في ماهية الحداثة ؛ تذكير بالطفرات النوعية :

في ماهية الحداثة ؛ تذكير بالطفرات النوعية :
شارك

بقلم سعيد ألعنزي تاشفين

      أبدأ منهجيا ، داخل الاتجاه نفسه المراد اعتماده في هذا المقال ، بما قاله عبد الرحمان منيف في متنه  » بين الثقافة والسياسة  » :

       » إن حجم البداوة في داخلنا كبير ، وبعض الأحيان نُفاجَأ و نُفزَع حين نكتشف أنه بهذا المقدار . أما مظاهر الحضارة والحداثة التي ندعيها فلا تعدو أن تكون قشرة خارجية . الأمر الذي يستدعي حفراً عميقاً ، والتأسيس على أرض صلبة ، تمهيداً للدخول إلى العصر . أما أن نحمل على أكتافنا هذه  » الذخيرة  » البدوية ، ونُموّهها بربطات العنق والعطور الباريسية والآلات الحاسبة ، فإنها لن تخفي الحقيقة الكامنة تحت السطح ، والتي ستظهر عند أول منعطف ، وستقول بالتالي أية علاقة لنا بالعصر . « 

 ** المنطق الماهوي للحداثة :

     جوهر عملية التحديث عند ماكس فيبر هي عملية التّقننة التي طالت المجتمع والثقافة الحديثين . ووجْهَا العقلنة هما علمنة الثقافة الغربية الحديثة وتنمية وتطوير المجتمع الغربي الحديث . وقد تميزت البنيات الاجتماعية الجديدة ، المتولّدة عن دينامية التحديث والعقلنة ، بتمايز منظومتين تبلورتا حول محورين أو نواتين تنظيميتين هما المنشأة الرأسمالية والجهاز البيروقراطي للدولة . وهذه العقلنة ، في وجهيها الاجتماعي والثقافي ، تغزو كافة مناحي الحياة اليومية ذاتها وتُفتّت أشكال الحياة التقليدية ذاتها حيث تفقد هذه الأخيرة تلقائيتها الطبيعية وتخلي الساحة بمعايير عقلانية حسابية شمولية صارمة قوامها الفردانية وحرية الاختيار .

     ويرى هابرماس أن هذه الدينامية من التمايزات والإستقلالات ، التي اعتبرها ماكس فيبر جوهر عملية التحديث ، قد وجدت صدى وامتدادات لها في فلسفة إمانويل كانط . لكن هذا الأخير ، في نظر هابرماس ، لم يعِ أبدا هذه التمايزات ، التي قسمت العقل ، كشروخ وانفصالات Scissions ؛ لقد انعكست على فلسفته ، لكن لم يفهم أساسها العميق . وهكذا ظل كانط، في نظر هابرماس ، يجهل الحاجة التي ظهرت على إثر الانفصالات التي فرضها مبدأ الذاتية ، أي الحاجة التي فرضت نفسها على الفلسفة ، الحاجة إلى التفكير في الحداثة كطفرة تعي انفصالها عن الماضي ، وعن نماذجه، ولتستقي معاييرها الخاصة من ذاتها ، لتكتسب مشروعيتها من نفسها .

      إذا كان هابرماس ، مع كانط الذي لم يُعير الحداثة أهمية في حينه ، رغم أنها كانت قضيته بصفته رائدا لها ، مكتشف لحظة انبلاج الحداثة ؛ فإن لوك فيري L . Ferry ، الفيلسوف الفرنسي ، يعتبر نفسه سليل الكانطية الجديدة ، مؤكدا على راهنية فكر كانط على ما يسميه باللحظة الكانطية التي تتلخّص ، في نظره ، في إسهامين رئيسيين طَبَعا الفكر الغربي ، منذ كانط إلى الأن ، وهما العلمانية الفلسفية ومسألة الذاتية . فمتن   » نقد العقل الخالص  » لإيمانويل كانط يتضمن قلبا جذريا للعلاقة بين المتناهي واللامتناهي ، وهي النقطة التي التقطها مارثن هايذغر فيما بعد بتركيز شديد .

      ميشل فوكو ، في موقع أخر ، يستعمل مفهوم الحداثة بشكل أخر خاص جدا ، إنه معنى إبيستيمي تميّز بانبثاق الإنسان كذات فاعلة وكموضوع للمعرفة . والمعنى المُسند للحداثة هنا معنى إبيستيمولوجي – منهجي – نقدي بالدرجة الأولى ، ويرتبط بظهور العلوم الإنسانية بالخصوص . ونعود إلى هابرماس لنتأكد أن الحداثة لم تعي نفسها إلى مع فريدرك هيغل الذي استعمل لأول مرة مفهوم  » العصور الحديثة  » استعمالا خاصا يتميز عن المفهوم الزمني المتداول لدى المؤرخين ، والذي يشير إلى مجرد حقبة أخرى من حقب التاريخ وفق التصنيف التاريخي المتداول من قديم ، ووسيط ، وحديث ، ومعاصر ( بعيدا عن مفهوم الحقبة عند أصحاب الحوليات ) . فالعصور الحديثة هذه ، لدى هيغل ، هي عصور جديدة كل الجدّة ؛ وهذا ما استفاض فيه في متنه  » فينومينولوجيا الروح  » ، والذي أبرز فيه حصول قوي لقطيعة الحداثة مع الإيحاءات والإلهامات المعيارية للماضي التي هي غريبة عنها . وهيغل ركّز على تعارضات Oppositions وعن انفصامات Scissions وعن شروخ متعددة ملازمة للحداثة . ويعني بها جملة التمزّقات التي أصابت ، مع إهلال الحداثة ، كلاّ من الواقع والوعي ، وتتمثل في :

     – انقسام العقل على نفسه كما تعكس ذلك معيارية العقل في فلسفة إيمانويل كانط .

      – التعارض بين العقل والحياة .

     – غياب الوحدة الروحية التي كان يؤمّنها الوعي الديني .

     – استقالات وتمايزات داخل دائرة الثقافة ( استقلال العلوم والمعارف).

    – استقلال دائرة المعرفة عن دائرة الإيمان .

     – حاجة العصور الحديثة إلى المصالحة مع نفسها عبر الإنفصال الجذري عن الماضي وقيَّمِه ومعايِره .

      ويخطو هيغل نحو تشخيص الماهية الفلسفية للحداثة في الذاتية من خلال الحرية والفكر ، وهذه الذاتية فكّكها هابرماس واستجمعها في :

     – النزعة الفردية .

     – الحق في النقد وإعمال العقل .

     – استقلالية الفعل البشري .

     – الفلسفة الميثالية .

       وغير بعيد من هابرماس ، نجد مارثن هايدغر يستخلص الظواهر الخمس الواسمة للحداثة وهي : العلم / التقنية / ذاتية الفن / انتفاء الطابع القدسي / الثقافة والحضارة . وهذه الظواهر الخمس تفضي إلى عدة مباديء كبرى مؤطِّرة لفلسفة الحداثة وهي :

      – العلاقة النسبية حيث يتم البحث عن العلة والسبب بالنسبة لكل كائن.

     – ميتافيزيقا الذاتية حيث تصبح الذات هي الأساس والنمودج بالنسبة لكل كائن .

      – السيطرة الكوكبية للتقنية المنفلتة من عُقالها كمجموعة قوى تحاول الاستقلال عن الإنسان والتحكم فيه مثلما يتحكم فيها .

      – الكليانية الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية التي يتم بواسطتها استنفاذ واستنهاك الكائن بطريقة محسوبة بيروقراطيا ومنظمة بحيث تغذو عملية لا حدود ولا نهاية لها . إنها  » التعبئة الكلية  » لكافة القوى والموارد، بما في ذلك الموارد البشرية ذاتها .

** في ميتافيزيقا الحداثة :

      عندما يحضر مصطلح ميتافيزيقا الحداثة فإننا نفكر مباشرة في مارثن هايذغر الفيلسوف الألماني الذي نبش عن الجذور الميتافيزيقية للحداثة في الفكر الغربي . والطريف في الأمر أن هذا الفيلسوف الذي وضع نُصب عينيه مسألة فلسفية ميتافيزيقية هي مسألة الكينونة أو الوجود ، قد وجد نفسه ذات يوم في صلب مناقشة العصور الحديثة في علاقتها بالتقنية في معرض بحثه عن السمات الميتافيزيقية للحداثة ؛ فأصبح يعمق الحفريات الهيغلية في خصوصيات العصور الحديثة من منطلق الطفرة التقنية وماهيتها والتي يعتبرها هايدغر ميتافيزيقا الحداثة .

     من ملاح الحداثة  » سوسيولوجيا  » عند مارثن هايدغر الكُتلية الجماهيرية وذوبان أصالة الفرد وسط الجموع ، إضافة إلى ملامحها السياسية المتمثلة في النزعة الكلية والاستبدادية التي يساعد تقدم التقنية على تحقيقها بحكم ما توفره من وسائل إدارةٍ ومراقبة وتحكم في الأشياء والبشر على السواء . يقول هايدغر :

       » هذا الإنسان التائه في درب الحداثة والمفتون بمنتوجاتها وبإفرازاتها قد أحلّ أصناما فكرية ، أو تقنية ، أو وظيفية ، أو بشرية محلّ القيم العليا أملا في أن توفر له بعضا من الطمأنينة والراحة الروحية التي افتقدها مع حلول العصور الحديثة  » . و يُعتبر هذا النقد من أقسى أشكال النقد الفلسفي الذي استهدف الحداثة من لدن فيلسوف الماهية الذي اكتشف فراغ روح الحداثة من أي معنى ، بالأحرى إنها ، من وجهة نظري ، بناء على استنتاجات هايذغر ؛ تحقّق درجة قصوى في  » تجسيد معنى اللامعنى  » .

** الحداثة رؤية نقدية :

     الغرب راكم على درب الحداثة منذ ديكارت ومع لبينتز ، نحو كانط ، ثم فلاسفة التنوير بفرنسا وإنجلترا ، إلى سبينوزا ، ثم إلى هيغل ، فماركس ؛ تراكما معرفيا كبيرا لامس مختلف أبعاد الظاهرة المعرفية . وما ولادة ما بعد الحداثة Post modernité إلا مرحلة جديدة قائمة على نقد الحداثة وإسقاط أصنام العقل كما أقامتها التقنية الرأسمالية . وفي السياق الذي بلغ فيه الغرب مرحلة نقد الحداثة كأفق إبستمولوجي واع و مُدرك ، بدأ ، على مضض ، العالم العربي يناقش الحداثة في أصولها الأولى بتعبير مطلق في بنية التأخر التاريخي المركب . ويبدو أن الحداثة ، يقول محمد سبيلا ، لم تستشير العرب ولم تطلب رأيهم قبل أن تدهس بابهم لأنها لم تسلك يوما طريق الاستشارة والاختيار ، فهي أشبه بنهر هائج وكاسح لا يُبقي ولا يذَر ، يجرف كل شيء في طريقه . إن الحداثة ، يبدو لي ، تفاعلا مع سبيلا ؛ اختارت العرب وليس هم من اختاروها داخل لعبة الفتح الرأسمالي المبين لبنيات التخلف العربي الكبير – الممتد والمركب . وأزعم أن مفهوم صدمة الحداثة كفيل بتبيان مضمون العلاقة بين الحداثة والرأسمالية معا ، ثم مع الاستعمار الذي حمل الحداثة إلى أبعد الجغرافيات خدمة لأجندات الرأسمال المؤطَّر بنظائم فلسفية – سياسية – قيمية كبرى .

** الحداثة العربية هجينة وخُلاسيّة :

     أهم الملاحظات عن هذه الحداثة أنها ، كما أكد العروي وسبيلا معا ، حداثة برانية وليست حداثة جوانية لأنها لم تنشأ ولم تترعرع إلا كظاهرة وافدة مع الاستعمار ؛ ومن هنا غُربتها وغَرابتها وغَربيتها وخارجيتها ؛ يستنتج سبيلا ، وهي ثانيا حداثة عنيفة في طريقة حلولها وفي تفكيكها لجوهر التقليد ؛ إنها اصطدمت بالتراث والتقليد ومع صور العالم القديم . لذلك وجدت صعوبة في تحرير الفرد من ريبقة التقليد وثقل الماضي . بمعنى أن الحداثة لم تكن إلا محمّلة على محمل أسلحة الاستعمار الذي استهدف عوالم أخرى وفي مقدمتها العالم العربي على هامش دينامية الفعل العقلاني الأوروبي . ومع هذا الاستعمار استيقظ العرب بغثة تحت وقع ما سماه العروي وسبيلا ب  » صدمة الحداثة  » كفعل تاريخي جارف ، والتي كانت مؤلمة على العرب النائمين في كهوف التراث غير مبالين بجوهر حيوية الطفرة الحاصلة وزخمها ، وغير واعين بدينامية التاريخ الحديث كما فهمه فريدرك هيغل واعتبره فاتحة لعهد جديد هو عهد الحداثة .

     أختم ، مع سبيلا والعروي معا ، إلى أن التقليد يتلبّس جزئيا بعض لباس الحداثة ليتمكن من الاستمرار ، بينما تتطور الحداثة في التقليد لتتمكن من النفاد ( علاقة جدلية مضمرة إذا ) . إن كل منهما يحاول احتواء الآخر وترويضه وتسخيره عبر اختلاطات وتمازجات درجية لا نهاية لها . ويبدو أن هذا ما يتطلب حذرا مضاعفا في قراءة معالمها وتعبيراتها وفكّ رموز دلالاتها الكثيفة المتراتبة والرهيبة ؛ وهذا صُلب استنتاجات سبيلا بعد تمحيص دواعي تأخر استلهام نبض الحداثة من لدن جسد عربي مثخن بالنزعة التراثية وبالحس التقليدي في فهم التاريخ والوجود .

       نافلة الفهم ؛ إن مأزق الحداثة ، رغم جدليتها المفعمة بالعلم ، يندرج في سياق تأويلية فاعلة اختزالية Hermeneutique reductrice بتعبير بول ريكور ، تُرجع المثال إلى التاريخ أو إلى الدوافع البيو – سيولوجية ، فهي تختزل الثقافة والقيم السامية ، وتختزل الأحلام واليوتوبيات إلى قوى مادية قد تكون الجنس ( سيغموند فرويد ) ، وقد تكون الصراع الطبقي حول الإنتاج ( كارل ماركس + فريدرك إنجلز ) ، وقد تكون إرادة القوة ( فريدرك نيتشه ) . الأهم ، أزعم ، أن الحداثة طفرات كبرى أفضت إلى انزياحات جذرية عمقت مأزق متعددة ، ولا يمكن فهم كل هذا من دون استيعاب عميق لنسَق التحولات التي ولدت فلسفية منذ رني ديكارت ، ثم انتهت أيضا فلسفية مع ما أسميه ب  » حداثة نقد الحداثة  » ضمن تقلبات ما بعد الحداثة كنقد للنقد ، باعتبار الحداثة نقد العصور الوسطى ، وما بعد الحداثة نقد العصور الحديثة ؛ ضمن دوائر جدلية التاريخ والعقل .

 ** الصورة ، الهنا والأن ، حية تنبض على شرف متن  » الحداثة وما بعد الحداثة  » ، حيث لذة العبور الفلسفي من محطة إلى أخرى على طول مسيرة العقل الفلسفي الحامل لقيم الحداثة . وحدي هنا إلى منتصف الليل مع قدحي وهذا المتن الفريد.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *