مكناسة الزيتون في سياق الحماية الفرنسية..
قراءة للأستاذ الباحث محمد فنان
صدر عن منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير كتاب للدكتورة حسنة مازي تحت عنوان: تحولات المجتمع المكناسي خلال فترة الحماية الفرنسية 1912-1956. والكتاب يقع في أزيد من أربع مائة وسبعين صفحة (470) من القطع المتوسط. غاية هذا المصنف دراسة » تاريخ المغرب عبر دراسات وأعمال محددة مواضيعها في المكان والزمان. ويتوخى […] الانخراط في البحث المونوغرافي وإنجاز دراسات أكثر دقة وتركيزاً لتجاوز التعميم والاختزال » (ص7). وتعود أهمية هذا العمل إلى تركيز الباحثة فيه على » القضايا الأساس التي شكلت محور اهتمام إدارة الحماية الفرنسية بالمغرب؛ حيث أبرز من خلال دراسته للعناصر المرتبطة بالقضايا الاجتماعية من تعليم وتكوين وصحة وسكن، سياسةَ إدارة الحماية ومخططاتها لتنظيم هذه القطاعات وضمان استقرار المجتمع المكناسي والحيلولة دون تمرده وفي الوقت نفسه، لتوفير وتيسير سبل وإمكانيات العيش المربح والصحي للمستوطنين وضمان سلامتهم الصحية النفسية منها والجسدية » (ص7)، تحت ظل التحولات المتعددة والمختلفة للمجتمع المكناسي في فترة الحماية الممتدة من 1912 إلى حين الاستقلال سنة 1956.
لقد كان في اتصال المستعمر بالمجتمع المكناسي أثر بالغ على الصعيد الاجتماعي والثقافي والمعماري، حيث عرفت » مدينة مكناس عرفت تطورا ديمغرافيا مهما في مرحلة الحماية، وتفاعلت العديد من العوامل في حدوثه، مما أثر على الحياة الاجتماعية بالمدينة. وعلى نوع السكن الذي عرفته وعلى النشاط الاقتصادي بها على أن من أهم أسباب الزيادة الديمغرافية هو تحسن المستوى الصحي للسكان المكناسيين وبداية إدراكهم لأهمية العلاج العصري في القضاء على الأمراض الوبائية التي كانت قبل مرحلة الحماية السبب في ارتفاع وفيات السكان » (ص66).
خصصت الدكتورة حسنة مازي أيضا حيزا مهما من دراستها لمتابعة الوضع الصحي للمكناسيين كما جاء في الفصل الثاني، حيث قدمت صورة عن » الأوبئة التي عرفها المغرب خلال القرن التاسع عشر و تبيان تأثيرها على الوضع الديمغرافي بمدينة مكناس. لأن ذلك يمكن من توضيح دور الإجراءات الوقائية والعلاجية التي اتخذتها إدارة الحماية لمقاومة الأوبئة والأمراض المعدية التي أسهمت في تجاوز القواعد التي كانت تتحكم في الديمغرافيا قبل مرحلة الحماية « (ص 69). مع تصنيف هذه الأوبئة المعدية ( السل، الطاعون، الزهري، التيفوس، التفوئيد…) وتحديد وسائل علاجها، التقليدية منها والعصرية؛ فقد » كان التلقيح وسيلة للحماية والحد من انتشار الأمراض المعدية التي كانت تفتك بالمكناسيين مثل الجدري والتفوئيد والسل وغيرها. وسجل في شهر دجنبر سنة 1923 ، 3 حالات إصابة بالجدري وهو ما تطلب التلقيح ضد هذا المرض في مختلف المستشفيات والمصحات الموجودة بالمدينة وفي المدارس وفي السجن، كما تم تلقيح المومسات. وتم تلقيح حوالي 3 آلاف شخص ضد هذا المرض. وسجلت 9 حالات إصابة بالجدري بين يناير وغشت سنة 1924 ، وحوالي 100 حالة ما بين شتنبر ودجنبر من نفس السنة خاصة في الملاح، نتج عنها عدد من الوفيات، فتم تحرير عدة تقارير عن وضعية هذا المرض « (ص 92)، وغيرها من إجراءات وضعتها الحماية الفرنسية كانت مخططا للنهوض بالمجال الصحي، وسبيلا للوقاية من الأمراض.
عالجت الباحثة في الفصل الثالث الوضع السكني لمدينة مكناس، وما لقيه من توسِعة على أيدي سلطات الحماية، حيث كان » ارتفاع عدد الأوربيين الذي جلبتهم مدينة مكناس وناحيتها دور العامل الاقتصادي في التحركات البشرية؛ إذ بعد نجاح المشاريع الأولى في المجال الفلاحي تسارعت وتيرة توافد الأوربيين على مكناس، الشيء الذي أحدث أزمة سكنية تطلبت إعادة تهيئة المدينة وإنجاز تجزئات سكنية جديدة. وقد تحمل المعمرون الأوائل الظروف السكنية والاقتصادية القاسية بالمدينة القديمة لإنجاح مشاريعهم » (ص 113) السكنية التوسعية. مع تركيزها على ما رافق هذه العملية من أصناف المضاربة العقارية، وارتفاع تكلفة الإسكان بين أوساك شرائح المجتمع الأروبي الملتحق بالمدينة الجديدة، وما نتج عن ذلك كله من حدوث أزمة يسرت للأروبيين تشديد » الخناق على المكناسيين بالسكن في منازل المدينة العتيقة. علاوة على أن ارتفاع أجور اليد العاملة بالمدينة مقارنة بالبادية اجتذب العديد من المهاجرين الجدد الذين عمقوا الأزمة السكنية، وتم ملء كل المساحات الممكن بناؤها بالمدينة وعندما لم يتمكن السكان من اقتناء قطع أرضية داخل مجال المدينة للبناء علها ابتكر الملاكون الوسائل التي تمكنهم من زيادة مداخيلهم بكراء منازلهم للمهاجرين فتوسعوا داخل فضاء المنزل بالبناء في السطوح والفناءات وإضافة طوابق علوية أفرزت هذه الوضعية أشكالا مختلفة للكراء نتيجة التكدس ووصلت المدينة إلى حد التشبع، وطفحت خارج أسوارها وظهرت أشكال معمارية جديدة تتمثل في أحياء الصفيح التي كانت ملاذ عدد من العائلات، لأنه لا يكلف إلا قليلا من النقود لكراء الأرض اللازمة للبناء، إضافة إلى أن مواد البناء تتكون من الصفائح ومن نفايات السكان الأوربيين، مما يجعل مصاريفه زهيدة « ( ص188). لقد كانت هذه الأوضاع سبيلا للتحولات الكبرى في مدينة مكناس، وفي امتدادها الحضري.
انتقلت الدكتورة في الفصل الرابع من دراستها إلى حقل التعليم والثقافة بالمدينة، إذ » نقلت إدارة الحماية برامجها التعليمية من الوطن الأم إلى المغرب، وكيفتها مع ما رأته صالحا لسيطرتها على المغرب فنهجت سياسة تعليمية تعتمد على ثلاثة أنواع من التعليم الفرنسي واليهودي والإسلامي وكان كل صنف من هذه الأنظمة التعليمية يرمي إلى تحقيق أهداف محددة، حسب الفئة العرقية والاجتماعية التي ينتمي إليها المتعلم » (ص 174). وقد دفع هذا تكوين متعلمين مماثلين للأروبيين تكوينا وفكرا، لتحقيق أهدافهم الاستعمارية، مما ترتب عنه رفض هذا النمط التعليمي قبل » أن يدرك المغاربة أهمية التعليم، وكان تهربهم محاولة لمقاومة الفرنسيين. ولكن بعد تأكدهم من عدم قدرتهم على مجابهة الاحتلال وطرده من البلاد استسلموا للتعليم الفرنسي بطريقة تدريجية، لأنهم أصبحوا مقتنعين بأن الذهاب إلى المدرسة سيمكنهم من » (ص199) تحقيق غلبة على الأجنبي. لم يدم الأمر طويلا قبل أن تدعوَ بعض الجهات السياسية إلى الإقبال على التعليم الأصيل، بل » وخصصت نظارة الأوقاف جميع الفنادق التي كانت نضم بيوتا صالحة لسكن الطلبة، واكثرت منازل لنفس الغرض. وهيئت لصالح المتعلمين بالتعليم الأصيل العديد من المدارس التقليدية التي كانت تتوفر على بيوت للسكن ومنها المدرسة الفيلالية والبوعنانية وفندق السرايرية. وبدأ العمل في سنة 1954 في تهيئ قصر بناني لسكنى الطلبة فيه » (ص 207)، مع محاولات تنظيم قطاع التعليم، ونعميق النظر في مشاكله تحت ظل الرؤية المعاصرة. أما على صعيد التسلية والثقافة فقد ارتبطت الفنون المتصلة بالترفيه بالطبالة والمغنين والمداحة وغيرهم، مع اهتمام » الشباب المكناسيين بدراسة الموسيقى وفق طرق عصرية » (ص 209)ضمن مدارس لتعليم الموسيقى، مع الاهتمام بالرياضة الأكثر شعبية، كرة القدم. وظهرت أيضا مجموعة من الجمعيات الثقافية ( جمعية قدماء تلاميذ مكناسة الزيتون، الكشفية الحسنية ) التي تعبّر عن اهتمام المكناسيين بالمشاكل اليومية، بل » حاول المكناسيون خلق إطار خاص بهم لتكوين الشباب المكناسي على حب الوطن والاعتماد على الذات ووحدة الصف » (ص 213) ضد المحتل الفرنسي.
بينما تصدى الباب الثاني من بحث الدكتورة حسنة مازي إلى أبرز مظاهر تأثير الاقتصاد الرأسمالي على الحياة الاقتصادية للمكناسيين، وما ترتب عنه على صعيد المهن المكناسية » بما أن هدف المعمرين كان هو استغلال المواد الأولية والخيرات الفلاحية للمنطقة، وجعل المغرب سوفا لمنتجاتهم الصناعية، وترسيخ استهلاكها لدى السكان المكناسيين والمغاربة عموما يخلق أسواق جديدة لتصريفها، فإن الاقتصاد كان القطاع الأكثر عرضة للتغيير » (ص219). وقد دفع هذا المنطلق على الباحثة إلى الوقوف على تنظيم الحرف زمن الحماية، والطوائف الحرفية في هاته المرحلة، مع أهم الأسواق ( سوق الهديم، سوق سيدي عمر لحسيني، سوق بني امحمد، سوق برج مولاي عمر، سوق قصبة هدراش)، والقوانين المؤطرة لها، تقول الباحثة: » لم تكن الطوائف الحرفية تستند إلى قانون مكتوب ينظم شؤونها بل أطرتها مجموعة من الأعراف تختلف في حيثياتها من منطقة إلى أخرى، بل وداخل نفس المدينة بين الخلطات. وكان هذا العرف أشد قوة من الأنظمة القانونية إذ يعرفه الجميع ويقبله بدون نقاش لأن الأعراف ناتجة عن اتفاق الحرفيين الذين كانوا يحررون عقودا عدلية تنظم حنطتهم، وتحدد العقوبات التي يتعرض لها المخالفون لبنودها، وتضبط علاقتهم بالمخزن. يمكن أن نستشف من هذا الأسلوب في صياغة الأعراف، أن الحنطات عبارة عن نوع من التسيير الذاتي للحرف القائم على مبادئ ديمقراطية. ترتكز الأعراف المنظمة للحرف على ثلاثة أسس تعتبر ضرورية لقيام أية حنطة، ويلتزم بها كل الحرفيين وتتمثل في:
مبدأ الثمن العدل : الذي يتحدد في رفض الربا، وضرورة الإضراب في حالة ما إذا كان الثمن غير كاف
العمل الجيد الذي يتحقق بالحفاظ على أسرار وصيغ الصناعة.
انتخاب أمين الحنطة والخضوع له. وكان المحتسب باعتباره أعلى شخصية في التنظيم الحرفي، والمحافظ على تطبيق القواعد الحرفية يقر الأمين في منصبه. » (ص229). وهي مرتكزا تأسست لقيام لحمة الاقتصاد المغربي المغلق. إلا أن هذا الضرب من التنظيم ن يدم طويلا، فقد » عرفت الحرف التقليدية المغربية أزمة حادة في مرحلة الحماية الفرنسية، نتيجة اصطدام الاقتصاد المغربي المغلق بالإنتاج الرأسمالي الحر. إلا أن هذه الأزمة لم تشمل كل الحرف، حيث يمكن استثناء الحرف الفنية أو المخصصة للاستعمال الأوربي. في حين عرفت غالبية الطوائف الحرفية ضائقة مالية حادة، نتيجة عوامل متكاملة ومتداخلة فيما بينها. ونشير إلى أن هناك مشاكل شملت كل الحرف، وكان لكل حرفة مشاكلها الخاصة التي ترتبط بطبيعة عملها » ( ص243). وهو ما شجع سلطات الحماية على إدخال المنتوجات الأجنبية، وصارت المصانع الأروبية تنافس المنتجات المكناسية، إلى أن فقد الوسط المكناسي أسواقه التقليدية في مصر وطرابلس، وتسرب الغش إلى الحنطات المغربية. مما ساهم في تعميق أزمة الحرف، والحد من قيمة أرباح الحرفيين. مع » نقص في المواد الأولية، كإفراز لسياسة تزويد المتربول بهذه المواد في مقابل نزعها من المغاربة وبيعها لهم بطرق مقننة جعلت تكلفة الإنتاج مرتفعة جدا في الوقت الذي استوردت منتجات رخيصة الثمن سحقت الحرف التقليدية المغربية أو وجهت هذه المواد بالأولوية للمعامل التي أنشأها الأوربيون بمدن المغرب، ووجدت منتجاتها ذات التكلفة المنخفضة مقارنة بما ينتجه الصناع استحسانا وقبولا « (ص 257).
بعد دراسة المقومات الاقتصادية في الوسط المكناسي وما يتعلق بها من مهن وحرف، توصلت الدكتورة حسنة مازي إلى جملة من النتائج أبرزها:
- إضعاف الاحتلال الفرنسي لمجتمع المكناسي، ومن خلاله للمغرب. بل إن السلطات الحماية كانت سببا في تأخر المغاربة وضعفهم.
- أدت الحتمية التاريخية إلى التغيير الذي كان نتيجة وعي داخلي أبح المكناسيُّ يحسه، ويعيشه في عدد من المجالات.
- الاهتمام بعصرنة التعليم، والسعي إلى تعميمه، مع تسليط الضوء على قضايا المجتمع من قِبل الحركة الوطنية والأحزاب والنقابات.
- عناية المغاربة بالوضع الصحي، وتعميم التطبيب العصري تحت ظل التطور الديموغرافي الذي عرفته مدينة مكناس.
- إنشاء عدد من الأحياء السكنية للقضاء على دور الصفيح، والسكن غير اللائق، أمام الزحف الفرنسي، وتضخم أزمة السكن.
- ظهور علاقات اقتصادية جديدة بين العمال وأرباب العمل تعكس إحساس العمال بالاستغلال الذي يطالهم من قِبل رؤساء الأموال.
لتؤكد الباحثة في الأخير أن هذا العمل محاولة منها لرصد أهم التحولات الاجتماعية للوسط المكناسي، كما أن عملها هذا يشكل منطلقا لدراسات أخرى جادّة، غرضها الدقة في دراسة التحولات المجتمعية في الأوساط المغربية استنادا إلى الوثائق المحلية المتناثرة في الإدارات المدنية، بوصف هذا العمل يندرج ضمن تاريخ المدينة في حقبة تاريخية محددة.