في نقد السلفية الوثوقية / الجزء الأول

في نقد السلفية الوثوقية / الجزء الأول
شارك

بقلم: ذ؛ المعانيد الشرقي ناجي

  حينما نتحدث عن  » النزعة السلفية  » بصفتها الإيديولوجية الرجعية هذه، إننا نجد أنفسنا أمام ظاهرة فجة عملت منذ نشؤها في المجتمع العربي الوسيط ( الجبريين ) و( أهل السنة و الحديث) في أواخر حياة   » النبي » محمد على خلق وتوطيد جذور لها في الحياة الإيديولوجية الخاصة والعامة لطبقات المجتمع العربي الوسيط و الحديث المعاصر.

  والحقيقة المرة هي أن هذه الظاهرة شغلت حيزا كبيرا من التاريخ الفكري العربي الإسلامي، وما تزال تشغل مثل هذا الحيز من البنية الإيديولوجية لمجموع طبقات المجتمع العربي المعاصر. وقد أسهمت بشكل جذري وعميق في الصراع المعقد وغير المتكافئ ضد اتجاه التأويل العقلاني التنويري، والمادي التوحيدي، أي القائم على مذهب  » وحدة الوجود « ، للنصوص الدينية الأصلية. ومن المعروف أن ذلك الاتجاه أخذ في التكوين والتبلور على أيدي « القدريين » و »أهل الرأي » في حياة « الرسول » العربي.

  إن ظاهرة  » السلفية  » بصفتها الإيديولوجية تلك، كانت قد قامت بصراعها ضد ذلك الاتجاه في سياق تأديتها مهمة تاريخية أنيطت بها من خلال موقعها في إطار التحرك الاجتماعي التاريخي منذ ذلك العصر و حتى الآن. ولقد تركزت هذه المهمة المبدئية في رفض وإدانة الجديد والمبتدع في سياق التغير العميق الذي لحق بنية المجتمع العربي الإسلامي. فحيثما حل هذا الجديد، في أي قطاع كان من القطاعات الاجتماعية البشرية، تجد تلك السلفية نفسها مدعوة إلى رفضه على نحو قطعي، معتبرة إياه  » بدعة  » فيها كثير أو قليل من  » الضلال  » بدعوى أنها تتعارض مع النصوص  » الأصلية  المقدسة ». وأعني بذلك، القرآن الذي صار مُصحفاً في عهد عثمان بن عفان.

  وليس بالأمر الصعب التأكد من أن تلك  » السلفية  » لم تكن قادرة على أن تتخطى مجموعة ضخمة من الإشكالات والصعوبات التي واجهتها، وسوف لن تكون قادرة عليه كذلك في المستقبل. وربما كان حتى الحد الأقصى القول بأن أحد الأسباب الأساسية في المستقبل. وربما كان هاما القول بأن الأسباب الأساسية الكامنة وراء ذلك هو أن تلك النصوص نفسها لا تحوز على بنية إيديولوجية واحدة متجانسة بحيث أن القيام بتطويع المشكلات المستجدة على أيدي السلفيين كان يؤدي دائما، أولا إلى إرباك هؤلاء الأخيرين وإيقاعهم في مفارقة وتناقض مأساوي بليغ مع العصر الذي يعيشون فيه، وثانيا إلى اهتزاز فكرة تجانس تلك النصوص تحت ضغط النقد الذي وجه إليها، إن كان قد وجه مثل هذا النقد، وضغط الأحداث الاجتماعية الطبقية والسياسية التي رافقت أولئك السلفيين.

 والجدير بالذكر أن احتواء تلك النصوص  » الأصلية  » إمكانات كبيرة وخصبة لتفسيرات وتأويلات متعددة متباينة، ومتناقضة في معظم الأحيان، أسهم بصورة مبدئية في الإفصاح عن آفاق الفشل لفكرة تجانس النصوص هذه.

أما الجانب الآخر من المسألة، والجدير بأن يؤكد عليه بمقدار ما أكد على الجانب الأول منها، فهو أن تلك النصوص  » الأصلية  » نفسها تطالب في حدود كونها غير متجانسة، بشكل واضح مكشوف، وملح أحيانا، باستخدام ( التأويل) و( النظر ) و( الاجتهاد ) العقلاني فيها نفسها.

  ونحن، من طرفنا نرى في تلك الجانبين نقطة جوهرية نستطيع عبرها أن نلقي ضوء كثيفا على قضية الصراع ذي الوتائر المتسارعة والذي دارت رحاه بين النزعة السلفية كدعوة إيديولوجية رجعية للانكفاء إلى تلك الأصول في صيغتها النصية الوثوقية من طرف، وبين اتجاه التأويل العقلاني التنويري، والمنأى التوحيدي من طرف آخر.

  إن مفهوم  » العقلاني  » أو  » العقلانية  » لم يكن محددا بشكل نهائي في نطاق تلك النصوص، ولذلك فهو نفسه خضع لتأويل وتفسير واجتهاد من أطراف النزاع المختلفة، بدءً بالفرق الإسلامية الأولى، مرورا بالفلاسفة الوسطويين ومن أتى بعدهم في مرحلة الهيمنة الإقطاعية من نقلة ومقلدين متبلدين، وانتهاء بالمرحلتين، الحديثة والراهنة بما احتويتا من اتجاهات سلفية تلفيقية وعدمية.

 إن الإلحاح على الأصل المطلق الذي لا يخضع للبحث العلمي لكونه ظل ظاهرة غير عادية خارقة، هذا بغض النظر عن التأكيد على ارتفاعه على  » النقد « ، والمطالبة بالعودة النصية الوثوقية إليه، إن ذلك كله من المهمات الرئيسية الملحة، التي تجد  » السلفية  » نفسها مدعوة إلى حملها على عاتقها. وإذا أخذنا تلك المهمات بعين الاعتبار في نطاقها الاجتماعي وسياقها التاريخي والتراثي، نجد أنها كانت وما تزال تنبع، على نحو غير مباشر ومتوسط، من متطلبات واحتياجات وآفاق العلاقات الاجتماعية الإقطاعية المتخلفة والمناهضة للتقدم الاجتماعي والفكري عموما.

إن انطلاق  » النزعة السلفية  » تلم من  » أصل  » ثابت، لا يتم بغاية دراسته وتجاوزه بشكل خلاق من خلال إمكانات البحث العلمي التراثي والتاريخي، التي يقدمها مستوى التطور الفكري المعاصر، وإنما لكي تتوقف عنده، تتأمله باطمئنان أبله وبشعور مبرر بالنقص والدونية، وتدافع عنه بحماقة وتعصب، وتخلق ما لا يحصى من المبررات لإكسابه، بشكل أو بآخر مشروعية اجتماعية وصدقا معرفيا ليس من أجل العصر الذي توجد فيه فحسب، وإنما من أجل كل العصور. وإذا أمعنا النظر في ذلك الأمر، نجد أن تلك النزعة توصلنا إلى القناعة بضرورة أخذ النصوص  » الأصلية  » المقدسة بصفتها  » قمقما  » سحريا ينطوي في ذاته على الماضي والحاضر والمستقبل، بحيث أن أي حدث يبدو لنا جديدا، يمكن رده، ببساطة إلى ذلك القمقم.

في هذا الاتجاه السلفي، نواجه الرفض القاطع – على الأقل على الصعيد التطبيقي – للمبدأ الفقهي الحقوقي:  » تتغير الأحكام بتغير الأزمان ». ، إذ تختزل الأزمان بزمن واحد والأحكام بحكم واحد، وذلك في سبيل التأكيد على المبدأ:  » الأصول جملة و تفصيلا تصدق على كل زمان ومكان. »

 إن اللاتاريخية والأسطورية تشكلان الترسانة الثابتة الأصلية ل  » النزعة السلفية  » في صيغتها النصية الوثوقية. وبطبيعة الحال، فنحن لا يسعنا إلا أن نرفضها رفضا إيجابيا، في سبيل الكشف عن المعالم الرئيسية لِ  » النزعة السلفية  » في صيغتها المطروحة هنا نستطيع أن نقدم مجموعة كبيرة من الأسماء والفرق التي تبنتها ودافعت عنها في التاريخ العربي الوسيط والحديث وفي المرحلة المعاصرة. فهناك  » الجبريون  » و » أهل السنة والحديث « ، وهناك ممثلو الاتجاه المثالي الإيماني في الفلسفة، وفي طليعتهم بطبيعة الحال أبو الحسن الأشعري وأبو حامد الغزالي، ضمن هذا الاتجاه، ولكن بمستوى آخر، يبرز عبد الرحمن بن الجوزي وابن تيمية وغيرهما.

  إن ابن تيمية أوصل  » النزعة السلفية  » إلى إحدى قممها من حيث الوضوح والموقف والحزم الثابت في الدفاع عنها. أما  » العقلانية  » التي يظهر فيها في نطاق تبنيه تلك النزعة والدفاع عنها، فليست هي في حقيقة الأمر إلا قناعا شفافا لا يمكنه إلا أن يسقط مع أول محاولة هتك لأسرار سلفيته. ها هنا، عند ابن تيمية، نجد أنفسنا أمام قمة من قمم الفكر السلفي الذي يستظل بظله الفكر الإسلامي السلفي المعاصر.

 ويكفي الآن أن نسوق ما كتبه أحد السلفيين المعاصرين، وهو محمد المبارك، ليتسنى لنا معرفة  » النزعة السلفية  » الدينية الرجعية في واقعها الراهن. يقول هذا الأخير، بخصوص المرحلة الإسلامية الأولى: ( أن انطلاقة العرب الكبرى لا تفسر لا بالنسبة للأفراد و لا بالنسبة إلى جمهور الشعب العربي يومئذ، لا بدافع اقتصادي ولا بتغيير آلة الإنتاج ولا بتغيير نظام التملك لوسائل الإنتاج ولا بدافع المجد القومي وإنما تفسر بالدرجة الأولى  » بالإسلام » الذي آمن به العرب.)

إن محمد المبارك في رأيه ذاك يعيد إلى أذهاننا الرؤية اللاتاريخية التي تشكل مع الأسطورية، الأساس النظري الإيديولوجي ل  » النزعة السلفية  » الدينية الرجعية. فالأحداث التاريخية أو  » المادية التاريخية  » تتحول على أيدي هذه الأخيرة – وفي هذا المجال على أيدي سلفية المبارك – إلى أسطورة فوق الزمان والمكان، أي فوق التاريخ، وذلك ببساطة وإيمان غيبي وذاتي وقناعة استسلامية بعيدة عن البحث العلمي التاريخي والتراثي بتعقيداته وصعوباته، بنجاحاته وإخفاقاته.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *