مأزق النخب و سؤال التشظي
د. سعيد ألعنزي تاشفين
بعيدا عن التأصيل العلمي الأكاديمي لسؤال النخب و بنية الفرز الطبقي، نود أن نؤسس لاستنتاجات خاصة في موضوع النخب مغربيا .
* 1 ) نخبة تضم كل أنواع المثقف الديني الذي يتموقع كداعية ، يقدم الرشد و النصح و التوجيه ، فتجده يمتح من البنية الخطابية الفقهية التقليدية ؛ يحاجج ضد الذين » كفروا » ، و يدعو إلى العودة إلى أخلاق السلف بشكل من أشكال دحض المجتمع الحالي و نسف منطق اشتغاله . هذا النوع من النخبة يملك الجرأة في الدعوة إلى ضرورة الحجاب بالنسبة للمرأة و أهمية تلاوة القرآن و كل ما يتعلق بالعقيدة . و نسجل إن الجرأة في الدعوة إلى الأخلاق بمحددات فقهية يقابله جفاء مطلق في القول في مختلف القضايا التي تهم الأمة. فقضية الوحدة الترابية لا تهمه قط ، و كذا كل ما يتعلق بانشغالات المجتمع كالأسعار الملتهبة و المحروقات المنفلتة عن كل رقابة حكومية و غلاء السكن و مخاطر البورجوازية الاحتكارية و شركات التدخين و حرب القرقوبي الجزائرية و غيرها من الأسئلة المجتمعية الحارقة لا يهمه فيها شيء . و يتناسى هذا النوع من المثقفين أن الدول الإسكندنافية مثالا لا حصرا تنعدم فيها الرشوة و الفساد و الاحتكار و العنصرية و التباينات الطبقية .. رغم أنها دول لا تمتح من أية خلفيات فقهية أو مذهبية أو عقدية ، على نقيض هذه الأمة التي تشهد ارتفاعا كبيرا في عدد المساجد و في عدد الذين يصلون التراويح و في من يمارس مختلف الطقوس ، لكنه في كنف المجتمع نفسه تنتشر الرشوة و المضاربات العقارية و الاحتكار و رفع الأسعار و الميز ضد الأرامل و الأيتام و التكالى ، و قلما نلحظ في هذا المجتمع متدينا أبيض البشرة يتزوج بسمراء البشرة ، أو أبيضا سليم البنية يتزوج بمعاقة ذات أخلاق حسنة رغم » فاظفر بذات الدين تربت يداك » ، و في المجتمع هذا تزداد مظاهر الاستهلاك لدرجة أن المتدين يقطن سكنا مؤثثتا بكل تجهيزات البذخ و يمتطي سيارة فارهة و يستعمل هاتفا من نوع أيفون غالي الثمن ، و رغم ذلك يحاضر في الزهد و يتلو قوله تعالى » و العاقبة للمتقين » .
* 2 ) نخبة تضم المثقف العلماني الحداثي الذي يملك جرأة كبيرة في نسف الفقه التقليدي و مناظرة الأشاعرة و الدعوة إلى التشكيك في أخلاق السلف بوضوح حتى أن مجابهة منطق التدين الشعبي يشكل سندا نفسيا لهذا النوع من المثقفين ، لكن تلك الجرأة تختفي في معرض حديث هذا النوع من المثقفين عن أعطاب القبلية و العشائرية و العائلية كمحددات تقليدية رجعية تسود مجتمعيا و تفرمل الخطوات نحو الحداثة . فالعلماني لا يؤصل للعلمانية من منطلق الفكر العلمي الذي يراكم عقلانيا لصالح المجتمع ، بل يفكر من داخل ردود الفعل النفسية ضد الدين بصفة عامة و ضد التدين بشكل خاص . و نجد مثقفين هنا بيننا ينتقدون يوميا أشكال التدين و منطق سيلان العقيدة ، لكنهم يبتلعون ألسنتهم في مشاكل المحروقات و الأسعار و تدهور القدرة الشرائية و فساد السياسة ، حتى أن للعلمانية مدخل واحد و وحيد بالنسبة لهم هو الحريات الفردية في الجنس و في الإفطار العلني و في رفض العنف الديني مع التماهي المطلق مع العنف الاقتصادي و السلطوي و السياسي و مع هدر الوظيفة العمومية و تدمير الطبقة الوسطى ، كما لا ينطقون حرفا واحدا في استفزازات الجزائر و عن هوس التشيع ، و في غيرها من القضايا المجتمعية المعروضة .
* 3 ) نخبة الأساتذة الباحثين الذين يعودون إلى المصادر النظرية ضمن المادة المعرفية ذات التخصص من أجل اقتناص المحاور السهلة لبناء متون تنسب لهم في مضمار بناء تراكم معرفي قابل للاستثمار رمزيا و ماديا . و هذا الصنف يكتسي طابع مثقف سيكولاستيكي لا يخرج عن دائرة تخصصه العلمي بما يجعله عاجزا بصفة مطلقة عن التعبير عن وجهة نظره في مختلف الأسئلة المجتمعية كالتعاقد و المحروقات و غيرها بما يجعله مثقفا عضويا يترفع عن حقوق الجماهير . إن هذا الصنف من الباحثين ينتصرون لقراءات انتهازية ضيقة بما يجعلهم أصحاب مواقف شجاعة فوق كراسي المقاهي بحضرة فناجين القهوة ، لكنهم أصحاب مواقف اللاموقف في حضرة وسائل التواصل الإجتماعي و بمختلف مستويات الفضاء العمومي المادي و الرمزي ، حتى إنهم يقدمون أنفسهم بشكل استعلائي يفيد أن مناقشة الأسعار و القدرة الشرائية و المحروقات يهم فقط طبقات القطيع ( بوزبال ) و لا يهمهم البتة لأنهم نخبة النخبة !! . لكن في الحقيقة هؤلاء أبعد ما يكون عن الثقافة بمعناها النسقي و التنويري لأنهم فقط دعاة الفهم السيكولاستيكي الضيق و على قاعدة الإنتهازية و البحث عن الأفضل في مواقع الجامعة ذات البريق و بدرجة صفر في الوعي العضوي التنويري .
* 4 ) نخبة المثقفين الوطنيين الذين لا يناقشون أي سؤال مجتمعي خارج نطاق العلاقات المغربية الجزائرية ، فيصنفون أنفسهم دروعا فكرية لصالح قضايا الأمة ، فيحضرون في كل القنوات العمومية و بشكل دائم دفاعا عن الوطن بشهامة !! ، ثم لا يقولون في كل قضايا الساعة إلا الصمت المشبوه . و بقدرة قادرة انتقلوا من الدفاع عن الوطن إلى خلق قنوات خاصة لجني الأرباح بخطابات شعبوية بسيطة تنتقد الخصوم و تدغدغ عواطف الأمة في وحدة المصير بمنطق سطحي رغم مناصبهم البحثية ؛ فيحتكرون كل القنوات كأن الوطن لا يهم غيرهم ، و دون القدرة على إنتاج مقال علمي واحد في العلوم السياسية أو في الجغرافيا السياسية أو في علم الإجتماع السياسي أو في تاريخ الأفكار اللهم مقالات كوبي كولي أو مقالات الترجمة ، بل يكتفون فقط بممارسة السجال الشعبوي بقنوات القطب العمومي حيث يتكرر نفس الخطاب رغم قضائهم عقودا في التدريس الجامعي ألف مرة و دون أي عتاد معرفي مؤهل . و هذا الصنف من المثقفين أيضا يمارسون نوع من الأستاذية و يتحدثون من على أبراجهم باستعلاء و دون أي مضمون فكري يذكر بالمحددات الأكاديمية و دون امتلاك سند لغوي – خطابي – حجاجي كفيل بانتاج تحليل علمي جيو – سياسي ضابط للمادة المعرفية منهجا و رؤية .
* 5 ) نخبة اليسار الذي يعجز عن مغادرة الكهف ، فتجد هذا النوع من المثقفين ينتقدون التطبيع و ينسفون مجهودات الدولة ، ثم لا ينطقون حرفا واحدا ضد الاحتلال الإمبريالي الإسباني للثغور و الجزر المغربية !! ، كما تجدهم أصحاب غيرة فجة لصالح فلسطين ، ثم يبتلعون ألسنتهم في أسئلة الوحدة الترابية للمغرب و في استفزازات الجزائر ، و لسان الحال يؤكد أن هذا الصنف يمكن أن يتحالف مع الشيطان ضد الدولة بمنطق يساروي بيزنطي غير منضبط لقواعد المنهج الجدلي في بناء دفوع يسارية موضوعية و رصينة .
* 6 ) نخبة مثقف الدولة الذي يدافع عن كل شيء و لا ينتقد أي شيء ، فتجد هذا النوع لا يهمه في الدولة و الوطن غير تحصين مصالحه و حماية أرباحه و الحفاظ على وضعه الاعتباري الرمزي و المادي . و هذا النوع من المثقف خطير جدا لأنه أكثر ذكاءً من الدولة حيث يستعملها لحماية مجاله الحيوي بينما تعتبره هي ابنا بارّا لها !! و نجد هذا النوع من المثقفين أصحاب عقارات و مأذونيات و رساميل ، و هم كذلك أصحاب شبكة من العلاقات مع رجال السلطة و مع اللوبيات و الأعيان ، و أصحاب مصالح مع مختلف المتحكمين في شرايين الشأن العام . و هؤلاء المثقفون يتفادون الصدامات و لا يخالطون المجتمع إلا في المناسبات ، و سرعان ما يقدمون خدماتهم في لحظات السلم الإجتماعي للدولة ثم خلسة يختفون في لحظات الصدام و الأزمة حفاظا على شبكاتهم الأفقية و العمودية لضمان المصلحة الخاصة .
* 7 ) نخبة المثقفين المحليين الذين تجدهم أطباء و أساتذة و معلمين و تقنيين و مجازين معطلين و أصحاب باك بلوس . و هؤلاء أكثر ضراوة في إنتاج أجهزة مفاهيمية » ثورية » ؛ فيصنفون الناس وفق هواهم ؛ بهذا الشكل » هذاك مخزني » ، و داك لاخر عياش » ، و هداك » انتهازي » ، و الأخر » مريض و معقد » .. و غيرها من التوصيفات التي تعكس حجما خطيرا من العقد النفسية التي يتم التسويق لها باسم النضال و الثورية و الممانعة .
* 8 ) نخبة بيروقراطية محلية تتشكل من أصحاب الوظائف الذين يقضون الصيف ببراريد الشاي و ب » لفوقيات و الصندالات » ، و مراكمة المال بتقنية » دارت » و الانخراط في الوداديات السكنية لاقتناص » لهمزة » ، و يحضرون كل الولائم من زواج و عقيقة و مراسيم عزاء فقط تلبية لنهم المعي الغليظ و المعدة . و هؤلاء غالبا ما يتهمون المثقف الملتزم ب » سوقو خاوي » و » مكلخ » و » تيضيع وقتو » ، ثم لا يصرفون هم أي موقف في قضية عامة ؛ إذ يكتفون فقط بمراكمة المال و ممارسة التقشف لدرجة لا يسافرون إلا من أجل العلاج و لا يقتنون كتابا و لا يحضرون ندوة .
* 9 ) نخبة التكنوقراط التي تمثلها عينة المحامين و المهندسين و المقاولين .. ، و هؤلاء أصحاب » قضي لغراض » ، و يفهمون الحياة كلها بمنطق » شحال نربح » ؛ فينفخون أرصدتهم و يتعالون عن المجتمع و ينتفضون عن كل الروابط العائلية و الأخلاقية ؛ حيث لا يهمهم إلا » دهن السير إسير » و » الله إجعل الغفلة بين البايع و الشاري » ، أما الفكر و الالتزام و مناقشة القضايا العامة و مصلحة الوطن فلا فضول لهم فيها .
و نستنتج إن مطارحة سؤال النخب مغربيا بقدر ما يتطلب كثيرا من الفهم السوسيولوجي العلمي ، بقدر ما يحتاج إلى القيام بمسح سوسيو – نفسي دقيق لمختلف الأعطاب السيكولوجية التي تلازم البنى المجتمعية و تحاصر دينامية الفرز الطبقي و تربك ٱليات اشتغال العقل الفردي .
ملحوظة ؛ و التعميم منهجيا لا يستقيم رغم أن الشاذ لا يقاس عليه .