النضال في زمن النفاق.
فاكر مصطفى
إن الفعل النضالي، سياسي كان أم نقابي أو حقوقي يعيش هذه الأيام أسوأ لحظاته، و يعيش لحظات احتضاره، تتخللها بين وقت و آخر نعرات فارغة بفراغ جماجم بعض الزعماء بعد أن ثبت حسب الفحص السريري الذي أنجزه و أشرف عليه خبراء الشغيلة أنه يعاني من مرض عضال لا ينفع معه دواء، بحيث ابتلي بكائنات أقرب من البلاهة و الغباء منها من الرزانة و الحكمة و التبصر في مسيرة الدفاع عن قضايا الطبقة المسحوقة، فما عادت تقوى على النضال وسط الصفوف لأن طبعها الخبيث، و صنعها الخسيس بات معلوما و أهدافه جلية واضحة، حيث انكشفت خلاله عوراتها وبانت حقيقة نفاقها، و كيف أنها في الظاهر تدعي التمرد و المشاكسة، و بين يدي رؤسائها هي أول المباركين الطائعين الخاضعين و المذعنين.
لقد أصبحت كلمة المناضل في عصرنا هذا يسوق لها بشكل تعسفي و مجاني في كل اللقاءات التي يؤطرها الزعماء بمعية حواشيهم الإمعات الذين لا مبدأ لهم سوى التملق و التزلف و البحث عن الفتات، فتراهم يرتدون في المواسم السياسية ثوبا نقيا جديدا، ولو لم يكن على مقاسهم، ويتكلمون بلهجة فيها دغدغة المشاعر تخاطب الأحاسيس ليتقمصوا دور المدافعين على العدالة الاجتماعية، ورفع المظلومة، وإرساء قواعد الديمقراطية، فأمثال هؤلاء من أفسد المجتمع و أفرغ النضال من محتواه الحقيقي.
المناضل الحقيقي هو إنسان قبل أن يكون شيئا آخر، كائن يعلي من القيم الإنسانية إلى درجة التقديس الذي يستحقه. المناضل هو الذي يوقف حياته على قضية الحرية بمعناها الواسع، حرية العقل و الضمير و التعبير و المعتقد و الإيمان. المناضل كما عهدناه جزء لا يتجزأ من قضايا المجتمع لا ينفصل عنه، هو القلب النابض و الممثل القانوني لقيمه و مثله العليا في أبهى صورها، المناضل هو القدوة في الممارسة و السلوك، هو الموضح و الشارح لقيم الحرية و العدالة و المساواة.
لقد عرفت منهم الكثير و الكثير، وعاصرت منهم طيلة أزيد من 30سنة من الممارسة النقابية الميدانية في مناطق و فيافي المغرب العميق نماذج و أصنافا، منهم من ألفته يناضل بحرقة و غيرة على صيانة و كرامة العامل أو الموظف وهم قلة، و منهم من يناضل من أجل التربع على عرش الأشباح يتقاضى أجرا دون أداء واجبه المهني وهم كثر، تلقاه يجوب الشوارع و ردهات المباني يتأبط محفظته كربيبته في الرضاعة، يتصيد الفرص ويقود الاحتجاجات و يطلق المفرقعات الهوائية لا لشيء إلا لأنه يفر من سلطة العمل، يبيع و يشتري في الذمم، يستغل العمل النضالي و يسخره لمصلحته، و منهم من يتسلق درج المناصب و الكراسي، مجتهدين في تخطي الرقاب، و ركوب الظهور و القفز على الجدران القصيرة فصاروا إلى حيث هم الآن بعدما كانوا بيننا نسيا منسيا.
فأمثال هؤلاء هم الذين يتلهفون وراء الجيوب الفارغة و يتسابقون وراء يافطات النقابة، و يبحثون دوما عن العطلة المؤدى عنها، و اليوم بعد أن اشتد فزع التأنيب على رؤوسهم و انكشف نفاقهم، و بانت أمام الملأ حقيقتهم، و انفض الجمع من حولهم، أخذوا يتسولون إلى المظلومين للبعث و البحث من جديد عن ما يمكن أن يكون طوق أمان و لو ببصيص أمل نحو ما يشترون به سوءاتهم، يبيتون مع الإدارة و يصبحون مع الرفاق.
هذه الصورة لم تأت فجأة و لا نزلت من السماء نزول الثلج و المطر، لكنها نتاج قتل مدرسة الشعب، و تمييع الثقافة و قتل المثقف الملتزم بالدفاع عن قضايا مجتمعه، حيث غلب طبع الغالب على المغلوب و ساد الخنوع و الركوع و أصبح الوطن بركة ماء جامدة و مع مرور الوقت يصبح مستنقع آسن يجمع الذباب و ما هو أقبح.
المناضل هو ذاك المثقف العضوي الذي تشبع بالمبادئ، هو الفكر هو الوعي، وآلة صقل المعرفة و فضح الحقيقة.
في زمننا الردئ الذي نحياه و نعيشه، أصبح الجميع يصف و يعتبر نفسه مناضلا حتى باتت تصل إلى أحزاب و نقابات إدارية لها برامج و مطالب متشابهة، برامج للاستهلاك و للإلهاء و خدعة الرعية ببرنامج سيرمى به في المزبلة عند الإعلان عن النتائج الانتخابية، كما حدث لنقابات كانت تصرخ و تقلب الطاولة من أجل إيجاد حل للمشاكل و بعدما جلست على كرسي المسؤولية انسلخت و رفضت حتى الاعتراف بنضالات التنسيقيات الوطنية.
طبعا لكل زمان خصائصه و لكل مرحلة رجالاتها، لكن المتفق عليه هو لا جديد و لا تغيير فالسائد قبل 2011هو المتحكم اليوم رغم تغيير الألوان و المسميات و اليافطات، فلا اليساري فك عقدة المحتاج و لا الإسلامي أتى بنموذج عمر بن الخطاب و لا الليبرالي أرسى دعائم النهضة و لا الإداري طبق الرخاء و السلم الاجتماعيين.