من الإيديولوجيا إلى السياسة، حفرياتُ في العلاقات الدولية بأدوات التاريخ؛ مقاربةُ في المنهج :

من الإيديولوجيا إلى السياسة، حفرياتُ في العلاقات الدولية بأدوات التاريخ؛ مقاربةُ في المنهج  :
شارك

بقلم سعيد ألعنزي تاشفين

     في بنية التاريخ ، المتقدم حينا تحت زحف المتناقضات ، والمنبعث من رماده ، عبر الإمكانات المتضاربة و من خلال العوامل المهيكلة ، أحيانا أخرى ؛ يحتضر عالم بكامله ، و يتهيأ للولادة عالم آخر على الأنقاض داخل شروط السرديات الكبرى المؤسِّسة ؛ إذ منذ حلول كوفيد التاسع عشر كسردية جديدة و محفّزة للتحول ، و كقوة قاهرة و  » مفاجئة  » ؛ ولدت في كنف الغموض الاستراتيجي عدة احتمالات لعالم جديد أخذ يتشكّل من حُطام ما قبل سقوط حائط برلين و اندحار الغريم الشيوعي للغرب الرأسمالي الذي تفوق في بلوغ أمركة العالم كما ترتضي ذلك الشركات العابرة للقارات المنتجة لمختلف منحنيات العولمة . لقد تأكد فعلا ، ضمن رجحان الضوابط الجيو – استراتيجية في توجيه الأحداث ، أن عالما أخر يُصنع على ضوء ما يُثبِت تجاوز الأحداث لمنطق فرنسيس فوكوياما المعتمَد في تفسير التاريخ وفق هوس الرأسمال ، حيث إن الإنسان الأخير الذي ارتضاه صاحب نظرية  » نهاية التاريخ  » لم يعد موجودا تحت ضغط ما خلّفه الوباء الذي تحول إلى جائحة تحت تأويل سريع و بقساوة ذات تأثيرات بسيكو – اجتماعية وخيمة من لدن منظومة الإعلام المنتجة ل  » الحقائق  »  التي أخضعت العالم لتداعيات الرعب الممنهج و لشروط الهيمنة الجديدة كما حدّد منحاها المختبر الخاضع بذكاء لتعسّف النيو – سلطة . و هذه المرّة ، كتحول راديكالي ، حيث تتفكّك نظم من الفكر والاقتصاد و السياسة و الثقافة والاجتماع و الذهنيات و البنيات والأنساق ؛ و يصعب عليها جميعا المقاومة دون عنف ، كما يحصل في ضبط الديموغرافيا وفق وثيرة المختبر أولا و الحرب ثانيا ؛ كما في حالة كورونا أولا ، أو كما يقع في ليبيا الفاشلة ، أو بين الصين  طايوان ، أو بين أوكرانيا و روسيا بشكل أكبر في حرب أخرى مطلوبة استراتيجيا ، رغم ما يبدو من تداعياتها الصعبة على بلدان الغرب الرأسمالي . إنها حقيقة تخدم و تشتغل لصالح إطالة عمر النظام النيو – ليبرالي الذي يخطط لكل التفاصيل ضمن حروب الجيل الرابع الدقيقة كما أكد كيسنجر منذ أربعة عقود تقريبا ، و كما أكد صقور البنتاغون منذ خطاب جورش بوش الأب حول ولادة النظام العالمي الجديد إيذانا بإخفاق كامل و نهائي للبروستوريكا و الكلاسنوت ؛ ثم نتيجة لذلك بروز فكرة أمركة العالم على شظايا القطبية الثنائية ثلاثة عقود قبل وفاة ميخائيل غورباتشوف المنتهي بيولوجيا مؤخرا ، مع ما تولّد عن ذلك من مجريات مطّردة ضمن جدلية الثابت و المتحوّل في العلائق الدولية على مقاس الهيمنة و بشروطها المدمّرة . إنها نظم تقف ضد جديد ينهض في حشرجة الحاضر ، و تقاوم في أشكال أخرى ، و هي تتجدّد لضرورة تجاوز انقراضها ؛ و تنعقد بين عناصرها المتنافرة تحالفات دقيقة يصعب فهمها من دون تأويل ميكرو – سياسي لحيثيات النوازل في عالم الميكا – إمبريالية و النيو – ليبرالية كما يحدّد منحاه الرأسمال بقواعد عمل جديدة مختلفة عمّا كان لحظة الميركانتيلية فجر الزمن الحديث ، و فيها مع التحول عدة مواعد تتأجل مرّة و تُستعجل مرّات خدمة لأجندات الهيمنة وفق ثنائية المركز و الهامش كما أكد سمير أمين الذي أبدع في تفسير تجليات السلطة بين دوائر صناعة القرار الدولي و هوامش التبعية و الخضوع ، رغم أن الصراع انزياحا أصبح بين القوى العظمى نفسها كما بين الناتو ( حلف الشمال الأطلنتي ) و روسيا ( ما بقي من حلف وارسو ) ، وريثة الاتحاد السوفياتي ؛ حول إغراءات المجال الحيوي كما تجسّده أوكرانيا الغنية بمواردها و بمساحتها المغرية ، و الذي ترفض روسيا بوتين تركه كاملا لصالح الناتو بقيادة الولايات المتحدة الذي يروم محاصرة روسيا من كل الجبهات عبر توسيع الحصار نحو جبهة بلاد زيلينسكي بما يخدم سيلان سلطة الرأسمال في اتجاه منطقة البلقان كاملة انتقاما من توسع جبهات الاتحاد السوفياتي منذ بلوغ فلاديمير إلياس أوليانوف سدّة الحكم على أنقاض نيكولا الثاني . إن الحاجة أضحت إذن ملحة ليدخل الفكر الجدلي الممانع لمخططات الشطرنج في صراع يستحثّ الخطى في طريق الضرورة الملحة على هامش مكر التاريخ كما أكد صاحب  » مقدمات نظريات / نقد الفكر اليومي  » لعل التأويل يستند إلى مقوّمات مضبوطة تشلّ البروباغندا و تفتح العيون على أدوات اليقظة المعرفية في منهجيات علم السلطة وأنثروبولوجيا السياسة وسوسيولوجيا التنظيمات و تاريخ المذاهب الاقتصادية و بنية الخطاب في كنف معارك الدعاية لشرعنة التسلط و لتمديد عمر القهر الرأسمالي ؛ و كل هذا نحو غاية واحدة مرتجاة مفادها تدقيق التحليل لفهم ما يقع في عالم جديد خاضع عن بِكرة أبيه لسلطة ثلاثية هي الرأسمال و المختبر و الديموغرافيا .

     إن التحليل الجدلي للتاريخ هو اليانع أبدا في ظلام المخططات السرية التي ينتجها العقل الاستراتيجي من داخل الغرف المغلقة التي تأوي صقور التنظير الدقيق للعالم ، و هو اليقظ الدائم في زوايا الدعايات المكشوفة تحت وقع الحاجة إلى إعادة ترتيب الأوراق ، و هو الأداة المنهجية في ضبط خيوط الحركة التاريخية حيث ينغرس و يتجذّر الصراع لينفض الغبار عن شكلانيات القول كما يشاء صناع الفوضى الخلاقة كما قعّد لها لويس برنارد المؤرخ و الباحث و المنظر في العلب المغلقة المتخصصة في التفكير لصالح الهيمنة ، و هو لا شك منظر التحكم لصالح النظام العالمي الجديد ، و كما استنزله صقور البنتاغون ، بعد الهجوم على برج التجارة العالمي بالولايات المتحدة الأمريكية ، خدمة لتسلط عرّاب العالم وفق رهانات التنميط الإيديولوجي و القولبة الاقتصادية و المالية بما يضمن إخضاع العالم لمقولة اقتصاد السوق . فالتحليل مبدئيا يستبق التجربة بعين النظرية ؛ و لا حركة ثورية ( ثورية هنا تفيد القطيعة المنهجية مع التحليل السطحي الجاف الذي يتماشى مع المؤشرات فقط ) إلا بنظرية ثورية ( النظرية هنا تفيد تملّك أدوات التحليل ) كما أكد صاحب  » ما العمل  » منذ لحظة وصوله كزعيم للبلاشفة إلى الحكم بعد الإطاحة بنظام القيصر أكتوبر 1917 ، كما أنه لا يتخاذل حين يُفاجأ بأحداث بارزة تحلّ على حين غفلة من ضحايا التاريخ لتعبّد كل السبل لكتابة تاريخ جديد على شظايا شعوب و أنظمة الهامش ؛ فيتوثب على المعرفة و يعيد النظر في ترتيب عناصرها ليؤمّن للنظرية قدرتها على التشاور و تركيب المخرجات ، و حتى لا تقع ضحية للزيف و للمغالطات تحت تأثير الدعاية و الحرب الباردة الدائمة بأشكال تتجدد باستمرار .

   ✓ رؤيا تاريخية ؛ في ضرورة المنهج العلمي :

   إن التأويل العلمي لتاريخ العلاقات الدولية ، منذ الحرب الدولية الأولى ، يفيد في نزع الطابع السحري عن منطق التاريخ على كل امتداداته و مستوياته ، و على لبنات جدليات كل أبعاد الوجود البشري ، رغم تفوق العامل الاقتصادي الحاسم في تحديد مسار الأحداث و تعقبها و مواكبتها ؛ و عليه ضرورة يجب بناء استناجات علمية دقيقة تنتصر لكون التناقض الداخلي هو الذي يشكل ولادة باقي الإفرازات عموديا و أفقيا و في كل مستويات الصراع ، مع ما يعقب العوامل الداخلية من قوة المؤثرات الخارجية في صناعة منحى جديد للتاريخ . فنجاح الثورة الصناعية مثلا ، داخل الغرب الرأسمالي ، كان خلف ميلاد الظاهرة الإمبريالية ( جدلية الداخل و الخارج ) ، و ميلاد هذه الأخيرة كان وراء القفز خلف البحار و المحيطات من أجل ايجاد موطيء قدم ضمن حاجة الرأسمال إلى المجال الحيوي ( المستعمرات ) خدمة لجشع المانفاكتورات ( الشركات المتعددة الجنسية حاليا ) و تحقيقا لنَهَم الباطرونا الجديدة ( البورجوازية الدولية حاليا ) التي تشكلت على أشلاء الإقطاعية و الفيودالية و الكومبرادورية ( شعوب الهامش حاليا ) ، و هذه الباطرونا ( أثرياء العالم حاليا ) حرّكت هواجس و حماس البروليتاريا ( شعوب بلدان الجنوب حاليا ) بما انتهى بميلاد النقابات و الجلوس ، بفضلها ، إلى طاولة المفاوضات لصالح تحسين ظروف العيش المشترك لكل الطبقات تفاديا لعنف النّعرات الطبقية كما كان ينظّر لها و ينتظرها صاحب  » الرأسمال  » منذ القرن التاسع عشر . و مع نجاح التحول الاقتصادي الأكبر ، إبان الثورة الصناعية قبل قرنين من الأن ، حصلت إفرازات أخرى اجتماعية عبر فرز طبقة بورجوازية جديدة مهيكلة و محتكرة للعلم و المال ( السلطة ) من رحم طبقة التجار الكبار في حضن الميركانتلية ؛ و هذه الطبقة كانت تبحث عن انتزاع السلطة من بين مخالب الفيودالية لعدة قرون من الصراع و منحها لنفسها و هو ما حصل فعلا ، ثم احتكارها فيما بعد ، على نقيض الطبقة البروليتارية التي ولدت تحت ضغط هذه البورجوازية بعد ربط المدن بالأرياف بالسكة الحديدية لتسهيل نقل الكادحين نحو معامل الباطرونا الجديدة ، و عبر الصراع المضبوط بين الطبقات نضَج الفرز الطبقي و حصل جدل كبير ضمن صراع متناقضات البنية التحتية ( نمط الإنتاج / علاقات الإنتاج ) ، لصالح تشكل شروط صراع متجدد و منطق فرز جديد ضمن البنية الفوقية ( التاريخ / الإيديولوجيا = السياسة / الثقافة ) بما وضع الحجر الأساس للقطيعة الإبيستيمولوجية فكريا و نظريا مع ما قبل القرن التاسع عشر حيث كانت الثقافة ذات نفحة إكليريكية ثم أصبحت ذات نزعة فردانية استهلاكية رأسمالية بشكل ممتد من الحداثة نحو ما بعدها . و أزعم إن قراءة العلاقات الدولية بمنطق الثابت ، إيديولوجيا كان أو سياسيا ، ( جدل الإيديولوجيا = هيغل بالسياسة = ماركس ) ، يذهب بالباحث إلى بناء استنتاجات غير علمية تقفز على ألياف الروح الموضوعية و الواقع التاريخي بما يعمّق التأويل الميتافيزيقي للتاريخ كعلم و كمعاش ، لهذا حري دوما إعتماد جدلية الثابت و المتغير من أجل ضبط خيوط النوازل مهما كانت اقتصادية – مادية ( البنية التحتية ) ، أو إيديولوجية – نظرية ( البنية الفوقية ) كما يذهب إلى ذلك التحليل المادي الجدلي و المادي التاريخي .

    و يبدو أن كل ما يقع منذ قرن من الزمان و نيّف يعزى إلى صخب الجدل الحاصل ضمن سيرورة النظام الرأسمالي لصالح صيرورة التفوق و الهيمنة كما تشكلت بعد قرون من الصراع الذي خاضته البورجوازية الرأسمالية ، ذلك النظام الذي أعاد ترتيب العالم وفق نظيمة ميتافيزيقا العلاقات الدولية بمضمون ديالكتيكي مضمر تُخفيه ماكينة البروباغندا الليبرالية منذ ولادة الليبرالية الموجّهة مع كينز على أقل تقدير بعد أزمة الخميس الأسود عام 1929 ، في سياق ما بعد رأسمالية أدم سميث و فكرة دعه يعمل دعه يمر التي خلقت الفواجع و اصطدمت بالجدار الإسمنتي تحت ضعف اليد الخفية العاجزة عن تنظيم جدلية العرض و الطلب ؛ و ما توريط الإتحاد السوفياتي في الحرب العسكرية ضد النظام النازي بقيادة هتلر إلا ديالكتك خاص ضمن لعبة الشطرنج التي حسمت الحرب ضد محور هتلر – موسولوني ، ثم مباشرة شنّت حرب جديدة تحت مسمى الحرب الباردة ضد حليف الأمس الذي ليس إلا نظام ستالين الشيوعي الذي دمّر النازية و الفاشية خدمة لمخططات الحلفاء ، ثم تحول ، بمحض  » الصدفة  » إلى غريم رفاق الامس ؛ و الصدفة لا تحكم التاريخ . و عليه أتساءل عن معنى الديالكتيك توضيحا لتيسير الفهم و التاقلم ضمن ترقّب اعتماده أداة إجرائية لتحليل العلاقات الدولية .

    ✓ في الحاجة إلى الديالكتيك :

     الديالكتيك مفهوم مشتق من الكلمة اليونانية  » Dialogue « ، و يعني الجِدال و النقاش المستمر و الدائم . و ترجع أصول الكلمة ( إيتيمولوجيا ) الى الفلاسفة اليونان أمثال أرسطو ، و أبيقور تحديدا الذي ذكر أن الأشياء كلها في حالة حركة دائمة ، و كذا مع هراقليطس الذي أشار إلى وحدة الحركة و المادة . و الديالكتيك يعني الوصول إلى الحقيقة عن طريق كشف المتناقضات المضمرة ، و ذلك يتم بواسطة كشف تلك المتناقضات عن طريق استحضار الجدال الدائم و تصادم الآراء و المواقف .

    و نجد إبن خلدون كان ينظّر إلى الحضارات و الأمم في حركتها ، أي في نشأتها و تطورها و انحطاطها و زوالها ، و انبعاثها من جديد ، و كذا بالنسبة للدولة التي يعتبرها كائنا سياسيا يولد كطفل و يكبر إلى أن يشيخ ؛ و قد يموت بعلة الترهّل بفعل حلول الشيخوخة ( الفساد و الريع شيخوخة سياسية ) ، كما قد يعود إلى صباه بفضل الإصلاحات و التأقلم الإيجابي ( الدمقرطة و الإنصاف ) . ليأتي الفيلسوف الألماني فريدرك هيغل لتطوير الديالكتيك عبر بسط قوانينه الثلاثة بطريقته المثالية معتبرا إياها بمثابة قوانين للفكر وحده .

   و بعد هيغل ، نجد كارل ماركس و فريدرك إنجلز يأخدان نواة الديالكتيك الهيغلي و يُزيلون قشوره المثالية ليتحول معهما إلى علم القوانين العامة لحركة و تطور الطبيعة و المجتمع الإنساني و الفكر عموما ؛ و بدل أن يقوم الديالكتيك على رأسه كما كان مع هيغل ، أصبح يقوم على رجليه مع ماركس و إنجلز بعد اعتماده منهجا لتحليل التاريخ و لولوج قارته التي اكتشفها صاحب  » البيان الشيوعي  » .

      و بمناسبة مطارحة مفهوم الديالكتيك ، و المناسبة شرط ، يقول إنجلز في مؤلفه ديالكتيك الطبيعة :  » إن المقولات الديالكتيكية غيبيةُ الطابع عند هيغل الذي يصوّرها أولية ، أما ديالكتيك العالم الواقعي عنده ، فليس إلا ظلالها ، و لكن الأمر في الحقيقة هو على النقيض من ذلك ، إن ديالكتيك الفعل ليس إلا انعكاسا لا شكلا لحركة العالم الواقعي للطبيعة و التاريخ على السواء  » .

   إن فهم الديالكتيك مع إنجلز و مع ماركس ، يرجع في جوهره إلى القوانين الثلاثة الآتية :

    *  قانون وحدة الأضداد وصراعها.

    *  تحول الكم إلى كيف.

    *  قانون نفي النفي.

    و هذه القوانين الثلاثة كلها بسطها هيغل بطريقته المثالية على أنها قوانين للفكر وحده ، بيد أن ماركس اعتبرها قوانين تحكم التاريخ والمجتمع ضمن العلاقة الوطيدة بين المادية الجدلية و المادية التاريخية ؛ و بهما معا يجوز قراءة التاريخ و نزع الطابع السحري و  الميتافيزيقي عن تشكل الأحداث و سيرورتها ؛ و كل ما يقع بالعالم من تحولات تحت وقع تأثير الرأسمال يفضي إلى تأثيرات أخرى بشكل نسقي ممتد عرضانيا ، و هو ما يجعل التاريخ يستعصي عن الخضوع لقوالب جاهزة على اعتبار أن قوة الديالكتيك تقتضي لزوما مواكبة زخم المتناقضات كمدخل منهجي لضبط مجرى التحليل .

    إن المنهج الديالكتيكي استنتاجا يتناول الأشياء و انعكاساتها الفكرية في علاقاتها المتبادلة و المطّردة ، و في تشابكها كذلك ، و في حركتها المستمرة ، و في شمولها النسقي ، و في نشؤها و تطورها ، ثم في زوالها تحت دواعي التفاعل ؛ و هو طريقة في البحث و منهج علمي في التفكير و في ترتيب الخلاصات و في تفسير العالم و تفكيك حيثياته و في صياغة المخرجات و توثيق النتائج ؛ و عليه فهو منهج ضروري لفهم العلاقات الدولية بأدوات تحليل اجرائية قمينة بعدم التماهي مع ما تنتجه البروباغندا الإعلامية من حقائق على مقاس سلطة الصقور الكبار المتحدثين في دينامية العلاقات الدولية .

    و لا أنكر دور فريدرك هيغل الكبير عندما قدم لأول مرة كل العالم الطبيعي و التاريخي و الروحي في شكل عملية منطقية واضحة ، بمعنى في حالة حركة مستمرة و تغير و تحول و تطور متواصل ؛ و هو ما جعله يحاول أن يكشف عن الترابط الداخلي لهذه الحركة و التطور ضمن ما سمّاه وحدة الجدل الداخلي المتحكم كمحدّد منهجي لسيلان الفكرة المطلقة ؛ و هو كذلك مهم في مناقشة مفهوم السلطة ضمن ميتافيزيقا الفكرة المطلقة كما ترتضيها النيو – ليبرالية .

    يذكر فريدرك إنجلز في مؤلفه  » أنتي دوهرينغ  » ، تعقيبا على هيغل الذي حصر الديالكتيك في سياج الفكر فقط ، إن الديالكتيك لا ينسحب فقط على البنية الفوقية ، بل يمتد إلى كل المستويات ضمن علاقات تأثير و تأثر مستمرة ؛ و عليه :

      » كل كائن عضوي هو نفسه و ليس نفسه ، و هو في كل لحظة تموت بعض خلايا جسمه و تتكون خلايا جديدة ، و على مدى معين ، طويلا كان أم قصيرا ، تتجدد تماما مادة هذا الكائن و تحلّ محلّها ذرات جديدة من المادة ، و لهذا ، فإن كل كائن عضوي هو نفسه و ليس نفسه في الآن نفسه  » . و أعتبر أن هذا الإستنتاج الذي بناه إنجلز يعزى إلى التطور الدائم و التحول المستمر و الحركية الدؤوبة في كل شيء ، و هذا هو جوهر المنطق الديالكتيكي الذي يتعارض مع المنطق الصوري الذي يقوم علي مبدأ عدم التناقض ؛ فالشيء هو نفسه لا يتغير ، عكس المنطق الديالكتيكي الذي ابتدعه هيغل و طوّره ماركس الذي يرى الشيء في حالة حركة و تجدد دائمين ، فالشيء هو نفسه و ليس نفسه ضمن تناقض مضمر و مستمر و فعّال . و عليه يجب اعتبار تطور العالم و تشكل الأحداث و نضج السياسة و بلوغ الإيديولوجيا ( دستون دوتراسي / كارل مانهايم ) قوالب تسترعي المنهج الديالكتيكي في التفكيك أولا ، و في إعادة البناء و التشكل ثانيا ( أطروحة مؤسِّسة نحو أطروحة جديدة مستنتَجة ؛ و هو ما سيعري جمود التحليل في العلاقات الدولية ) . و هذا التحول المضمر بشكل دائم هو نفسه ما يقع للدول و الثقافات حسب جدلية الهيمنة و التبعية .

    وأعتبر إن الديالكتيك يعني المنهج العلمي في أوسع معانيه بما يتعارض مع التصورات المسبقة أو الجاهزة التي يجب أن تلائم كل الأشياء داخل نموذجها ، و على قاعدة التحليل الملموس للواقع الملموس بما يضمن مكن ممارسة الجدل العلمي المناقض لانطباعات التأويل الميتافيزيقي للتاريخ ، و بالتالي دراسة الواقع بعقل يقظ بهدف معرفته و استيعابه للتأثير فيه و تغييره إلى الأفضل بدل التماهي الانطباعي مع مجرى الأحداث . إن الديالكتيك استنباطا في جوهره نقدي و ثوري باستمرار لكونه ينظّر للظواهر من خلال :

     * ترابطها وشمولها.

     * حركتها و تطورها و فنائها.

     * الحركة عبارة عن وحدة و صراع الأضداد .

     * التحول من الكم إلى الكيف .

     *  التطور من داخل الأشياء عبر نفي النفي.

     و كل شروط المنهج الديالكتيكي هذا تتموقع على نقيض المنهج الميتافيزيقي الذي ينظّر للظواهر من خلال :

     * سكونها و النظرة الأحادية.

     * التطور مجرد زيادة أو نقصان.

     *  التطور من خارج الأشياء .

      و بناء على ما سلف ، و في ضوء العلاقات بين الثابت و المتحول ، وبين الدينامية والستاتيكية، وبين النسق والنمط، وبين المنهج الديالكتيكي والمنهج الميتافيزيقي، بين البراني والجواني، بين المادي والنظري.. ؛ أتساءل :

  • كيف يمكن قراءة العلاقات الدولية ، باستنطاق مؤشرات الحرب والسلم، التواصل والقطيعة، العنف والتماهي، الازدهار والانكماش ، التقدم والتخلف، القوة والضعف، الولادة و الموت ؛ العلم و » الأسطورة  » ، التحكم والحرية ، الثابت والمتغير ؛ في ضوء المنهج الديالكتيكي المُنتج لقواعد عمل علمية في تتبّع مجرى التاريخ ؟
  • أليست العلاقات الدولية نسق من الأضداد التي تدخل في منطق صراع مستمر من أجل توجيه السلطة لبناء التحكّم و السيطرة ، وهو فعلا ما حصل منذ أن كانت الطّفرات الاقتصادية أداة لقياس باقي الطفرات ضمن قوة القطائع و في كل محطات التاريخ القديم منها و الوسيط و الحديث و المعاصر ، بل منذ نجاح الثورة النيوليتية و اكتشاف الزراعة كقطائع كبرى و كطفرات مؤسِّسة للتحول ، مثل بلوغ الاكتشافات الجغرافية أهدافها ، وميلاد الثورة الصناعية ، ثم سقوط المعسكر الشرقي و تسويق فوكوياما لنهاية التاريخ و حلول الإنسان الأخير ، رغم صمود المؤرخ ابراهيم القادري بوتشيش ضد هكذا استنتاج ؛ و كلها مؤشرات تستحق قراءة تركيبية بأدوات الديالكتيك لكل ما يقع في العالم من تحولات تعسفية ؟
  • لماذا تحاول الرأسمالية بشكل دائم تشويه الفرز و تمييع منطق ترتيب التوازنات بما يؤكد التوجه نحو ترجيع فكرة الفوضى الممنهجة و العبث المُمأسس في تقديم العالم و توجيه التاريخ بما يخدم أجندات التنميط و القولبة لصالح التسلط و التحكم و الهيمنة ، على قاعدة خلق الفوضى ( المتغير ) لإدراك النظام ( الثابت ) ، و هذا الثابت و المتغير  بمثابة الأطروحة و نقيضها كما خطط لها هيغل ؟
  • هل يسترعي السياق الدولي فعلا إحياء هيغل ثانيا و ماركس أولا في منظومة علم السياسة من أجل تجديد الصدام بينهما قصد إعادة صياغة ديالكتيك جديد بقياس ما يشترطه الرأسمال والمختبر من شروط جديدة للعبة ؛ لكن هذه المرة وفق ديالكتيك اللغة على مستوى الخطاب ( البروباغندا / الإعلام ) كما يذهب ميشل فوكو داخل خطاب السلطة المتحكمة في آليات اشتغال الهيمنة ، بدل محاصرة الديالكتيك في سياق البنية التحتية فقط دون مراعاة محدد نمط الإنتاج كبنية تحتية مؤثرة و حاسمة في علاقته بالتخطيط والاستراتيجيات كبنية فوقية مجدّدة لروح الايديولوجيا وفق قوالب التحول الموجَّه؟
  • ما طبيعة السيرورات التي ينبغي تفكيكها و استيعابها قصد الانتقال من ديالكتيك الخطاب ، كما كان عند صاحب حفريات المعرفة و أركيولوجيا السلطة ( ميشل فوكو ) ، نحو تركيب سيرورات جديدة كما ارتأى ألان تورين ضمن بوثقة الفكرة نظريا ، و كما تُنتج ارهاصات أخرى لطفرات جديدة ضمن جدلية الأطروحة و نقيضها كما كان مع فريدرك هيغل بداية بما يجعل حرب الولايات المتحدة الأمريكية الذكية ضد الحرب الروسية – الأوكرانية نقيضا لأطروحة بوتين رغم أنها المستفيد الأول من هذه الحرب لكون أوكرانيا منافس شرس للفلاحة الأمريكية في غزو الأسواق العالمية ؛ و بالتالي تستفيد الفلاحة الأمريكية من ارتفاع الأسعار في السوق الدولية بفضل هجوم بوتين على زيلينسكي ؟

      أعتقد ختاما ، على قاعدة الاستنباط ، إن فهم و تأويل العالم و ضبط منطق التاريخ و تدقيق خيوط فلسفته و ضبط نفَس عيشه لا يستقيم من دون بعث الروح في أركان الديالكتيك العلمي قصد حسن تملّك الحقيقة ، رغم نسبيتها ، كما تؤسِّس لها السلطة وفق جدليات الهيمنة و التحكم و القهر عبر تعسف الإيديولوجيا بما يخدم عنف السياسة في عالم السيرورات الحتمية على هوى الرأسمال في اتجاه سيرورات الغلبة بمنطق المركز المهيمِن على حساب الهامش المهيمَن عليه .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *