الفكر المدني وعوامل الردة في المجتمع المغربي ( الجزء الثالث والأخير)
المنظار ( الجزء الثالث والأخير )
الأستاذ سعيد ألعنزي تاشفين في هذه المقالة الثرية يسلط الضوء بالمواكبة الفلسفية والفكرية لمظاهر تفكك هيمنة اللاهوت السياسي في أروبا وما اعتمل فيها عبر التاريخ، من تحولات مست في جوهرها نظم العلاقات الاجتماعية، وما رافقها من تيارات فكرية انتصرت في نهايتها للفكر العقلاني كما انتصرت لتحولات طبقية نمت على أنقاض الفيودالية.
هذا التقديم الثري في رصد للتحولات الكبرى بأروبا، يجعل منه الأستاذ سعيد تاشفين، مدخلا لفهم طبيعة المجتمع المغربي وهذا العناد القوي الذي أنتج مزيدا من الأعطاب..
وهي أعطاب استدعت التشريح لمراحل من تاريخنا الوطني نترك تأملها والنقاش حولها للمثقفين والمعنيين بقضايانا السياسية والاجتماعية الراهنة.
ونظرا لخصوبة الموضوع وثراه المعرفي ارتأينا تقديمه على ثلاثة أجزاء.
بقلم د. سعيد ألعنزي تاشفين
ونجد كثيرا من الصراعات التي تقام بحلبة المجتمع المدني تجد مبرراتها في أحقاد الماضي المركب الذي يحدد ايقاعات الراهن حسب تأثيرات الهزائم والأمجاد المحنطة بمخيال الأفراد و الجماعات ؛ و هنا تجد لازمة العار مخرجاتها في تشكيل فكرة الانقسامية كأداة اجرائية في استصدار مواقف حيال قضايا وأشخاص بعينيهم . إن المجتمع المدني فلسفيا ، بناء على ما سلف ، مرتبط بتحرر الأفراد من سلطة الجماعة المتعسفة باسم التنوع في الوحدة و ليس باسم الوحدة في التنوع كمنطق سليم في تدبير التنوع والاختلاف ، حتى أن مجال الصراع بدل أن يتشكل من صلب راهنية الحقوق ، نجده ينحرف إلى تصفية بسيكو – اجتماعية باطولوجية للحسابات بما يجعل الخطابات المدنية النضالية مجرد أوهام لا تقدِّر مخاطر الاصطفاف المنطوية على ذاتها ، ولا تستحضر زيف الادعاءات المغرضة التي نالت من الكثير من الباحثين و المناضلين بغباء بيِّن تحت زيف البطولة الرعناء في سوق الأجندات الموجهة عن بعد لصالح البديل المنتظر كما حدده الجهل المركب و كما شرعنه الجهل المقدس وفق كل أدوات تدبير وهم أهل الكهف و التسويق الفرجوي للتفوق الواهم . و عليه فالمناضل المدني بالمحددات الرجعية تجده شجاعا و مغوارا في حرب » الشرف » ، و غير متردد مهما تبدو له التحالفات غير منصفة له ، محاولا التموقع في قلب الأحداث و هو يكرر نفسه كثيرا و يجهل مخاطر حقيقية محذقة به في سياقات مجالية و زمنية منذرة بالإفلاس و متحكم فيها عن بعد خدمة لرهانات الهابيتوس المتحكم فيه لدرجة أن منطق التكرار لوحده كفيل بتأسيس بهرجة سادية تفضح عيوب هذا النوع من المناضل الذي يتجاهل مخاطر الرتابة و ضعف البصر في طريق إقامة الشرعية . و أمام هذا البحث الباطولوجي التعويضي عن اخفاقات الآباء أو الأجداد أو الذات الفاشلة ، أو عن انتصاراتهم و ملاحمهم معا ، تتشكل زعامات جديدة تتاح لها كل إمكانيات الظهور ظرفيا في انتظار أن تقدّم إلى المحرقة لتمويتها بشكل رمزي من جديد ضمن محدودية التدافع ، ثم بذلك تستأنف مرحلة جديدة من الصراع على أنقاض ضحايا جدد ، وهكذا دواليك عبر التحكم في تفويت الشرعية و تمريرها باستغلال أرانب السباق و كلاب القنص وفق معادلة رمزية دقيقة جدا غايتها التحكم في البنيات والأنساق ونميط الحقول و فرملة معيارية المواطنة وضبط دينامية التراب .
إن فكرة المجتمع المدني تقتضي منهجيا أن يتسلح الفاعل المدني بالحد الأدنى من الفكر الفلسفي منذ اللحظة المؤسسة لولادة الأزمنة الراهنة مع ديكارت و إيرازم بداية ، ثم مع رواد الإصلاح الديني ، نحو وسبينوزا ونسف اللاهوت السياسي ، نحو رواد الأنوار و انتفاضة العقل على متاهات الانزياحات التيولوجية الكبرى ، نحو الفكرة المطلقة عند هيغل ومعيارية الفكرة على قاعدة التعاقد / الدولة ، بعد ضبط دقيق لكيفية تدبير الصراع بين تحالف السلطة زمنيا و مكانيا من خلال فصل السلط كما قعّد له مونتسكيو؛ قبل أن يصبح الفاعل المدني نموذجا لشيخ القبيلة بلباس العصر » الحداثي » لإخفاء عمق ارتكاسي بئيس على خُلف فكرة المواطنة المتجددة في ذاتها ككينونة ذات سيرورة ( التاريخ والذاكرة ) من أجل صيرورة متجددة ( المآل والتحول والاستمرار ) كما أكد مارثن هايدغر. ومن تمظهرات أزمة الفعل المدني تجديد سلطة القبيلة و البطريارك عبر تشبيب الشيوخ مبنية وجدانية صلبة ( إمغارن ) وفق حاجة شيوخ الرجعية من أعداء انفراج السياسة إلى توضيب الخطابات و تعبيد الطريق لتجديد » حرب طروادة » في انتظار تقديم ضحايا جدد إلى المقصلة بما سيجعل هؤلاء الضحايا وقود الجحيم للقادم من الأيام تحت تداعيات الحروب الموجهة عن بعد على درب منح المشروعية للنماذج المحنطة ( الأصنام – الثابت = اللاتاريخ ) على شظايا العقل المنفلت من تجاذبات التاريخ بما هو دياليكتك مستدام ، ومن سياجات الجغرافيا كمشترك مادي ، ومن جاذبية الانتماء العضوي بما هي وهم حاصل . لذلك فأسئلة العمر ، لدى موجهي الصراع ، و صناع رمزية المجال ، و دوره في تصفية الحسابات ، و التراتبية الأوليغارشية ، و نمطية الباطريارك ، وهوس الغلبة في ضبط رمزية الفضاء العمومي ، وغرور الأصنام ، واستثمار الذاكرة في توجيه حرب الأحقاد ، وعنف الميكرو – هويات .. كلها تشكل محددات الحقل / الهابيتوس التي تبحث عن نماذج عديمة الذكاء الاجتماعي لتشكل حطب » المحرقة الكبرى » بما يعرقل مدنية الفكر و يوطد رجعية السلوكات ونكوصية التمثلات ، و هنا يصبح » مشروعا » تلطيخ الخصوم و قتلهم معنويا بأسلحة العورة و احتكار الشرف في ما تحت الحزام و توظيف التاريخ وشرعنة الإصطفافات لضبط إيقاع المتحولات .
ولكل ما سلف ليس سهلا الاعتراف بوجود فعل مدني حقيقي بالمعايير المعيارية فلسفيا ، اللهم البقاء أسرى نفخ رماد التاريخ لتجديد الروح في الصراع المضمر بأشكال حرب ناعمة بحثا عن جثامين تُوارى الثرى بالمقابر الرمزية المعدَّة سلفا للضحايا من عديمي الذكاء الاجتماعي الذين يتم تنصيبهم ك » زعماء » الحرب الحامية الوطيس عبر دعم النمذجة التي تغري الرعاع و الغوغاء في مقصلة الدّوكسا لصالح إعادة ترتيب الحقل الاجتماعي ثم تصويب مفارقات الهابيتوس بما يخدم رهانات التحكم البسيكو – وجداني تطويعا للعقل النقدي الذي يعتبر صلب الفعل المدني و شرعيته ، وبتوظيف عدة ميكانزمات منها إقامة الأصنام والنفخ فيهم وترميم التصدعات، أو بنهج التكرار في نبش عورات الخصوم والتلذذ بأعطاب التاريخ نحو استنزاف مؤهلات العمر في حروب بيزنطية بلا مضمون حضاري .
وختاما : ترى متى يجوز الحديث عن فعل مدني سليم في كنف القبلية والعشائرية والإثنية والمجالية والباطريريكية والعائلية والطائفية ..، على أشلاء المدنية كأسلوب حياة قائم قيام العقل كنظيمة مؤسِّسة لما سمّاه إيمانويل كانط بالعقل النقدي العملي كوصفة علاجية إيذانا بمحو تداعيات شيوخ الرجعية لصالح تشبيب الفكر لا تشبيب الرجعية والنفخ في رماد التاريخ على نقيض وردي الحداثة.
و حسبنا إن الانخراط في صلب المجتمع المدني كلحظة انعتاق معيارية يفيد الانتقال المنهجي من حياة الطبيعة أولا ، نحو حياة التحكم و الاستبداد الناعمين ثانيا كمرحلة عابرة، إلى فكرة المواطنة المنفلتة عن كل أشكال التسلط و الوصاية و التحجير في نهاية المطاف وفق ما يسمح به القانون كتعاقد شرعي ضابط لسيلان المواطنين في الفضاء العمومي . بمعنى ضرورة التموقع في قلب اللغوس كتأمل عقلاني جامع مانع و راجح في كل أسئلة المجال / التراب .
كيف يمكن لنا حُسن تمثل الفكر المدني ، وجل التنظيمات المدنية أضحت أبواقا للعطارين ، و » البراحة / مفردها لبرّاح » ، والأصنام ، والشيوخ بمقياس التاريخ النفسي لا العمر الفيزيقي ، والمعطوبين في معارك الحرية الفردية ، و ضحايا الغيبوبة الفكرية في كهف التقليد تحت جنوح مختلف الأصوليات العقدية ، والمذهبية ، والعرقية ، والمجالية ، و الجندرية ، واللاهوتية .، والنعرات القبلية – الإثنية / ، ووهم التاريخ ، وتعسف الجغرافيا ، وغباء المزاج العام ، و راجيديا التحليل في محراب اللاهوت والأصوليات والإرتكاسيات ؟!
كيف يمكن الاستدلال على مدنية الفكر ومجتمعنا المدني مجرد جمعيات » لحرمل و الجاوي » ! » الحناء والأضرحة » ! ، » التسول والإحسان » ! ، » العسل الحر والخبز بالشحمة ! » ، نحو جمعيات أوراش والفرصة الثانية و الثالتة !!! ، على نقيض نبل مدنية الفكر والثورة المعرفية على الدّوكسا وصون حرمة العقل / الفكر الحر المتحرر على قاعدة الثورة الثقافية البيضاء .
صفوة القول ؛ إن روح الفعل المدني ليست إلا العقل / اللغوس على نقيض الأوهام المجددة للدم والطوطم و كل أشكال التضامن الآلي و العضوي كما فسرته السوسيولوجيا الانقسامية وعلم الاجتماع الكولونيالي و القانون بما هو تعاقد مواطناتي متجدد على نقيض الفوضى و سيادة حق القوة لا قوة الحق .
وعليه نهاية ؛ ترى متى نحرر الفعل المدني من الأوهام !! ومن الأصنام !! ومن الرجعيات الأصولية !! ، ومن حظوة نخبة الريع !! ، ومن استئساد القطيع و غلبة الرعاع ، و من بريق الشكل على حساب بؤس المضامين ؛ و كل هذا باسم سيلان دمقرطة الولوجيات وتعميم لعبة الخواء وتخريب كل مساحات العقل النقدي العملي كبالون اختبار حقيقية لقياس مصداقية المواطنة كجوهر الفعل المدني أخلاقيا و سياسيا – تعاقديا بما سيوطد شرعية المواطنة في عنق مشروعية الدولة .