبئة وتحويل موارد وطاقات المجال، لفائدة مشاريع تخدم التنمية المجالية. أي أن الذكاء الترابي ما هو إلا تنشيط وتقييم للسياسات العمومية و لأداءات التنمية المستدامة » (Yann Bertacchini ; »L’intelligence Territoriale Le territoire dans tous ses états-ISBN » ; HAL archives.ouvertes.fr.p23,document pdf, disponible sur le lien https://archivesic.ccedcnrsfr, consulté le 07/07/2018. إن الذكاء الترابي ينتج عن ظاهرة تملك موارد مجال معين، مع القدرة على نقل المعلومات والمهارات ونشرها بين أصناف أخرى من الفاعلين المحليين المنتمين إلى ثقافات مختلفة (Bertacchini ;op.cit.p.166). وهكذا يكون إبتكار مفهوم الذكاء الترابي كأحد الحلول لأزمة المجال، من خلال البحث عن وسائل جديدة وملائمة، وذات كفاءة عالية، في معالجة المعلومات والبيانات الترابية، من أجل تحقيق أداء متميز وتواجد فعال للمجال الترابي في سوق عالمية تزداد فيها المنافسة يوما بعد يوم. وذلك من خلال تعبئة عدة مرتكزات أساسية، من قبيل: اليقظة الاستراتيجية، واليقظة التكنولوجية، واليقظة التنافسية، دون إغفال اليقظة التجارية، واليقظة التشريعية والقانونية. (لبنى الوزاني الشاهدي، الذكاء الترابي رافعة للتنمية الجهوية. رسالة لنيل شهادة الماستر في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، السنة الجامعية 2018/2019/ص.24 وما بعدها.). إلا أنه، ومن منظور أن للذكاء الترابي جانبين أساسيين: جانب أول، وهو الذكاء الاقتصادي، باعتباره مجموعة من المقاربات والمناهج والأدوات الخاصة بعالم المقاولات، والتي يتم تكييفها مع الحاجة إلى التنمية الاقتصادية لمجال ما، وجانب ثان، أوسع، يتضمن المعارف والكفاءات المكونة لمجال ترابي معين، وهو مفهوم الذكاء الجماعي لذاته. ( ماريو سندوفال، الذكاء الاقتصادي الترابي رهان وبراديغما، منشورات جمعية الدراسات والأبحاث من أجل التنمية، 2012،ص.513)، فإنه ينبغي التركيز على مفهوم الذكاء الجماعي (L’Intelligence Collectif)، وعلاقته بتكنولوجيات المعلومات والاتصالات، ودورها في توليد ممارسات نوعية للذكاء الترابي، بين كافة الفاعلين الترابيين، والمواطنين المنظمين، والأعوان الإداريين، والتقنيين المعنيين بإشكالية تعزيز دوران أو سيلان المعلومة الترابية ( أوكسجين الديمقراطية) كمدخل أساسي مهم في الذكاء الترابي، من حيث هو سيرورة معرفية وتنظيم للمعلومات داخل الأقاليم والمجالات الترابية. (Dumas Philippe ; »Intelligence territoriale, Décentralisation ou la région à la française »,HAL.archives.ouvertes.fr.p31 ?document pdf ,disponible sur le lien https://archivesic.ccedcnrsfr, ;consulté le 08/07/2018.. إن الذكاء الترابي، من حيث هو نسق أو نظام معلوماتي ترابي، في خدمة شراكة الفاعلين الترابيين الذين يأملون في تنمية وتطوير تدبير عقلاني أو حكامة ديمقراطية للتراب، تكون في خدمة التنمية المستدامة (Girardot,2007 ;Salles,2008)، إن هذا الذكاء يتطلب، لا محالة، شكلا من الذكاء الجماعي، حتى يكون مساعدا من الداخل غلى التنمية الخارجية للتراب. ولهذا، يرى جانين أن الذكاء الترابي » واقعة تستدعي القدرة الجماعية للفاعلين، فوق نفس التراب، على التموضع جماعيا، حتى تكون لهم القدرة ــ انطلاقا من معلومات ومعارف متقاسمة وغيرهاـــ على تحليل وفهم ترابهم وسياقه. » (Janin et Grasset ;2011) وبمعنى آخر، فالهدف الرئيسي من الذكاء الترابي، هو مساعدة مختلف الفاعلين الترابيين على حسن معرفة ترابهم، وبالتالي، التحكم في رهاناته وحقائقه من أجل ضمان أحسن لتنميته » (Girardot,2002 ;Clerc,2005 ;Janin et al. ;2011;) ( راجع في هذا الإطار:Nmili.Mohammed ; et Bouaoulou Mouna ;(2021) ; » Les pratiques de l’intelligences territoriale dans le cadre de la préparation du plan d’action communal » ;Revue Internationale du Chercheur »,Volume2 »,PP.1069-1092. www.revue.chercheur.com.
وما دامت مدننا ليست مجرد مورفولوجيات مجالية مبنية بالاسمنت والحديد، ولا هي مجرد تجمعات سكانية متركزة وجامدة، بقدر ما هي مجموعة من الديناميات الاجتماعية والتفاعلات والعلاقات المادية والرمزية، القادرة على بلورة أنواع شتى من الذكاءات الجماعية والترابية، وبالتالي، فإن بلورة إمكانيات التغيير و التطوير داخل مدننا، تتطلب انبثاق وتحفيز تلك الذكاءات التي ينبغي لها أن تكتشف وتعرف، وتبتكر و تبلور موارد و إمكانيات الفعل الجماعي الإرادي والمنظم، وهي الموارد والإمكانات المادية والبشرية والمعلوماتية، التي توجد بالفعل وبالقوة داخل المورفولوجية الاجتماعية المتباينة لمدننا المعقدة والحديثة النشأة. وإذا كان التخطيط، حسب تعريف تايلور، هو » عملية التنبؤ بما سيكون عليه المستقبل، مع الاستعداد الكمال لمواجهته،..من خلال التقرير المسبق لما يجب عمله »، فإن ما نقصده هنا هو « التخطيط الاستراتيجي كأحد أهم مقومات التدبير العمومي الحديث، حيث نص دستور سنة 2011 بالمغرب على دور الجماعات الترابية في تفعيل السياسات العمومية للدولة وإعداد سياسات ترابية. الأمر الذي يؤكد على أهمية تدبير شؤونها، وفق منطق التخطيط الاستراتيجي على أساس أهداف وبرامج محددة، ويحسم في تجاوز المنطق المتسم عموما بالعشوائية في البرمجة وضعف المردودية » (د. المصطفى دليل، الهندسة الترابية..، مرجع سابق، صص.147 و148). إن مجالاتنا الترابية في حاجة ماسة، أكثر من أي وقت مضى، إلى مخططات استراتيجية، أي مجموعة من التنبؤات المستقبلية، والخطوات المنهجية المدروسة، التي تنطلق من الواقع الترابي المحلي والجهوي، في شكل قرارات وبرامج ومشاريع و أعمال محددة في الزمان والمكان، بهدف تحقيق التنمية المندمجة والمستدامة، عن طريق ضمان التوازنات بين الاستثمار الاجتماعي والاستثمار الاقتصادي، للرفع من القدرة الإنتاجية، والجاذبية الترابية والتنافسية المجالية، وبالتالي تحقيق ما يسمى اليوم بالإنصاف الترابي (L’Equité Territorial)، من خلال محاولات ومبادرات محو التفاوتات الاجتماعية والترابية، أو على الأقل التقليص من هوة الفوارق السوسيومجالية، ذلك أنه » لا ينبغي أن نفهم فكرة الإنصاف المجالي على أنه إنصاف بين أماكن، بقدر ما هو بعد مجالي للإنصاف بين الناس، لأن المجتمعات تنظم الفضاء الذي تقطنه. والتراب يعكس العلاقات الاجتماعية. وبالتالي، فالحديث عن الإنصاف المجالي، يعني الحديث عن الاجتماعي ــ المجالي، وبتعبير آخر الفعل الاجتماعي على المجالي، وردود فعل المجالي على الاجتماعي. ( د. المصطفى دليل، الهندسة الترابية…، مرجع سابق، ص.263). ومن هنا، فكل تراب هو مجتمع مصغر، يبقى حاملا في أحشائه بذور التفاوتات وعدم المساواة، بين مكوناته الطبيعية، والبشرية، والسوسيو اقتصادية، والسياسية. فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار، إشكالية التراتب في الدرس السوسيولوجي الفيبيري (نسبة إلى ماكس فيبر)، من حيث أن كل المجتمعات الإنسانية هي بالضرورة مجتمعات تراتبية، تتضمن تمايزات جماعية، منتظمة ومتواصلة بين مختلف فئاتها الاجتماعية، فإننا نميل إلى القول بأنه لا يوجد إطلاقا لمجتمع مساواتي، أو مجتمع لا يقتضي سيطرة فئات على أخرى، واستفادة بعضها أكثر من الأخرى، فالمساواة غاية منشودة و هدف معياري، تتصارع من أجله الفئات والشعوب، انطلاقا من أربعة محاور تتسم بعمومية التمايز والتراتب حولها وهي: الثروة (تراتب اقتصادي ــ السلطة (تراتب سياسي) ــ المكانة (تراتب اجتماعي/رمزي) ــ نمط العيش ( تراتب في الاستهلاك).( محمد جسوس، إشكالية التراتب: الدرس الفيبيري »، ضمن كتاب محمد جسوس: رهانات الفكر السوسيولوجي بالمغرب، أعده للنشر وقدم له: إدريس بنسعيد، مطبعة المناهل، الطبعة الأولى، الرباط، 2002،صص.195-211). وهذه، في نظرنا، هي التراتبيات أو الوضعيات السوسيومجالية التي ينبغي استحضارهاــ إلى جانب المعطيات الجغرافية والمؤشرات الديموغرافية طبعا ــ أثناء الاهتمام أو الانشغال بتشخيص واقع التراب المحلي والتخطيط الحضري، واستشراف آفاق التنمية المندمجة والمستدامة للمدينة. وذلك، من حيث أن التخطيط الاستراتيجي، غدا آلية لا محيد عنها، في ما أصبح يعرف بالهندسة الترابية (L’Ingénierie Territoriale)، لتحديد التوجهات الكبرى، وأهداف التنمية المستدامة بالجماعات الترابية، وهو مقاربة تهم جميع المستويات الترابية، وترجمة لإرادة جماعية لتنمية تراب معين، ترتكز على تشخيص ترابي تشاوري، وعلى تحديد الاحتياجات وفق رؤية استشرافية (La Vision Perspective)، وتمكن من ضمان التقائية وتجانس وتكامل السياسات العمومية الجهوية ».( د. المصطفى دليل، الهندسة الترابية..، مرجع سابق، ص.147). ومن هنا، ف »إن الأطراف المشاركة في التخطيط الاستراتيجي الترابي متعددة، منها..المستفيدون المباشرون، أي المواطنون بكل شرائحهم، مع اعتماد مقاربة النوع، ومشاركة ذوي الاحتياجات الخاصة، والمهنيون الممارسون بتراب الجماعة، والنقابات المهنية، ومختلف مصالح الجماعة، وممثلو الدولة، والمقاولات، والمنظمات غير الحكومية، والخبراء، والمساعدون التقنيون..ويتوقف نجاح المخطط الاستراتيجي التشاركي على بلوغ تراض بين الأطراف المعنية بالتنمية الترابية. » ( د. المصطفى دليل، الهندسة الترابية..، نفس المرجع، ص.147).
إن المواطنين والمواطنات هم أساس إنتاج المدينة التي يعيشون فيها. يقول المفكر السوسيولوجي هنري لوفيفر في هذا الإطار: » إن تغيير المجتمع يتطلب التملك والتدبير الجماعي للفضاء الحضري، بواسطة التدخل الدائم العنفوان للناس المعنيين، بمختلف وتعدد تناقضاتهم. وهو ما يعني المواجهة. يتعلق الأمر إذن، بالقدرة على رسم أفق، انطلاقا من حدود الإمكانات الموجودة، أفق إنتاج فضاء للفضاء الإنساني، كعمل جماعي مولد لهذا المحيط وخلق وإنتاج الفضاء الكوني كعلاقة اجتماعية لحياة يومية متحولة باستمرار »(Henri Lefebvre,Op.cit.1974, ). يقترح هنري لوفيفر ما سماه ب » التحليل الإيقاعي للحياة اليومية في المدينة » كعلم في طور التكون، لدراسة الإيقاعات الحضرية الحية، إيقاعات الكلام واللغة والفعل، والمأكل والملبس، والحركة والموسيقى، والسينما والرياضة.. في المدينة، ذلك لأن لكل مدينة إيقاعها الخاص، وكل مدينة تعيش على إيقاعها الخاص، بل يمكن أن يكون للتحليل الإيقاعي مفاعيل علاجية مهمة، ولا شيء يمنع من تصور انه يمكن أن يستخدم كما يلجأ الكثير الْيَوْمَ إلى العلاج النفسي.(هنري لوفيفر، « نقد الحياة اليومية »، حوار مترجم ضمن كتاب « حوارات في الفكر المعاصر »، إعداد وترجمة: محمد سبيلا، شركة البيادر للنشر والتوزيع، مطبعة المعارف الجديدة،ط1، الرباط،1992ص.178.). فلكل مدينة أمكنتها وأزمنتها، أفضيتها ومواقيتها، أنفاسها وعلاقاتها، و ذاكرتها وأحلامها ومتخيلها…في المدينة هناك صراع خفي تارة، ومرئي تارة أخرى، صراع حول المكان والزمان، وذلك من أجل استغلالهما واستخدامهما من أجل إنتاج محتمل للمدينة.. هناك الزمن الكوني وزمن الفصول والزمن اليومي والزمن المهني أو زمن الأنشطة وزمن العطالة وزمن العطلة….وفِي الحياة اليومية الحضرية تتداخل الأزمنة والإيقاعات والدوائر، مع التعاقدات الخطية والتكرارية للحركات والتصرفات..( هنري لوفيفر، نقد الحياة اليومية، نفس المرجع،ص.177.). وبهذا تكون إيقاعات وإبداعات وابتكارات الحياة اليومية للساكنة الحضرية، مكونا أساسيا من مكونات إنتاج أو صنع المدينة (M. de Certeau ; L’invention du quotidien, De. Folio, Paris, 1990). إن التساؤل عن إنتاج المدينة، معناه إذن، تجاوز سؤال اختزالها في مجرد بناءها المادي، أو تأهيلها التحتي، أو تجهيزها التقني، إلى محاولة التركيز على الأسئلة والإشكالات المرتبطة بالتمثلات والذهنيات، والتصرفات والممارسات المتعلقة بساكنيها، والتي هي الأخرى، تحدد المدينة، كوحدة ترابية وخلية بشرية نشيطة في الكون. وإذا كانت عمليات بناء أو تأهيل أو هيكلة أو المدن، كما هو في العمل في السياسات العمومية وسياسات المدينة (Les Politiques Publiques et Les Politiques de La Ville)، غالبا ما تتوسل إلى عدة آليات وأدوات علمية، وعلى رأسها ما يسمى بمخططات أو تصاميم التهيئة العمرانية، المحتكرة في الغالب من طرف بيروقراطية الإداريين الترابيين والسياسيين، والتكنوقراطيين التقنيين، من أصحاب القرار الترابي (الحضري)؛ فإن الإنتاج الحضري، من منظور أعمق، سوسيولوجي وأنثروبولوجي( المدينة كإنتاج اجتماعي وثقافي)، يشكل ركيزة لا محيد عنها في صنع المدينة، لاستباق وتتبع، ومواكبة وتعقب كل الفاعلين المتعددين في عمليات إنتاج المدينة، من إداريين وسياسيين، وخبراء وتقنيين، ومقاولين ومستثمرين، وجمعويين وباحثين، وإعلاميين وحقوقيين، وسكّان منظمين…وبالتالي، فان إنتاج المدينة هو عملية تشاركية مركبة، على الأقل، ذات بعدين تبادليين متفاعلين وفق علاقة ديالكتيكية وديناميكية بين الوعاء والمحتوى (Le contenant et Le contenu) ، أي، بين الوسط الطبيعي والجغرافي، والشكل المورفولوجي ( مدينة ساحلية أو سهلية أو جبلية، أو غابوية، أو صحراوية..)، والمحتوى السوسيولوجي والمعنى الأنثروبولوجي ( مدينة صناعية، أو فلاحية، أو سياحية، أو خدماتية، أو تكنوبولية…) ، ذلك أن المدينة، كطبيعة وبناء وهندسة ومعمار، مأهولة بالناس وبالأنشطة وبالعلاقات والتفاعلات، وبالرموز والطقوس والعلامات، تتفاعل مع ما يجمعها وينظمها من سكان ومهن، وقوانين وأعراف، وحركية اقتصادية وحياة ثقافية، وبالتالي، فهذه المدينة، يتم صنعها وإنتاجها، قبل كل شيء، بواسطة النشاط الإنساني، الذي يتم ويتحقق وينجز هو الآخر، في إطار مجال أو تراب حضري معي، والذي يحتاج ،اليوم وغدا، إلى نوع من الذكاء الاجتماعي أو « النبوغ المغربي »، للانخراط اليقظ الواعي والاستشرافي في آفاق التنمية المستدامة، على المستويين المحلي والجهوي، كما على المستويين الوطني والكوني. وهو الذكاء الذي لا يمكنه أن يكون، بدون الوعي بالحق في المدينة، مع السعي إلى ممارسة هذا الحق المشاع، وتكريسه وترسيخه على مستوى تراب المدينة. ولهذا، ينبغي العمل، بذكاء جماعي مشترك، على تنمية الحس المدني والروح الحضرية داخل مجالاتنا أو إطاراتنا الحضرية، في أوساط الساكنة، بدءا بجمعيات الأحياء السكنية، الملتفة حول أشكال التضامن العائلية والمدرسية، والمهنية والصحية والبيئية، مرورا بجمعيات التربية والثقافة، وصالونات الفنون والآداب، والمسرح والسينما..، ومنتديات الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، وصولا إلى جمعيات حماية المستهلكين والمكترين، وإدماج المعاقين والمدمنين، وجمعيات التربية على المواطنة وحقوق الإنسان، والشبكات الدولية للمنظمات غير الحكومية، المهتمة بقضايا الديمقراطية والنوع و البيئة والتنمية…ذلك أن المدينة، هي وحدة ترابية وسكانية، وشبكة واسعة للتضامن والتعبئة، على قيم المواطنة والشعور بالواجب الوطني، التي تتجاوز المحلي والجهوي، لتعانق العالمي أو الكوني. إنها وحدة للانتماء الترابي وللهوية المرنة، وللتمرن على قيم الحرية والمواطنة، والديمقراطية و التنمية، والعقلانية والحداثة، وعلى التعايش والتسامح والحوار بين الثقافات والهويات، و بين الأديان والمعتقدات، وعلى المشاركة التلقائية وقبول الآخر، والانفتاح على متاحات المعرفة والعلم والتكنولوجيات الجديدة.. وكل ذلك، في خضم محيط دولي يتسم بعولمة كاسحة وجارفة، لا تقبل التردد أو التشدد، عولمة ترفض الانغلاق على الذات، وتنبذ العنف والكراهية، والإرهاب والعنصرية العرقية أو الدينية.
لا يمكن ربح رهان معركة الحق في المدينة، من المحلي إلى الكوني، بدون ذكاء ترابي جماعي، يساهم فيه الجميع، من مسؤولين ومواطنات ومواطنين في المدينة، لاكتساب فهم واضح لواقع ورهان التراب الحضري، وحسن استخدام مناهج علمية من أجل تحسين نموه، وإدراك معرفة متعددة التخصصات، تساعد على تحسين فهم بنية هذا التراب، بمختلف تمظهراته وإشكالياته ودينامياته، فالطموح الذي ينبغي أن يطال كل مدينة من مدننا الصغيرة، أو المتوسطة، أو الكبيرة، هو أن ينخرط سكانها وقادتها، اليوم وغدا، في سيرورات متواصلة من الذكاء الترابي الجماعي، المولد لديناميات التنمية المستدامة على مستوى التراب الحضري، وعلى المستوى الجهوي خاصة. ديناميات جماعية، التقائية وتقاطعية، « تقوم على الجمع بين أهداف اقتصادية واجتماعية، وبيئية وثقافية، والتفاعل بين المعرفة والعمل، وتقاسم المعلومات، والتشاور أثناء بلورة المشاريع، والتعاون في القيام بالأعمال، وفي تقييم نتائجها بين مختلف الفاعلين، من عموميين وخواص، من أجل فهم الرهانات الترابية فهما يتيح إطلاق تنمية مجالية مستدامة ».(عمار شقواري، » دور التسويق الترابي في تنمية الذكاء الترابي »، مجلة الشؤون القانونية والقضائية، العدد الثاني، يناير 2017،ص.205.). وإذا كانت إحدى غايات الذكاء الترابي، هي بلوغ ما يسمى بالإنصاف الترابي، فإن الدستور المغربي الجديد لسنة 2011، ونظرا لواقع الاختلافات أو التفاوتات المادية والبشرية، والتاريخية ولاقتصادية ، والاجتماعية والبيئية للمجالات الترابية بالمغرب، قد جعل من مبدأ المساواة المجالية و التضامن الترابي (La Solidarité Territoriale) غاية ذات قيمة دستورية، بحيث أكد في فصله 136 على ما يلي: » يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المهنيين في تدبير شؤونهم والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة ». ولتفعيل هذا المبدأ التضامني الترابي وترجمته على أرض الواقع العملي، صدر القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، الذي يروم » ضمان التوزيع المتكافئ للموارد فصد التقليص من التفاوتات بين الجهات…وذلك، عبر آليتين: آلية التضامن الأفقي على مستوى الجهات، ويتوخى منح الجهات الفقيرة جزءا من مداخيل الجهات الأكثر غنى بإنشاء صندوق للتضامن بين الجهات، من أجل التوزيع المتكافئ للموارد الكفيلة بالتخفيف من حدة التفاوتات بينها. وآلية التضامن العمودي، الذي يكون تأمينه بواسطة الدولة عن طريق منح تقدمها للجهات. وهكذا يكون مبدأ التعاون أو التضامن المجالي بين الجهات وداخلها، آلية لبلوغ الإنصاف الترابي كمفهوم معياري « يتوخى أن يكون مبدءا لإعداد التراب، على عدة مستويات، ولتنظيم الفضاء السياسي الأكثر ملاءمة لاحترام فعلي للمساواة وللديمقراطية.. ، مما يمكن من تصحيح الحالات التي تتسم بالظلم المجالي »، وذلك من خلال الضمان لكل شخص، نفس شروط الولوج إلى السلع والبنيات التحتية، والخدمات الأساسية من صحة، وتعليم وثقافة، وحتى الشغل، ومختلف مزايا العيش في المجتمع » ( د. المصطفى دليل، الهندسة الترابية…، مرجع سابق،ص.261). وهذا ما يعني السعي إلى تحقيق الإدماج السوسيولوجي، بغاية بلوغ الاندماج أو التمازج الأنثروبولوجي للإنسان المغربي، في سياقات وديناميات ورهانات المدينة، كمجال ترابي تراتبي، جاذب للأفراد والجماعات، نحو تملك الثروة والسلطة، والمكانة الاجتماعية والرمزية، والعيش الكريم. لتبقى المدينة، أولا وأخيرا، مجالا من صنع الإنسان، وفي نفس الآن، مختبرا لصنع هذا الإنسان، ورهانا من أجل تنمية هذا الإنسان، كيفما كان وأينما كان.