» الرعية المستقرة » أو الغاشي
بركان: م.إسماعيلي
2022/10/13
كثيرا ما نتساءل لماذا حينما تُنَظَّم مظاهرة من أجل قضية عادلة لا غبار عليها ولا اختلاف حول أهدافها يقف أغلبية من يهمهم أمر التظاهرة أو الاحتجاج موقفا سلبيا منها سواء من خلال الاكتفاء بالتفرج عليها من بعيد مطبقين المثل القائل ( التبن والراحة خير من الشعير والفضيحة) أو تتبعها فقط عبر القنوات التلفزية او المواقع الإلكترونية الناقلة للحدث قابعين في المنازل منتظرين ما ستسفر عنه المواجهة عملا بالمثل ( الله ينصر من أصبح ) أو عدم الاكتراث بها تماما كما يقول المثل ( لهلا يركب فاس على هراوة) مع أنها تطالب بحق من حقوقهم المشروعة والعادلة.. وفي بعض الأحيان يقفون ضدها في خندق السلطة ( العياشة ) بدعوى الاستقرار او الاعتقاد بفكر المؤامرة والأيادي الاجنبية والتدخل الخارجي مرددين القول المأثور ( الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ) أو متأولين قوله تعالى (..وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ.. ).
ولنا أن نستعرض بشكل موضوعي ودون مزايدات كم من المعنيين بالأمر مباشرة شاركوا في هذه التظاهرة أو تلك وما هي نسبتهم وكم يمثلون؟؟؟ وكم بقي قابعا في منزله وغير مبالي بما يحدث ؟؟؟ ولعل خير دليل على ذلك حراك 20 فبراير وكيف أُجهِض وحراك الريف وكيف تم التعامل معه وطنيا.. سلطة ومعارضة..
وكثيرا ما تساءلنا لماذا تصوت الجماهير الشعبية الكادحة والمسحوقة على أناس وأحزاب معروفة بانتمائها للجهة التي تستغل تلك الجماهير وتقف ضد مصالحها وتنتهك حقوقها ولا ينال المناضلين الأوفياء الذين يتبنون ويدافعون عن هذه الحقوق والمصالح إلا القليل من أصوات هذه الجماهير وغالبا ما تكون حجة المصوتين لصالح أحزاب السلطة مقولة » أولاد عبد الواحد واحد «
قد يقال إن السبب في هذه السلبية من جهة والتخندق في الجهة الغلط من جهة أخرى راجع إلى سياسة التجهيل والتفقير المتبعة منذ الاستقلال الشكلي وهذا صحيح لكن ينضاف إليهم عامل مهم وجد مؤثر يجعل الناس تأثر السلامة وتختار الأسهل وإن كان الأسوأ. إنه عامل القمع والاستبداد والتسلط.. (سنوات الجمر والرصاص)
يقول المفكر الفرنسي « إيتيان دو لابويسيEtienne de la Boétie » (1530-1563) في كتابه » مقالة في العبودية الطوعية Discours de la servitude volontaire » :
« عندما يتعرض بلد ما للقمع مدة طويلة (كما هي حال المغرب منذ ما قبل الاستعمار وخلاله وبعد الاستقلال الشكلي في ظل النظام المخزني القائم وسنوات الرصاص) تنشأ أجيال لا تحتاج للحرية وتتلاءم مع الاستبداد » مما يؤدي إلى ظهور ما يسمى ” المواطن المستقر » أو » المبرمج » كما يطلق عليه الكاتب والأديب المصري علاء الأسواني . المواطن بنمط وحيد للتفكير لا يجوز الخروج عليه. إلا أنه إذا كان التوصيف دقيقا وصحيحا فإن التسمية تحتاج لشيء من الدقة بحكم أننا نعيش في ظل دولة مخزنية حيث لا وجود للمواطنين وإنما للرعايا أو الرعية وفي دولة الهبات والريع وليس المواطنة والحق والقانون.. قد يبدو اسم » المواطن المستقر » غير دقيق لذلك يمكن لنا القول أنه بعد عقود طويلة بل قرون من الحكم المستبد سواء باسم الدين منذ المُلك العضوض أو المخزن إبان فترة الاستعمار وبعده تكَوّن ما نسميه » الغاشي » الذي يعيش في عالم خاص يفضل فيه الظلم والخنوع مع الاستقرار على الحرية إذا كان لها ثمن كبعض القلاقل التي قد يمكن أن تحدثها . الغاشي لا يملك تفكيرا نقديا ويخاف من التغيير ويعاديه بل يبرر تقاعسه واستسلامه وخنوعه ب (الفتنة أشد من القتل) و ( الفتنة نائمة لعن الله من أيقضها ) وتنحصر اهتمامات الغاشي أو الرعية المستقرة في ثلاثة أمور:
الدين ولقمة العيش وكرة القدم
-1) الدين عند الغاشي ليس طاقة ثورية ولا فعل تغيير ولا علاقة له بالحق والعدل وإنما هو مجرد أداء للطقوس والشعائر واستيفاء للشكل الذي لا يظهر على السلوك غالبا. فقد يشعر الغاشي بالذنب إذا فاتتهم إحدى الصلوات وحريصون على الصوم ربما حتى في رجب وشعبان وعاشوراء ويوم عرفة والأيام البيض كحرصهم على الحجاب للنساء وإسدال اللحى وتقصير الثوب والسواك بعود الأرك للرجال لكن لا يشعرون بأي حرج وهم يكذبون وينافقون ويغشون ويزورون ويرتشون ويسرقون ويلوثون الجو والمحيط والبيئة.. فالغاشي لا يدافعون عن دينهم إلا إذا تأكدوا أنه لن يمسسهم أذى من وراء ذلك لذا تراهم يتظاهرون ضد المخرج الهولندي للفيلم المسيء للرسول صلى الله عيه وسلم أو ضد الدانمارك عندما سمحت بنشر الرسوم المسيئة للنبي عليه الصلاة والسلام لكنهم يستكينون ويلتزمون الصمت حينما تنهب خيرات وطنهم ومهما بلغ قمع أبنائهم وإخوانهم وأهاليهم المتظاهرين أو عذبوا أو اعتقلوا أو قتلوا ولنا في حراك الريف خير مثال بدعوى أن لدين الله ربا يحميه.. يحتاج الغاشي إلى الدين لكي يوهم نفسه بحياة تبدو له مريحة خاصة أنه لا يجد عدلا في دنياه فيكتفي بالوعد الذي يقدمه له الدين بتحقيق العدالة التي افتقدها في حياته بعد الموت. الغاشي متدين بعواطفه وليس بعقله فالدين بالنسبة له اعتقاد ورثه عن أبويه ومجتمعه وليس اختيارا واقتناعا باعتبار الدين يعلمنا قيما إنسانية جميلة وراقية وأخلاقا عالية وسامية .﴿ وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ .﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾.﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا). (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ..) وحين أراد الله أن يمدح رسوله الكريم لم يأت على ذكر حسبه ونسبه أو يشير إلى لباسه ولحيته وإنما قال عنه ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾
-2) لقمة العيش: الغاشي لا يعبأ إطلاقا بحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأن النظام الاستغلالي القائم لم يدع له مجال للتفكير في هذه الحقوق بل أجبره على العمل من أجل لقمة العيش فقط لأجل تربية أولاده حتى يكبروا فذلك هو » النضال » الحقيقي وإذا تمكن من توفير سكن لعائلته وتزويج بناته والحصول على عقود عمل لأولاده ثم حج لبيت الله الحرام فذلك حسن الختام الذي ليس له مثيل. رغم موجات الغلاء التي يعاني منها الغاشي ورغم القرارات اللاشعبية للحكومات المتعاقبة التي أجهضت جل المكتسبات التي تحققت بفضل تضحيات المناضلين الذين استشهدوا والذين اعتقلوا وعذبوا والذين شردوا وهجروا فان الغاشي بقي متفرجا حينما ارتفعت أسعار المواد الغذائية وبقي ساكتا لما تم إلغاء صندوق المقاصة وبقي غير مباليا لما تم نهب الصناديق الوطنية وحملوه مسؤولية إصلاحها على حساب راتبه وعمره فتم تمرير كل شيء باسمه لأن » الخبز وتاي » جد كافي لعيشه كما قال يوما رئيس الوزراء السابق عبد الإله بنكيران.
صحيح أنه كانت هنالك هبات وثورات شعبية من حين لآخر حققت بفضل التضحيات الجسام لمن شارك فيها بعض المكاسب التي يضطر النظام التنازل عليها مؤقتا إلى حين هدوء العاصفة ليعود للانقضاض عليها مرة أخرى وبشكل أقسى وأعنف وأقوى ولعل ما حصل بعد حراك 20 فبراير 2011م خير دليل على تمكن النظام من الانحناء للعاصفة مؤقتا ثم التراجع عما كان قد منحه من تنازلات لامتصاص الغضب ليس إلا. والذي يؤسف له أن القوى الحية بالبلاد لم تستوعب الدروس من الانتفاضات الشعبية كما استوعب النظام الذي عمد إلى احتواء معظم هذه القوى وأصبحت هي من يدافع عن النظام ويبرر قرارته اللاشعبية بدعوى استقرار الوطن.. ناسين أو غير آبهين بما قاله يوما الشاعر العراقي أحمد مطر:
نحن الوطن..
إن لم يكن بنا كريما آمنا
ولم يكن محترما
ولم يكن حرا..
فلا عشنا
ولا عاش الوطن.
-3) كرة القدم: هي المجال أو الاهتمام الثالث للغاشي الذي يجد فيها تعويضا عن أشياء كثيرة حرم منها في حياته فهي تنسيه همومه اليومية وتحقق له العدالة التي هو محروم منها في حياته وعيشه لأنه خلال 90 دقيقة يخضع المتبارون لقواعد واضحة وعادلة تنطبق على الجميع كما أن هذه المباريات هي متنفسه الوحيد للصراخ والسب والشتم دون قيود ودون مخافة العقاب بل يستطيع أن يتظاهر في الشوارع بعد المباراة فرحا بانتصار فريقه دون ترخيص ودون خوف من الاعتقال. الغاشي يعرف عن ميسي ورونالدو أكثر مما يعرف عن المهدي بنبركة أو المهدي المنجرة.. الغاشي يعادي جاره الريالي إذا كان هو برصاويا ويكره أخاه البرصاوي لمجرد أنه رياليا وقد تقع خصومات وتنشب معارك بين مشجعي الفريقين ويتناسى الغاشي أنه مغربي وأن مدريد وبرشلونة تقعان في بلد آخر اسمه إسبانيا والأولى له أن يعرف حقوقه المهضومة ويهتم بكيفية الحصول عليها.
لقد اشتغل النظام القائم كثيرا وطويلا من خلال انتهاج سياسة الاحتواء لصنع الغاشي حتى يجعل منه العائق الكبير أمام تحقيق الديمقراطية وبناء دولة المواطنة والحق والقانون.. ولن يكون هنالك تغيير فعلي إلا عندما يخرج الغاشي من عالمه الضيق ويقتنع أن ثمن السكوت على الاستبداد والقهر والتسلط أفدح وأوخم من عواقب الثورة ضده.. ويعي أن الاستقرار الحقيقي يكمن في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية على أنقاض دولة المخزن والريع.. الدولة التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون وتصان فيها حقوق الأفراد ويؤدي كل واحد واجباته بالكامل وتتوزع فيها الثورة بشكل عادل على الجميع..