أنفا قبل الاحتلال الفرنسي: العمارة والأنشطة والسكان

علال بنور.
تؤكد الدراسات الإخبارية والتاريخية، بجود علاقة رمزية ومادية بين البحر ومدينته منذ الحضارات الأولى. ومن هنا سنقف قليلا عند حوض البحر الابيض المتوسط، الذي نعتبره مقبرة الحضارات، وفي ذات الوقت مجالا لتعايش الثقافات التي أعطت حضارة واحدة في بعدها الإنساني، ومن تم فالمدينة المينائية تعيش مع مينائها علاقات متعددة الرموز، ومن أهم تلك العلاقات، كل بحار تنتظره امرأة، كما كل امرأة تذهب لمناجاة البحر، وكل باحث عن الإلهام والسكينة يجدها على شط البحر، وكل مبدع يبحث عن الإلهام يتساكن مع البحر. وكل شعب في الحضارات القديمة ينتظر الخلاص من آلهة البحر.
كما أن سكان المدن المينائية ينسجون مع الميناء وبحره حكايات اسطورية، تجسد في علاقة الهروب إلى البحر لمناجاته. ومن الأمثلة في ذلك خلوة عائشة البحرية على اليمين من مصب وادي أم الربيع وصخرة عبد الرحمان الذي يسمونه العارفون بالسحر والشعوذة » مول المجمر »، وفي العرائش يوجد قبر » للازوينة » التي تحكي الأسطورة في ليلة عرسها غرق عريسها في البحر. وهكذا نجد الأساطير التي نسجت بين مثلث البحر والمرسى والمدينة لها امتدادات عند الفنيقين وخلفائهم القرطاجين بشمال إفريقيا، والرومان والامازيغ الذين اسسوا مدنهم البحرية على الأسطورة بالمغرب.
كانت « أنفا » قبل الاحتلال الفرنسي لها، والذي دامت قنبلته للمدينة ما بين 5 و6 و7 و8 غشت 1907 م، مركزا حضريا وتجاريا كباقي القرى المينائية – بالمفهوم الجغرافي (مدينة صغيرة) – على البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، برزت كمراكز تجارية مع الفنيقين وخلفائهم القرطاجين والامازيغ أصحاب الأرض، والرومان الغزاة والفتوحات الإسلامية إلى الاستعمار الايبيري وأخيرا الفرنسي. لا شك أن هذه السيرورة التاريخية ل « أنفا » راكمت تحولات اقتصادية وحرفية واجتماعية وعمرانية، لها تاريخ بسكانها وانشطتها الفلاحية والبحرية. عكس ما ورد عند السوسيولوجي الفرنسي «اندري آدم » في كتابه الدار البيضاء حيث يقول: » إن أنفا بدون ماض وبدون بورجوازية » يمكن أن نعتبر « أنفا » بدون بورجوازية، وهو مفهوم لم يظهر إلا مع ثورات القرن 18م، لكن لا يمكن للتاريخ أن يتنكر لماضي » أنفا ». « فاندري ادام » اعتمد في بعض جوانب التحليل السوسيولوجي على مفاهيم وتمثلات معاصرة، بدون مراعاة الشرط التاريخي، رفض اسقاط الماضي على الحاضر، الشيء الذي يجعله في بعض الأحيان يجانب الصواب.
في العمارة:
تشير الدراسات التاريخية بما فيها الاخبارية، أن « أنفا » تأسست عمرانيا منذ الفنيقين / القرطاجين بالقرب من خليج بحري يتوافر على أحواض طبيعية تسمح برسو القوارب التي تنقل السلع إلى البواخر في عرض البحر. عمليا أن الاستقرار والنشاط التجاري يؤديان إلى الاستقرار والتشييد. من المؤكد جدا، أن « أنفا » لم تكن مجالا بدون سكان، فطبيعتها الجغرافية الغنية بتربتها وعيونها المائية تؤكد أنها لم تكن فارغة من السكان، بناء على نظرية أن الحضارة المادية تشيد على موضع البحر والماء.
فعندما جاء الأجانب وجدوا مجالا فلاحيا خصبا جذبهم للاستقرار، فشيدوا الثكنات العسكرية ومخازن التجارة وهيأوا أحواضا بحرية لرسو القوارب المستقبلة لسلع السفن، خاصة عملية الشحن، كما شيدوا المنازل السكنية لتجارهم وأعيانهم. ولم يحدثنا التاريخ، هل كان للأجانب الذين مروا من « أنفا » أحياء سكنية لاستقرار الجاليات أم لا؟
كما ظهرت العمارة الامازيغية مع امارة برغواطة منذ القرن 8 ميلادي، كانت امارة عسكرية بامتياز. فمن المؤكد أن « أنفا »، عرفت مباني، فيها العمارة العسكرية والعمارة الدينية والسكنية، لذلك تؤكد الدراسات التاريخية، كان ل « أنفا » تاريخ معماري وأصول اجتماعية وانشطة اقتصادية متعددة المصادر. فهي قرية من القرى المتعددة، التي كانت تحت سلطة امارة برغواطة منذ القرن 8م إلى أن انتهت سلطتها مع الدولة الموحدية في القرن 12م. وبالتالي قد عمرت من الزمن التاريخي 460 سنة ما بين (744 إلى 1149) في مجال جغرافي عرف ب » تامسنا ». لا شك أن هذه المدة الزمنية تمكنت فيها برغواطة من تأسيس قرى (مدن صغيرة) متعددة.
انتقلت « أنفا » مع السلطة المرينية من قرية صغيرة، كان يغلب عليها السكن الهش بالنوايل والزريبة، فكان أول تجمع سكني بها يعرف ب » التناكر »، ولا نعرف المعنى الطوبونيمي لهذه الكلمة، إلى مدينة بمرافقها التي عرفها العصر الوسيط. أهمها تشييد الأسوار بأبوابها وأبراجها. كما عرفت « أنفا » العمارة التعليمية والدينية التي اشتهر بها المرينيين تاريخيا ضمن الامارات والدول السابقة لها، كل المدن التي كانت تحت حكم الدولة المرينية شيدت فيها مدارس وبالتالي اعتبرت أول دول ارتبط اسمها بالمدارس، كما عرفت فن العمارة العسكرية والثقافية، وبناء الاضرحة والمقابر هذه الأخيرة لم نجد لها حديثا عند الاخباريين والمؤرخين لرصد امكنتها ب « أنفا »، كما هي اليوم في عدة مدن تتعرض قبورهم للإهمال.
عند تتبعنا للمسار التاريخي ل « أنفا »، نجدها عرفت تحولات عمرانية واقتصادية وبشرية مع سلطة الدولة المرينية، فأصبح الحديث عنها باسم مدينة. الشيء الذي اثار انتباهنا وجدنا أن الاخباريين المغاربة لم يعطوا أي اهتمام لتاريخ المرينيين وبعدهم الوطاسيين، في حين أن الدول اللاحقة كان لها اهتمام أكبر. لا شك أن المرينيين أعطوا ل «أنفا » الشيء الكثير من معالم الحضارة المادية والرمزية، تمثلت في تسوير المدينة بأبوابها التي كانت تغلق ليلا وابراجها المتجهة نحو البحر والبر لمراقبة الغزاة، خاصة من البحر الذي كان المغاربة يعتبرونه مصدر الشر. كما تم بناء أحياء سكنية ترافقها الفنادق، التي كانت تأوي التجار ودوابهم وسلعهم، كما اهتم المرينيون بتشييد الحمامات والمساجد والقساريات والدكاكين الموجودة بين الاحياء، تم الأسواق الأسبوعية واليومية.
في الأنشطة الاقتصادية:
بحكم موضع » أنفا » بين مجالين طبيعيين البحر والسهل لهما أهمية اقتصادية، فالبحر لعب دورين محرك للتجارة الملاحية ومجال للصيد البحري. أما السهل، بحكم شساعته، يضم خيرات فلاحية بتربته الخصبة ومنابعه المائية العذبة وغاباته الكثيفة، الشيء الذي سمح لاتساع أنشطة الرعي المستقرة والمترحلة مع تواجد أنواع الفلاحة من حبوب وخضار وتربية المواشي. كما عرفت «أنفا » صناعة الفخار وتمليح السمك وغسل الجلود والاصواف، كانت الجلود تغسل فوق صخور الشاطئ البحري والاصواف تغسل بالقرب من عيون الماء العذب التي كان يصل عددها بضاحية المدينة أكثر من سبع منابع مائية.
كانت الخيرات الفلاحية تصدر عبر الميناء، نحو مدينة جنوة بإيطاليا ومدن البرتغال واسبانيا وانجلترا، وفي العهد المريني انتشرت الأسواق المستقرة منها القيساريات والأسواق الأسبوعية، يفد إليها المسوقون والتجار من عدة مناطق من المغرب، كانت تعرض فيها السلع المستوردة، خاصة الأثواب التي تخاط ملابس فضفاضة وطولية للرجال والنساء. كان سكان « أنفا » يعتمدون في عيشهم على المرسى الذي كان مصدر رزق السكان من عمال وحمالة وتجار مع الاوربيين، الذين كانت سفنهم ترسو في عرض البحر، ومن أهم السلع المغربية المصدرة: الأصواف والجلود والحبوب، منذ العصرالمريني ازدهرت التجارة مع المدن الأوربية، في المقابل، كانت تصدر إلى « أنفا » الصباغة والملابس والأثواب. ومع العهد العلوي قبل الاحتلال الفرنسي عرفت « أنفا » ومرساها ازدهارا اقتصاديا وتوسعا عمرانيا وحرفيا، لكنها تبقى أهميتها، أقل من أهمية سلا والرباط ومدن الشمال، لأسباب، ربما يرجع ذلك إلى عدم تواجد العنصر الاندلسي من بين سكان « أنفا ».
ومن الأنشطة الاقتصادية الأساسية التي عرفتها « أنفا »، منذ سلطة الامارة البرغواطية، كان السكان يعتمدون على خيرات البر والبحر، الذي كان يوفر لهم أنواعا من السمك الطري والمملح. أما خيرات البر، فكانت تأتيها خاصة من سهول الشاوية، الشاسعة بحقولها القريبة من أبواب المدينة أو البعيدة قليلا، توفر الخضار والحليب ومشتقاته والحبوب والقطاني التي كانت تنتج بوفرة لخصوبة التربة والعيون المائية. وهكذا، كان للأراضي الخلفية ل « أنفا » دورا في الاستقرار السكاني وبالتالي ازدهار القرية.
ومن الحرف التي عرفتها « أنفا »، صناعة الأواني الخزفية والجلود والأصواف بحكم غنى الشاوية فلاحيا، مع وفرة العيون المائية الكثيرة المواقع، كما عرفت حرفا مرتبطة بالبحر كنسيج شباك الصيد وصناعة القوارب خاصة أن محيط « أنفا »، كان غنيا بالغابات، التي كانت تقطع اشجارها في زمن الاحتلال البرتغالي، لتنقل إلى مدنه، كما انتشرت حرفة تمليح السمك المعد للتصدير، إضافة إلى صناعة النسيج الصوفي الخاص بألبسة الحايك الذي كان لباسا للمرأة والرجل ، كما كان الرجال يلبسون الجلباب الصوفي، الذي كانت تنسجه المرأة، معتمدة على مهارتها اليدوية من غزل الصوف على شكل خيوط إلى تركيبه أفقيا وعموديا مشدودا بأخشاب، تعرف هذه التقنية ب ( المنجج) عبارة عن ورشة نسائية. غالبا ما ترجع هذه الحرفة إلى الحضارة الأمازيغية.
في الأصول الاجتماعية لسكان انفا:
تشير الدراسات التاريخية، أن الأصول الاجتماعية لساكنة « أنفا »، تعود إلى العنصر الأمازيغي، بدليل أن تامسنا كانت موطن برغواطة، ولم تخرج « أنفا » عن هذا الإطار الجغرافي والاستراتيجي الذي كانت تتمتع به ساكنة « أنفا «، والذي كان يمتد من وادي أبي رقراق إلى وادي تانسيفت، ونحو الداخل، امتدادا من الساحل البحري للمحيط الأطلسي إلى سفوح الاطلس الكبير.
اذن، فلا غرابة في القول، أن الأصل السكاني ل « أنفا » أمازيغي بدون منازع، فبعد الفتوحات الإسلامية وانتقال تامسنا من النظام الاماراتي إلى حكم الدولة الامازيغية، مع الموحدين ثم المرابطين فالمرينيين خلال القرن 14 ميلادي، ومع الهجرات للقبائل الداخلية، التي كان محركها اقتصادي، ومع رغبة تغيير الوضع الاجتماعي للمغاربة، ظهر التلاقح الاجتماعي، واستمرت الهجرات القبلية نحو « أنفا « من محيطها، المعروف بقبائل الشاوية، ومن منطقة سوس وحاحة ودكالة وعبدة، ثم تسرب قبائل تادلة والسراغنة وقبائل الهضبة الوسطى وأحواز مراكش والرباط.
مع بداية السلطة العلوية، عرفت « أنفا » هجرة من نوع خاص، تمثلت في هجرة أعيان وتجار المدن التاريخية، كمدينة أزمور وفاس ومكناس والرباط، بمعنى دخول العنصر الأندلسي، يهتمون بتجارة الاثواب والحلي والبلاغي والعقار في تجارتهم مع الاوربيين. ولم يشكلوا إلا نسبة قليلة من السكان، مقارنة مع مهاجري البوادي. رافق الهجرات مظاهر التحول لقرية « أنفا » على مستوى الحرف والعمران والأنشطة الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية، من عادات الأكل واللباس والاحتفالات.
شكلت « أنفا » إلى جانب المدن المغربية، منذ العهد البرغواطي، حضارة بارزة المعالم. ولا يمكن أن نحكم عليها بمنطق اليوم، باعتبارها تقليدية، تقليدية مقارنة مع من؟ فهي مدينة كمدن زمنها لها وظائف تجارية ودفاعية ودينية.
هوامش
1/ إبراهيم خلف العبيدي: البرغواطيون في المغرب – منشورات الجامعة 198
2/ عبد الرحمان ابن خلدون: العبر -دار الكتاب اللبناني 1968.
3/ مصطفى نشاط: اطلالة على تاريخ المغرب خلال العصر المريني- كلية الآداب وجدة .2003
4/ محمد المنوني: ورقات عن حضارة المرينيين – كلية الآداب الرباط -1996
Jean-Paul Raynal et Abderrahim Mohib / préhistoire de Casablanca. Rabat 2016.
André Adam/ Histoire de Casablanca des origines a 1914. Éd ophrys 1969.