بورطري، رجال ما اجتمعوا على ضلال
فؤاد الجعيدي
في هذا اليوم من التاسع من شهر يونيو2021 ، كنت على موعد مع رفيقين من حزب التقدم والاشتراكية، في زيارة لمدينة سطات، كان لي إصرار لا يقبل الجدال ، أن يكون اللقاء ببيتي، هذه القيمة أحتفظ بها من والدتي التي علمتني أن البيت حضنا للأعزاء، كانت تستقبل ببيتنا المتواضع بحي العيون بالدار البيضاء رفاقي من فرع مرس السلطان في ثمانينات القرن الماضي، وبذلك البيت البسيط المؤلف من غرفتين، شهد زيارات الرفاق عبد المجيد الذويب وسعيد السعدي وعبد القادر سهيل الطبيب المتواضع والفنان الوديع الذي كان يعشق حتى النخاع الطرب العربي الأصيل ويغيرهم ، وبعدما انتقلنا من البيت أقام به الرفيق عزيز الدخيسي الذي كان في تلك الحقبة محررا لمداخلات الرفيق علي يعته، والذي صار فيما بعد محاميا بمدينة أزرو، في ذلك البيت المتواضع، لم تكن الوالدة تقوى سوى على تأمين قهوة المساء، وبعض العجائن الساخنة التي توفرها لنا، على طريقة أهل دكالة.
في الواقع بعد سنوات 2000، أدركت أن هذا الحزب الذي ساهمت في بنائه على مدى عقود من الزمن، حتى غدا قوة مؤثرة في المشهد المحلي والجهوي بسطات، تسلل إليه الانحراف ب180 درجة، وبدت المؤشرات تتجلى في استقطاب العناصر اليمينة، للرهان على المقاعد الانتخابية، لم أكن وعددا من الرفاق كائنات انتخابية، ولا نتطلع لمجلس جماعي أو كراسي هاوية، ولما استقوى الانحراف فضلنا الانسحاب في صمت، تاركين للتاريخ أحكامه التي لا ترحم، هكذا ومجموعة من الرفاق طوينا مرحلة، وبحثنا عن مواقع أخرى تستوعب همومنا كبشر، انخرطوا طوعا في النضال الديمقراطي لكن أتاهم الانحباس من رفاق الدرب القديم.
واتضحت خيوط المؤامرة، أن من قاد الدسائس بالفرع الإقليمي، لم تكن أمانيه وتطلعاته تتجاوز التحول إلى سمسار صغير، يتاجر بمآسي البسطاء ويساوم بهم في المكاتب السرية، كما فعل في صفقته، يوم أن تحالف مع الصف الديمقراطي لكنه سرا عقد صفقة مع اليمين من أجل حفنة من المال ومنصب كاتب المجلس، وانتهى به المطاف رقاصا بين الجهات.
في الواقع، لم أغير قناعاتي المذهبية وبقيت وفيا لإرثي السياسي والإيديولوجي القديم، بالانخراط الكلي في العمل النقابي، مع مواصلتي الاهتمام بقضايا الشأن العام، ومناهضة القوى الرجعية، على مستوى الكتابة الإعلامية، وحافظت على روابطي الإنسانية مع كل الرفاق الذين لم يبادلونني العداء في أشرس المحطات عنفا علي، بألسنة السوء من التابعين والمشائين وراء سمسار صغير أثبتت الأيام وضاعته يوم أن لهف حقوق أيتام أخته، ودخل معهم في حروب طاحنة تأكدت منها أنه لم يكن في يوم من الأيام كما يدعي دفاعا عن القيم الإنساني النبيلة.
لكن كل الرفاق الذين ذاقوا من مرارة الكأس الذي تجرعت من سمها، عادت بنا العلاقات من جديد في حضن الاتحاد المغربي للشغل، هذا الاتحاد الذي تؤكد فيه الأحداث والوقائع أنه أمن لنا الشروط والظروف كي لا تغتال شعلة النضال فينا.
جرت مياه كثيرة تحت الجسر، حزب التقدم والاشتراكية الذي كان يضرب له ألف حساب، ومعادلة صعبة في المشهد السياسي الوطني، صار مأساة على ألسنة الناس قبل مناضليه، ولم تعد له تلك الجاذبية التي يحظى بها بين النخب السياسية المثقفة، ولم يعد مثلما كان معادلة صعبة في النقاشات الوطنية، حيث المواقف تبنى وتتأسس من النقاش الفكري الواسع والهادئ بين مناضليه وفي إطارهم التنظيمي، كما فعل في أحداث الخليج العربي وتفرده بإدانة المواقف الديكتاتورية لحزب البعث العربي، وثراء مساهماته إلى جانب الأحزاب الشيوعية العربية وحرصة على توحيد مواقف مناضليه والمتعاطفين معه عبر افتتاحيات جريدة البيان وبيان اليوم.
في كل محطة وطنية، صار الحزب يتخلص من أبنائه ومن الذين تربوا في تربة تنظيماته الموازية، وشكل مليشيات جديدة، تتحرك بالهواتف للتخلص من نواته الصلبة واستبدالها بمن يحسنون الطاعة، وتنفيذ الأوامر المركزية. ولم يعد التوافق والتراضي قيمة من القيم التي أنتجها هذا الحزب، وصار كل اختلاف أو اصطفاف في ضفاف التفكير المشروع في الاختلاف يبيح تأليب الرفاق على بعضهم البعض كما حدث في محطات متعددة.
في هذا السياق، ظهرت من هنا وهناك، بعض الدعوات، للتنبيه على الممارسات غير الديمقراطية وسط الحزب، وعلى العشائرية الدخيلة التي تملكت فيه وعلى اندحار القيم الإنسانية بين الرفاق واستبدالها بأمور غريبة عن تربته . والتي باتت تحرم أن يكون لأي رفيق استقلاليته، ورجاحة عقل للتميز في ما ينبغي أن يكون عليه النضال داخل مدرسة حزب التقدم والاشتراكية، ضاعت البوصلة، لحزب لم تعد له قيادة جماعية ووقع في التسلط وصار العملة الرائجة في صد كل من زاغ عن خط الآمر والناهي. وتم واستئصال الحزب من علاقاته الجماهيرية، وشلت تنظيماته القاعدية وارتباطاته بحياة الناس في الأحياء والمؤسسات الإنتاجية والبوادي ووسط صغار الفلاحين..
ولم يعد الحزب يعتمد قناعة التغير، بل تهيأ أكثر من أي وقت مضى لتقديم المبررات والتنظير لمساهمته وسوء تدبيره لمرحلة الانتقال الديمقراطية ولم يترك فيها بصماته.
في هذا الوقت بالذات، تلقيت زيارة لرفاق لي من فاس والرباط، الرفيق يوسف بلوق والرفيق أنس الدكالي، تمكنا جميعا من استرداد لحظة قوية وبالجرأة والشجاعة المطلوبة أمام تحديات البلاد اليوم وما وصل إليه الخطاب السياسي من تبخيس.
اتفقنا على قناعة واحدة أن بلادنا اليوم في أمس الحاجة لأحزاب قوية تقوم على الارتباط بالجماهير وقيادة كفاحاتها بكل مسؤولية والوضوح في الرؤية السياسية من نحن ومن نكون؟ وما هي جذورنا التاريخية وعلى أي مشروع مجتمعي ندافع؟
حزب التقدم والاشتراكية ومنذ ميلاده ظل التعبير الطبقي والسياسية والإيديولوجي للطبقة العاملة بل ومتواجد معها في كل المحطات النضالية في المؤسسات الانتاجية والوحدات الصناعية، يتعلم منها ومعها ومن تجاربها ما ينبغي أن يكون عليه مناضلو الحزب من التزام طبقي، وأيضا بجانب الجماهير الشعبية في نضالاتها اليومية والسعي للرفع من قدرات وعيها الطبقي، وليس سلخ هوية الحزب والارتماء به في أحضان اليمين المحافظ.
كان من بين الحاضرين رفاق لي من مدرسة الاتحاد المغربي للشغل، أولهم الكاتب المحلي لاتحاد نقابات سطات وثانيهم مناضل شباب تمرس في الشبيبة المغربية العاملة ثم صار كاتبا عاما لقطاع التكوين المهني، لكن وللتاريخ أذهلنا الرفيق أنس بهدوئه وحسن إصغائه ومنهجيته في النقاش وتبادل الرأي حول الأوضاع التنظيمية لحزب التقدم والاشتراكية، وأن بلدنا في أمس الحاجة لأن يسترد هذا الحزب عافيته ويدعو إلى مصالحة وطنية باستحضار النقد الذاتي بين الرفاق عن طرق التدبير التي أوصلت الحزب لأوضاعه اليوم.
هذا الحزب هو تراث وطني ساهمت فيه أجيال من مرحلة التحرير، وذاق فيه المناضلون وإلى جانبهم العديد من المواطنين مختلف أنواع التعذيب والقهر الاجتماعي، وعاش مراحل من القمع والبطش ولا يحق لأي كان أن يدبر اليوم هذا الحزب على هواه.
هناك رفاق ممن طردوا من عملهم وهناك آخرون سجنوا وعاشوا محنا مرير وهناك من تكالبت عليهم نوائب الدهر، من أجل أن يكبر هذا الحزب ويساهم في تغيير البلاد وتحقيق الكرامة ومثل العدالة الاجتماعية للمواطنين في المدن والمداشر ولم يكن في يوم من الأيام حزب التقدم والاشتراكية يسعى لتأثيث المشهد الساسي أو عجلة إنقاذ لأي حزب من الأحزاب.
الحزب له هوية وانتماء طبقي وخيارات ايديولوجية، تقوم على التعاطي مع الواقع الموضوعي، للتأثير الإيجابي في الإحداث، ولم يكن حزبا أنانيا بل في العديد من المحطات التاريخية جعل المصالح العليا للوطن فوق كل اعتبار.
اليوم هناك حقيقة، من كان سبابا في أزمة التقدم والاشتراكية لن يكون جزءا من الحل، لكن على الرفاق الذين عاشوا فرجة الانهيار، أن يعودوا على الأقل في هذه المرحلة لمناقشة العلل وتحديد المسؤوليات، ولربما الحزب في وضعية أفضل لم يعد هناك تنافس على الدواوين والمناصب، ولكن التنافس الذي ينبغي أن يظل حاضرا هو إنقاذ هذا الحزب العريق في هويته وفي ارتباطاته الطبقية وهي إحدى المهام المركزية المطروحة على المؤمنين بالاشتراكية العلمية ومناهضة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان هذه هي المعركة الحقيقة والباقي تفاصيل غير مهمة.