سياسة الاحتواء بين العصا والجزرة

سياسة الاحتواء بين العصا والجزرة
شارك

محمد إسماعيلي

وجهة نظر للنقاش

سياسة الاحتواء التي نهجها و ينهجها المخزن ليست وليدة اليوم أو هي خاصة بميدان دون أخر. إنها استراتيجية اعتمدها النظام لتشمل كل الميادين بدءا بالحقل الديني إلى الميدان السياسي مرورا بالوضع الاجتماعي والعمل الجمعوي وحقوق الإنسان والمشهد الثقافي وغيرها من الميادين.. وقد حقق ويحقق المخزن مبتغاه في الاحتواء دفاعا عن مشروعه ورؤيته المجتمعية بنسبة كبيرة ولافتة في جميع هذه الحقول.. بينما فشلت استراتيجية النضال الديمقراطي والثوري في تحويل بنية الدولة المخزنية إلى دولة وطنية ديمقراطية وتجاوز دولة التعليمات والأوامر إلى دولة الحق والقانون وتغيير بنية مجتمع الريع والرعايا والهبات والعطايا إلى مجتمع المواطنة والحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص والعدل والمساواة..

سياسة الاحتواء لم تبدأ اليوم وإنما بدأت مع معاهدة إكس ليبان والاستقلال الشكلي فهي تبرز واضحة أحيانا  لتكتسح الساحة وتتراجع حينا عندما تلقى مقاومة سواء كانت شعبية أو نخبوية لتأخذ نفسا ثم تنتظر الفرصة المواتية لتنقض من جديد على إحدى القضايا التي تبرز في المجتمع ليتم الالتفاف حولها واحتواءها.. سياسة كالحرباء تغير لونها حسب البيئة والمحيط الذي تكون فيه..

إن نجاح مشروع ما أو فوز فريق ما لا يتوقف على صلابة هذا المشروع أو قوة ذاك الفريق الذاتية وإنما كذلك على غياب البديل الواضح والمقنع لدى الطرف الآخر وإلى ضعف الفريق المنافس وتشرذمه.. فالنجاح الذي تحققه سياسة الاحتواء لم يأتي فقط من قوة النظام أو « صواب رؤيته » وإنما كذلك من تشرذم القوى الوطنية وانقساماتها مما أضعف مشروعها البديل وحال دون التوافق على حد أدنى يتوحد حوله كل أو جل أطياف قوى المعارضة والتغيير..

فمع بداية الاستقلال الشكلي للمغرب لم يكن للمخزن نخبة مثقفة تدافع عن مشروعه الاحتوائي بالفكر والقلم فكان يلجأ إلى أدواته القمعية لفرض توجهاته وهكذا تم أولا  الالتفاف على مشروع القوى الحالمة آنذاك باستقلال فعلي وحقيقي والمتمثلة في الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير عن الاستعمار في صورتيه التقليدية بقيادة دول أوروبا والجديدة بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية فتم حل جيش التحرير قبل إتمام معركة استقلال كافة الأراضي والمناطق والجيوب المغربية من الاستعمار الفرنسي والإسباني وإنشاء جيش نظامي بدلا عنه  ثم جاء إجهاض مشروع أول حكومة وطنية برئاسة الراحل عبدالله إبراهيم والتي كان يتولى فيها الفقيد  عبدالرحيم بوعبيد وزارة المالية والاقتصاد بعدما تم حل المجلس الوطني الذي كان يرأسه الشهيد المهدي بنبركة وتبع ذلك فرض حالة الاستثناء تخللتها حملة قمع ممنهجة شملت اعتقالات واسعة ومحاكمات صورية وتصفيات جسدية واختفاءات قسرية إلا أن قوى التغيير لم تستسلم فخاضت صراعا مريرا بلغ أوجه في انتفاضة مارس 1965م وأحداث مولاي بوعزة سنة 1973 بعد محاولتي انقلاب الصخيرات في 1971 وانقلاب الطائرة في غشت 1972م وعمد النظام خلال هذه المرحلة إلى حل الأحزاب والمنظمات الوطنية و التقدمية ومحاولة خلق أخرى بديلة ( أحزاب الكوكوت مينوت) لكن رغم كل الممارسات القمعية والتصفوية والدموية للنظام لم يستطع تركيع قوى التغيير التي قاوم رجالاتها ونسائها كل أشكال الاحتواء مع قلة الإمكانات واختلال ميزان القوى لصالح النظام وانبطاح بعض القيادات التي دخلت بيت الطاعة راضية بالفتاة الذي يرمى لها من طرف المخزن فكانت اليد التي يضرب  النظام بها المعارضة..

ومع بروز القضية الوطنية واستكمال الوحدة الترابية أواسط السبعينيات من القرن الماضي غير المخزن جلد سياسة الاحتواء  فأضاف إلى أداته القمعية محاولة الركوب على قضايا الأمة الكبرى  لإفراغها من محتواها والالتفاف حولها وهكذا رفع شعار ما أسماه المسلسل الديمقراطي أو ما عرف من بعد بالديمقراطية الحسنية نسبة للراحل الملك الحسن الثاني مقابل استراتيجية النضال الديمقراطي التي تبنتها بعض القوى الوطنية والتقدمية ولم يكن نجاح النظام في فرض مسلسله هذا نتيجة أساليب التزوير التي اعتمدها وطورها من موعد انتخابي لآخر بل نجح النظام لأن بعض القوى الوطنية تماهت مع النظام فاقتصرت في رؤيتها للديمقراطية على المسلسل الانتخابي فقط..  فبعدما كانت المقاعد لا تهم والحقيقة أولا صارت الحقيبة أولا وصار الفوز بالمقعد الانتخابي أهم من المرشح الذي يؤتى به من كل الآفاق وأهم من المبادئ التي يومن بها مادام يمثل رقما يضاف للفريق ليتم تصريفه إلى بعض الحقائب الوزارية والمناصب الرفيعة والامتيازات الريعية لما سمي بخدام الدولة بدءا بمهزلة الحلويات إلى أضحية العيد إلى أداء فريضة الحج على حساب الدولة إلى البقع الأرضية إلى مئات الهكتارات من الأراضي الفلاحية إلى الرخص والامتيازات في مختلف القطاعات .. وبدل أن يتطور الفكر الديمقراطي وتترسخ التقاليد والأعراف الديمقراطية عرفت آليات التزوير تطورا ملحوظا انتقل من تهديدات المقدم وشيخ الحومة بناء على تعليمات عليا للتصويت لهذا الشخص أو ذاك اللون إلى ملء الصناديق بالأوراق المطلوبة إلى خطفها وحرقها إذا كانت النتيجة معاكسة لأوامر الداخلية إلى تزوير المحاضر وتغيير نتائج التصويت لإعلان فوز من أرادوا إلى شراء الأصوات والحياد السلبي للداخلية التي تحصل على النتائج المبتغاة بقوة المال بعيدا عن الأساليب العتيقة في التزوير والذي يدفع أكثر تحت سمع و بصر الجهات المشرفة على الانتخابات سيحصل على المقعد وبالتالي يصبح همه الأول والأخير هو استرجاع ما أنفق وأكثر  بدل تمثيل الشعب والتعبير عن إرادة الجماهير التي باع جزء مهم منها صوته بأرخص الأثمان نتيجة تفشي الفقر والجهل جراء السياسة المتبعة منذ الاستقلال الشكلي أواسط خمسينيات القرن الماضي.. ونفس النهج اتبعه النظام لما كانت القوى الوطنية تؤطر العديد من الجمعيات والمنظمات المحلية و الإقليمية والوطنية فعمل المخزن على خلق ما عرف باسم جمعيات السهول و الوديان ( جمعية أنجاد.. جمعية سايس.. جمعية أبي رقراق.. الخ…) وضع على رأسها خدامه الأوفياء ( الوزير الأول سابقا الراحل أحمد عصمان.. المستشار الخاص للملك الراحل محمد عواد.. و هلم جرا) وأغدق عليها بالأموال والمنح والامتيازات بهدف ضرب جمعيات المجتمع المدني الجادة والنشيطة بعيدا عن إكراهات الدولة وتعليماتها الخاصة.. ونفس الأمر يقال لما احتدم الصراع بين النظام والمعارضة فسارع إلى جانب استخدام آلته القمعية إلى إنشاء مجلس للشباب عين على رأسه أحد قادة أحزاب المعارضة آنذاك الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ورئيس مجلس النواب في ما بعد الحبيب المالكي وذلك لامتصاص الغضب الشعبي..  وحين خاضت القوى الوطنية والتقدمية معركة حقوق الانسان عمد النظام إلى تبني الشعار فأنشأ مجلسا لحقوق الإنسان عين فيه أناسا بعيدين كل البعد عن الميدان وفي مقدمتهم الراحل إدريس البصري الذي كان على رأس أم الوزارات الآمر الناهي في كل الميادين والقطاعات والتي كانت أكبر منتهك لأبسط حقوق الإنسان كما عمد النظام إلى إحداث وزارة لحقوق الإنسان عين عليها محمد زيان محامي الحكومة في العديد من الملفات ضد المعارضة.. أشهرها ملف محاكمة الزعيم النقابي الراحل محمد نوبير الأموي..

وهكذا وفي كل الميادين استطاع النظام احتواء معظم وأهم القوى الوطنية والديمقراطية فتحولت من قوى ممانعة تسعى إلى إرساء الأسس الحقة للديمقراطية إلى قوى إصلاحية مرتبطة بالمسلسل الانتخابي وخيار المشاركة على هامش المؤسسات الهشة وتقبل العمل في إطار دستور ممنوح في شكله ومخزني في مضمونه يفرغ المؤسسات الدستورية من كل صلاحياتها ويركزها في يد  المؤسسة الملكية.. وهكذا أصبحت مشاركة قوى المعارضة شكلية و بدون أفق في التغيير.. وكانت نتائج هذا الاحتواء وخيمة تولدت عنها أوضاع سياسية و اقتصادية واجتماعية وثقافية لا تطاق.. وبذلك يكون المخزن قد أضاع مستقبل المغرب على حد قول واتر بوري في كتابه  » الملكية والنخبة السياسية »  وذلك بانكبابه على احتواء النخب الممانعة وإعادة إدماجها..  ففي الوقت الذي كانت فيه الدول النامية تبحث عن مداخل حقيقية لبناء نماذجها التنموية لتجويد أدائها السياسي وتحسين وضعها الاقتصادي والتعليمي كان المغرب في صراع قوي من  أجل إخصاء الحياة السياسية وتعقيمها، وشل المؤسسات وتهميشها، وتكريس الفوارق الاجتماعية، وتوسيع أحزمة البؤس، وصياغة نموذج اقتصادي يقوم على ثقافة الريع وشراء الولاءات والذمم..

ومن الاحتواء الجزئي إلى الاحتواء الكلي ومن الانقضاض على المعارك الكبرى والمفصلية إلى التحكم في المفاصل الصغرى وإن كانت مجرد جمعية محلية هنا أو هناك في هذا الميدان أو ذاك ليصل الأمر إلى نسق سياسي هش وضعيف ومؤسسات دستورية شكلية تفتقد الشرعية والمشروعية وهامش ديمقراطي غير مفيد بين مد وجزر حسب السياقات المتغيرة..

وفي الحصيلة أسفر هذا الصراع التحكمي على احتواء كلي، سواء في فترة حكومة التناوب في مرحلة أولى، أو في فترة حكومة بنكيران في مرحلة ثانية وما تلاها وصولا إلى حكومة أخنوش الحالية.. وكل هذا أدى إلى تفاقم عوامل الانفجار الاجتماعي والسياسي، وقد تجلى ذلك في حراك  20 فبراير 2011م  وبعده في الحراكات الاجتماعية والمناطقية المتنامية.. (حراك الريف 2016 – ثورة العطش 2017 – حراك جرادة 2018..)

وللأسف كشف الصراع الاحتوائي عن هشاشة النخب السياسية والثقافية وعن قابليتها للاحتواء بدون حدود، بشكل يقلب الكائن السياسي والثقافي رأسا على عقب، ويجعله كائنا تتحكم فيه غرائزه ومصالحه، بحيث يصبح أي فتات يقدمه له المخزن يسيل لعابه، بل مجرد التلويح بالفتات يفعل فعله.. ونجاح المخزن في سياسته الاحتوائية لم يكن لنجاعة هذه السياسة وإنما كذلك لهشاشة قوى الممانعة السياسية والثقافية..  ولذلك قال وزير الداخلية السابق الراحل إدريس البصري في كلمة بليغة: » لو كنا نعلم بأن المناضلين يشترون بالمال بهذه السهولة لما أدخلنا المغرب في سنوات الجمر والرصاص »

حتى لا تكون هذه الصورة القاتمة قد احتوت هي بدورها الوضع العام فإن الإنصاف يقتضي أن لا نضع كل الأحزاب والنقابات والمنظمات والجمعيات والهيئات في سلة واحدة بل لا زال هناك من هو قابض على الجمر ويعمل جاهدا رغم قلة الإمكانات وقساوة الظروف على الاحتفاظ بذلك البريق من الأمل، ف »الفكر التقدمي منطلقه ومنتهاه التفاؤل، وإلا فلن يبقى مبرر للتفاؤل، ولن يبقى كذلك مبرر للنضال إذا ادعينا  احتكار الحقيقة » كما قال الشهيد عمر بن جلون وهو يقدم التقرير الإيديولوجي في المؤتمر الاستثنائي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية  في يناير 1975م بضعة شهور قبل أن  تمتد إليه آياد الغدر الآثمة لاغتياله في واضحة النهار..

  06\09\2023م

 

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *