في الحاجة إلى إعادة قراءة السرديات الفلسفية الكبرى
بقلم: سعيد ألعنزي تاشفين
أستهل الكتابة بما جاء على لسان ممدوح عدوان ، في معرض رغبتي في تناول تيمة الحداثة وأعطاب التاريخ ؛ يقول :
» نحن في حاجة إلى الجنون لكشف زيف التعقل و الجبن و اللامبالاة ، فالجميع راضخون ؛ ينفعلون بالمقاييس المتاحة ، و يفرحون بالمقاييس المتاحة ، يضحكون بالمقاييس المتاحة ، و يبكون بالمقاييس المتاحة ؛ لذلك ينهزمون بالمقاييس كلها و لا ينتصرون أبدا » .
** في براديغم عقل الحداثة:
المجتمع استهلاكي مقرف لا وجود للعمق فيه، إذ كل إيحاءاته ذات نفحة استهلاكية منحرفة عن ماهية الإنسان الذي أصبح كائنا مفترسا. و إذا كانت توصيفة » المجتمع الاستهلاكي » ذات وقع اقتصادي – اجتماعي ، و هذه تضمر معيارية ومرجعية اجتماعية ، فإن هناك تسميات ذات خلفية اقتصادية ك » الرأسمالية الجديدة » ، أو » الرأسمالية الشعبية » . كما هناك توصيفات ذات رنة تقنية واقتصادية مثل » النظام السيبيرنيطيقي الرأسمالي الجديد » ( ف . جونسون ) ، وتسميات تقنية خالصة مثل » المجتمع ما بعد الصناعي » ( د . بيل ، داهرندوف ) ، و » المجتمع التكنوقراطي » ( ٱلان أورين ) ، و » المجتمع التكنوتروني » ( بريزنسكي ) . كما تحدث البعض عن » المجتمع الإعلامي أو المعلوماتي » أو مجتمع المشهد la société du spectacle نتيجة الوصول تقنيات الإعلام والتواصل إلى القطيع والغوغاء في مشاهد تراجيدية بئيسة ؛ وهذا حصل بعد نجاح الثورة الإعلامية ( توفلر ) كشكل ثان لثورة كاليلو ( داريوش شيغان ) .
لقد بلغ البشر مرحلة » الإنسان كحيوان اقتصادي » Homo economicus المنذور للاستهلاك. ولا يمكن اعتبار فرضية أن الإنسان تقدم بفضل نجاح الرأسمالية في إخضاع كل شيء لمنطق السوق أولا، ثم تنصيب الربح إلاها لا شريك لها على جحافل » المؤمنين » / المستهلكين ثانيا، مع ما تبع ذلك من جعل الحرب مجتمعيا قائمة على من يربح أكثر؛ لهذا أصبحت كل شيء مباحا من أجل ربح المال في سوق النخاسة الجديدة . ولقد عمق مثل هذه المحصبة غضب فلاسفة كبار في الغرب، والذين لامسوا تحولات رهيبة على مستوى الفكر – القيم ، حيث أخذ بعض منهم تسمية هذا الخليط الاجتماعي الحاصل و الذي تبلور خلال العقود الأخيرة في الغرب ( و في الشرق تبعا ) ؛ تحدث بعضهم عن » مجتمع الفراغ » ( ليبوفسكي ) ، وآخرون عن » عصر الشك » ( سمارت ) ، و عن عصر » سيادة المحاكاة والنسخ الباهتة » ( السيمولاكر ) كما أعلن على ذلك جان بودريار ، وعن » عصر النهابات أو الحكايات الكبيرة » ( ليوتار » .
إننا إذا أمام أشكال جديدة من » قيم » فارغة تستأسد على كل المنصات المجتمعية؛ مثل » الفراغ – الشك – المحاكاة – النسخ الباهتة .. » .
** في نهاية الحكايات الكبرى ؛ ترجيديا الانحراف الأكبر :
وجد الفلاسفة والمؤرخون والمفكرون الكبار صعوبة في تحديد هوية الحداثة ، إذ استعصى الإمساك بها ؛ فنجد إميل دوركهايم نظر إلى المجتمع الحديث من زاوية التمايز الوظيفي المتنامي ( تقسيم العمل الاجتماعي 1893 ) ، ونظر ماركس إلى المجتمع الحديث من حيث توسع دائرة البضائع والانتشار الهشيمي للتسليع المعمم ( Commercialisation ) ومن حيث تحول الوقت الحر إلى وقت شغل ، وتحول الموضوعات إلى خيرات وممتلكات ، والأنشطة الحرة إلى خدمات ؛ كما نظر ماكس فيبر إلى المجتمع الحديث من حيث إنه خاضع لعملية عقلنة حسابية تتوسع بالتدريج لتشمل كل دوائر الحياة الاجتماعية ( العمل ، الحق ، الوعي ) .
** في راهنية مكتسبات الحداثة:
من أهم ما بلغته الحداثة بناء تصور جديد للتاريخ والزمن تحت مسمى » النزعة التاريخانية » وهي النزعة التي تطال، بموازاة تبلور وتغلغل روح الحداثة ، كافة مجالات الحياة الإنسانية ، وعلى رأسها المجال السياسي الذي تنطلق داخله دينامية تمايز تدريجي بين المجالين السياسي والديني ، وتتبلور فيه شرعية جديدة للحكم قائمة على فكرة التعاقد ، والانتخاب ، والمراقبة ، وفصل السلط ، والمشاركة الواسعة في إدارة الشأن السياسي . ويفضل بناء نظرة جديدة للتاريخ ثم منح الإنسان مكانة مرجعية للنظر والعمل، وبنسب إليه العقل الشفاف، والإرادة الحرة، والفاعلية في المعرفة وفي التاريخ ، فهو بنفس الوقت يكشف بجلاء عن مكوناته التحتية ، ومحدداته العضوية الغريزية والسيكولوجية ودوافعه الأولية ( الجنس ، العدوان ، البحث عن الربح ، التغذية .. ) . وهكذا تلتقي النظرة الحداثية للإنسان، من حيث هي إضفاء صبغة طبيعية على الإنسان ، بإضفاء صبغة تاريخية على الطبيعة ، وإضفاء صبغة طبيعية على التاريخ ، والفلسفة ومعظم العلوم الطبيعية والاجتماعية تنخرط في هذه الحركة ابتداء من الفيزياء الفلكية ، الأنثروبولوجيا الإحيائية إلى الماركسية إلى التحليل النفسي إلى العلوم السلوكية المعاصرة .
** في زيف ادّعاءات الحداثة هنا ؛ مأزق » النّحن » على نقيض ما تراكم هناك شمال البحر المتوسط :
العالم المتحضر ، أوروبا نموذجا ، نجح في بناء ، ما سماه غاستون باشلار ، » قطائع إبستيمولوجية » ، وذلك عبر نسف كل أشكال الفكر التقليدي ، وإقامة مشاريع ضخمة عبر ثورة ثقافية كبرى انطلقت منذ عصر النهضة ، ولعبت فيها المدينة ، كمجال عقلاني – تعاقدي » أدوارا طلائعية مع البندقية وجنوة وفلورنسا ، بفضل الصحوة الجديدة التي قعّدت لها البورجوازية الصاعدة التي انتزعت السلطة من بين مخالب الفيودالية ومنحتها لنفسها بعد معركة كسر العظام مع الكنيسة الكاثوليكية التي أحرقت جيوردانو برونو وتعسفت قضائيا ضد كوبرنيك وكاليلو خاصة . أروبا حقيقة ، فعلا ، قطائع بفضل إدراكات الفلاسفة والمفكرين للتاريخ والوجود ، منذ رني ديكارت ( تعزيز مركزية العقل ) ، إلى باروخ سبينوزا ( تحطيم أساطير التلمود المزور وتحرير الله من ريبقة الإكليروس ) ، نحو فلاسفة الأنوار الذين وضعوا تصورات جديدة للدولة وفق مرجعيات متعددة نظريا لكنها تلتقي في وحدة القناعة ضد الاستبداد والتحكم ، إلى فريدرك هيغل الذي وضع قواعد جدلية للتاريخ ( الأطروحة / نقيض الأطروحة / التركيب ) تؤمن بالدينانية لا بالثبات ، إلى ماركس الذي يعتبر ، حقيقة ، مكتشف قارة علم التاريخ ، نحو وضعية القرن التاسع عشر مع أوغست كونط الذي وضع القواعد الثلاث ، دون تجاوز أطروحتي شارل داروين وجون باتسيت لامارك ، وطبعا أطروحة سيغموند فرويد التي قالت كل شيء عندما اكتشفت أن الأصل هو اللاشعور وليس الشعور بما أسس نظرة جديدة مؤلمة عن حقيقة الكائن البشري .
أستنتج أن أوروبا لم تبلغ مبلغ الثورة الصناعية بحر القرن التاسع عشر إلا بعد إنجاح ثورة ثقافية وسياسية هائلة حسمت مع مختلف أشكال تسخير السماء لتخريب العيش على الأرض ، من خلال إنهاء ما أسميه ب » تحويل العالم إلى مقبرة منتظَرة » ، وفتحت المجال أمام حركة إبداعية هائلة ؛ وهذا هو السر العقلاني – البراغماتي خلف نجاح طفرة الحداثة .
** مأساة الانعتاق هنا ، منعطفات تاريخ التقليد : عبر تساؤلات مؤلمة :
منهجيا ، و وفق استنتاجات علم التاريخ ( تاريخ الأفكار ) ، وصلت الحداثة إلى جنوب البحر الأبيض المتوسط تحت عنف الإمبريالية التي خلخلت كل البنيات لدعم سيلان السلع وتحرير سفر الرساميل ، لذا لا غرو أن ولادة التحديث لم يكن غير رد فعل متأزم إزاء انتصار العقل الرأسمالي على المزاج التراثي النائم في كهوف المثالية المشرعنة بنوع خاص من الفقه السلطوي والشعبي الذي كان يعتبر التخلف قدرا مقدرا . وعليه : لماذا فشل المغرب ومصر ، في سياق نجاح اليابان في نهضة حضارية فريدة ؟! بمعنى آخر لماذا فشل الحسن الأول ( المغرب ) ومحمد علي باشا (مصر ) في وقت نجح فيه الإمبراطور ميتسي هوتو – الميجي ( اليابان )؟!
– كيف أصبح خطاب الحداثة خطابا مَتخفيا بالمغرب رغم هيمنة أحزاب رأسمالية محتكرة لكل السلط تحت عنف احتكار الرأسمال ، ورغم افلاس الخطاب التراثي بعلة هيمنة التفاهة المسنودة دوليا بترسانة من الشركات العابرة للقارات وفق ما سماه الفيلسوف الكندي ألان دونو ب » ماكينة التفاهة » ؟!
– أليست الثورة الثقافية مدخلا اجرائيا ضروريا لبلوغ مطلب الحداثة بعمقها الفكري – الفلسفي ، بدل هذه » الحداثة » المغشوشة التي أخذت لبوس الانحرافات الأخلاقية الكبرى ، حتى إن كل أشكال المسخ الهوياتي أصبحت تخضع لعمليات تيسير الهضم في ماكينة الحداثة المغشوشة خدمة لأجندات الفهم السياسوي للحداثة ؟!
– هل يجوز وضع فرضية كون كل الطفرات الحاصلة معنا ، منذ القرن التاسع عشر ، ثم سيما مع التقويم الهيكلي فجر ثمانينات القرن الماضي ، مجرد فرقعات للاستهلاك الإعلامي تحت تعسف تكتيكات التحول لإدراك استراتيجيات كبرى توظف » الحداثة » الشكلية للحسم مع الحداثة الفلسفية ، بعمقها الجواني ، كمطلب ينزع إلى عقلنة العيش وفق مقاربات تعاقدية متحضرة تنتصر لمركزية الإنسان بدل سلعنته في قوالب رأسمالية السخرة التي تستعبد الأغلبية لخدمة نهم الأقلية داخل بنية حداثوية رأسمالوية ؟!
صفوة الفهم إن الحداثة ليست إلا معركة العقل / اللغوس الكبرى التي انطلقت منذ قرون . إنها حرب تحرير الفكر ولمِّ شتات كل مستويات العقل ضمن نمودج فكري متكامل غايته الإنسان وفحواه العقل ومداخله التحول من المطلق إلى النسبي ، من الميتوس إلى اللغوس ، من العشيرة – القبيلة – العائلة إلى الفرد كمواطن حر ومسؤول ، من الاستبداد والتحكم نحو دمقرطة امتلاك الفضاء العمومي ، من احتكار مقدرات الأرض لصالح الأقلية إلى دمقرطة اقتسام الثروة الرمزية والمادية ، من تأميم الحياة الشخصية إلى الفرز المنهجي للمسافات الفاصلة بين الخاص والعام . و لعمري هذه هي فلسفة الحداثة وماهيتها كما أسس لها تاريخ العقل منذ انبلاج العصور الحديثة على أنقاض القروسطوية المكلفة .
++ الصورة ، الهنا والأن إلى منتصف الليل ، على شرف فلسفة الحداثة ، وحضور ٱلان تورين مغرٍ لا ريب . منّي التفاعل مع محمد سبيلا وٱلان تورين ، ومنكم التفاعل معي ؛ تحت سقف اللغوس يا رواد العقل .