مأزق محاربة الفساد بين شرط المحاسبة والافلات من العقاب
محمد السميري
أضحت ظاهرة الفساد من الظواهر التي تقوت شوكتها، واستشرى نفوذ أصحابها، حتى طاول قطاعات حساسة، اصبح يصعب معها محاربتها، بالرغم من كل الإجراءات القانونية، والهيئات الرسمية، التي وضعتها الدولة لمحاربتها، فقد تحول الفساد الى « دولة داخل الدولة »، فانتشرت الرشوة، واقتصاد الريع، بين الموظفين في القطاع العمومي، وفي قطاع الصفقات العمومية، وفي دواليب الدولة ومفاصيلها، وهو يكلف الكثير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فقد قدرت « الهيئة الوطنية لحماية المال العام » تكلفة الفساد ب50 مليار درهم سنويا، هذا في الوقت الذي تم فيه تأسيس هيئات ولجان حكومية لمحاربة الفساد، مثل « اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد » التي تأسست سنة2017،وهي لجنة يرأسها رئيس الحكومة، وتضم في عضويتها ممثلين عن بعض السلطات العمومية والهيئات والمنظمات، ذات الصلة ،فضلا عن ممثلين عن القطاع الخاص، والمجتمع المدني.
« المجلس الأعلى للحسابات » وهو مؤسسة دستورية مغربية، دورها المساهمة الفعالة، في عقلنة تدبير الأموال العامة، وتمارس كليا وظيفتها كمؤسسة عليا للرقابة، مستقلة بذات الوقت عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية ». وقد اولت اعلى سلطة في البلاد ،أهمية كبرى ،لمحاربة الفساد والرشوة ،وربط المسؤولية بالمحاسبة، فقد جاء في خطاب العرش لسنة 2011 ،الإشارة الى « تخليق الحياة العامة، ولضوابط زجر الاحتكارات ،والامتيازات غير المشروعة، واقتصاد الريع، والفساد والرشوة »(.1) وفي خطاب العرش لسنة2017 توعد الملك محمد السادس من خلال تحذير قوي لجميع المسؤولين المفسدين، الذين يعرقلون المشاريع التنموية ،وجميع المسؤولين، الذين لا يقومون بواجبهم، وقال في خطابه: « أنا لا افهم كيف يستطيع أي مسؤول، لا يقوم بواجبه، أن يخرج من بيته، ويستقل سيارته، ويقف في الضوء الأحمر، وينظر الى الناس، دون خجل ولا حياء، وهو يعلم بأنهم يعرفون بأنه ليس له ضمير. الا يخجل هؤلاء من انفسهم، رغم انهم يؤدون القسم أمام الله، والوطن، والملك، ولا يقومون بواجبهم؟ ألا يجدر ان تتم محاسبة أو اقالة أي مسؤول (…)وهنا اشدد على ضرورة التطبيق العام لمقتضيات الفقرة الثانية، من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة(…)فكما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب ان يطبق على كل المسؤولين بدون استثناء او تمييز، وبكافة مناطق المملكة. اننا في مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية والإفلات من العقاب »(.2)
يظهر ان ربط المسؤولية بالمحاسبة في الخطاب الرسمي لا تستثني أي احد فالمغاربة متساوون امام القانون بقوة الدستور، كما ان الفساد والريع والرشوة لا مجال فيها الافلات من العقاب. لكن السؤال الذي يطرح، ماالذي يجعل محاربة الفساد في المغرب تتعثر وتفشل بالرغم من كل هذه المحاولات، وبالرغم من كل ما يسببه من ضرر للبلاد والعباد؟ فحسب تقرير قامت به « الهيئة الوطنية لحماية المال العام » من سنة2000 الى سنة2010 أي لمدة عشر سنوات فاءن حجم الاختلاسات المالية يقدر بالمليارات (153مليار درهم)،وهو حجم يعادل ميزانية وزارة من الوزارات، كما تم توزيع خلال هذه المدة 525 هكتار من الأراضي على النخب السياسية والحزبية. وحسب (يومية « الأخبار » ليوم 11 ـ 01 ـ 2013) فإن حجم العملة التي يتم تهريبها
سنويا الى الخارج يقدر ب14 مليار درهم، وهو مبلغ يفوق ديون المغرب الخارجية، ويتجاوز اضعاف المرات ميزانية الدولة لأكثر من سنة. ان انتشار الفساد ،رغم الترسانة القانونية ،ورغم الخطابات الرسمية ،التي تربط المسؤولية بالمحاسبة، يعزى الى غياب المحاسبة وسياسة الاعقاب، التي أضحت ميزة خاصة للنظام السياسي المغربي. ان الحديث عن الفساد لا يعني ان الدول الديمقراطية في حل منه، بل ان تطبيق القانون كمؤسسة اسمى فوق الجميع يجعل منه ظاهرة محدودة، وغير طبيعية، في مجتمع يؤمن بقيم الديمقراطية وسيادة القانون. لكن الفساد في بلد كالمغرب، لا تحدده طبيعة الحكومة التي تصهر على الشأن العام، سواء كانت هذه الحكومة يمينية، او يسارية، او إسلامية، كما انها لا تتحدد بعقيدة هذا الحزب او ذاك سواء كان رجعيا او تقدميا، او بمرحلة معينة، او بعهد جديد او قديم، انها بنية ذهنية مترسخة، وثقافة سائدة، وسلوك متفشي من القمة الى القاعدة، ولعل هذا ما يجعل من الفساد ظاهرة عصية، يصعب محاربتها بتشريعات وقوانين وخطب لا تبرح البياض الورقي.
في ظل هذا الوضع الذي يتم فيه استنزاف أموال وامكانيات البلاد من قبل اشخاص لا يهمهم سوى مصلحتهم الخاصة، لازالت الميزانية العامة للدولة قادرة على أداء أجور الموظفين والانفاق على المرافق العمومية التي تشتغل بشكل عادي، وكأن هناك ميزانيتان ميزانية للدولة الشرعية، وميزانية لدولة اللصوص ومختلسي المال العالم، فلنتخيل لو انفقت هذه الميزانية على قطاعات مثل التعليم، والصحة، والخدمات العمومية، والتشغيل، وتحديث الدولة، فلعمري سيصبح المغرب يضاهي المانيا ،وليس اسبانيا التي نستشهد بها كنموذج قريب منا.
ان بنية الفساد في المغرب، لا يمكن حصرها في الفساد المشروع، الذي يحرمه القانون، ويعاقب عليه، كما أوردته « الهيئة الوطنية لحماية المال العام »، بل بموازاة هذا الفساد هناك « الفساد المشروع » والذي ينظمه ويحميه القانون، الذي يتمثل في الوظائف السامية، والمناصب الحكومية ،ذات الأجور الكبيرة، مقارنة مع مستوى المعيشة والأجور بالمغرب، فهذه المناصب والرواتب ،هي عبارة عن « مكافأة » و »ريع » و »رشوة » على المشاركة في لعبة الفساد ،وقد اكتمل الفساد بوصول المعارضة الى السلطة، واستمراره ،حين تبنى بن كيران مبدأ « عفا الله عما سلف » ،واضحى مع حكومة اخنوش اخطبوطا، امتدت ادرعه، وتجاوز كل الحكومات السابقة والمتعاقبة على البلاد، والتي لم يكن همها التنافس على تنمية البلاد، بل على تنمية الفساد وازدهار سياسة الريع.
والحصيلة ان الفساد اصبح جزءا من بنية نظام الدولة المغربية، فالقضاء عليه، يعني القضاء على الدولة نفسها، وهذا ما يفسر المقاومة الشديدة، لكل اجراء جدي لمحاربته، الذي لا يتجاوز، حدود الموظفين الصغار، والتضحية بين الفينة والأخرى، بأحد رموز الدولة، لامتصاص الغضب الشعبي، فتستمر اليات انتاج واعادة انتاج الفساد كبنية ثابتة في دائرة مغلقة بإحكام.
1- « نص خطاب العرش 30 يوليوز 2011 – الذكرى 12 لعيد العرش
2 – نص خطاب العرش 29 يوليوز 2017 بمناسبة الذكرى 18 لعيد العرش