ارفعوا عنا ظلم المدونة.. أعيدوا لنا عدل ابن عرضون الغماري والخلنجي الحوزي
حكيمة ناجي
إن الأطروحة الأبوية المناهضة للمساواة بين النساء والرجال في الإرث بالمغرب تبني أساسها على مقاس نساء السرايا والحريم المتخيلين، وإن وجد هذا الصنف من النساء، فهو نادر، بينما المعيش الحقيقي والواقعي للنساء هو العمل ثم العمل لضمان العيش الكريم للأسرة وفي الطريق الرفع من ثروة الرجال وتجريد النساء من كل ما يمكن أن يؤسس لبناء سلطتهن على أنفسهن واستقلالهن الضروريين للكرامة الإنسانية للنساء. عجيب وماكر هذا « السحر » البطريركي المتضامن للحفاظ على العبودية المبنية على الجنس! غير أن ما لا قدرة لحاملي هذه الأطروحة على رؤيته هو أن النساء عبر تاريخ بلادنا، وليس اليوم فقط، لم يكنَّ أبدا كائنات سلبية لا تفعل إلا أنها تأكل وتشرب وتوفر غطاءً للرجال. على الإطلاق، إلا ما استثني من حالات بعض الأسر الميسورة التي قد تكون قروية، ولكن معظمها مديني، ومن سوء الحظ أن هذه الفئة من الرجال هي التي سيطرت على دواليب السياسة بالمجمل. لكن تاريخ المغرب سجل وجود عقلاء نبهاء استطاعوا إزاحة ظلم غشاوة الأبوية الذكورية. فكان الاجتماع عندهم أساسا في الفهم وإصدار الأحكام العادلة تجاه النساء.
في خضم بحث في أرشيف الصحافة الصادرة في المنطقة الخليفية وبالخصوص في عاصمتها تطوان إبان فترة الاستعمار، عثرت على نصين بجريدة الريف التي كان يديرها الوطني الإصلاحي الليبرالي التهامي الوزاني والصادرة بين 1936 و1955 والتي أصدرت أكبر عدد من المقالات الخاصة بكل ما كان يعتمل في النقاش العمومي والخاص علاقة بالنساء وحقوقهن ليس هذا المقال مجال التفصيل فيها.
الأول عنونه صاحبه، العياشي العلمي من شفشاون، « المرأة المغربية » والصادر يوم 9 ربيع الثاني 1356 الموافق ل 18 يونيه 1937، بسط فيه ما ترزح تحت ثقله نساء البادية بالمنطقة التي يعرفها. كتب قائلا:
» ففي المغرب كما في العالم امرأتان: الحضرية والبدوية، فالمرأة التي تسكن الحاضرة نرى أن لها شيئا من الحقوق فهي ترث وتأكل وتشرب وتنام لا أكثر، والتي تسكن البادية ترث وتأكل مثل الأخرى، وهي تفوتها بتحمل مشاق المعاش، فهي تقوم مقام الخادم في البيت، ومقام الدابة في النقل تمشي في الأسواق عارية الصدر، كاشفة الوجه، كأن الحجاب لم يفرض إلا على نساء الحاضرة…! وأنا لا أشك أن هناك رخصة لهذه المرأة بسببها يسمح لها الشارع بترك الحجاب واستغنائها عنه، ولسنا من الذين يقولون بإزالة الحجاب، ونود أن تبقى المرأة محافظة على حرمتها، متمسكة بتقاليدها الحسنة. كلهن يحترمن لشخصيتهن وإنسانيتهن، مقدرين قدر قيمتهن ولطافة جنسهن، ممتثلين الأوامر الشرعية التي تحضهن، قبل كل شيء، على النظافة والتظاهر بالفضيلة والأدب الإسلامي… »
» أما اليوم سنترك ذلك ونتضرع لرب العالمين من سوء حالهن، وخصوصا (نساء البادية البؤساء) وهؤلاء لا وظيفة لهن، ولا عمل يشغلنه إلا ما هو للرجل، نرى هؤلاء في الأسواق يبعن ويشترين، وفي الغابات يقطعن ويحملن، وأغلب أزواجهن من المجامع لاهون قاعدون، المرأة عندهم هي التي يسيل عرق جبينها لتطعم الزوج وتكسيه، والزوج إذا نظرت إليه تراه رجلا كامل الصحة، معافي البدن (يخيف السباع!) ولو كان هؤلاء يتحيون من لطافة جنس المرأة لما كانت همتهم تسمح أن يكون تعب الدنيا بيد أزواجهم، ولما كانت حالتهن كما هي.
إذن فهؤلاء هم الذين أورثونا تلك القبائح وحكموا على المرأة بالقهر والتعب، حكموا عليها بتحمل الشدائد والويلات، لا تجد وقتا تتذكر فيه نصيبها من الدنيا وحظها من نعيمها […].
هذا النص يطرح عدة إشكالات ليس مجال التفصيل فيها الآن، ما سنقف عليه وصفه لحالة نساء منطقة جبالة بشمال المغرب، تحديدا بكل من قبيلة غمارة وقبيلة الحوز حيث طور فقه عادل منصف للنساء نظرا لأدوارهن الاجتماعية والاقتصادية آنذاك. ولا تزال النساء حتى الآن تعشن نفس الشرط. تقول سيدة غمارية في الأربعينيات من عمرها، حتى اليوم لن يسبق رجل امرأة صباحا نحو الحقل، بل ينتظرها حتى تنهي في غسق الليل حاجيات البيت وتتحزم بالحبل وتهم بالانصراف، فقد يتبعها أو لا يتبعها. تقول كنت حاملا في الشهر الثامن، وكان لدي طفلان في السنوات الأولى من عمرهما ولا أقدر على تركهما ورائي، أهيئ ما توفر للأكل وهو شحيح ونخرج للحصاد في حر لا تحتمله امرأة حامل، واصفة حالة لا يتسع لها عقل البشر. وتضيف قائلة إن وضع الفتيات اليوم أحسن من السابق، على الأقل لا يحملن الأثقال على ظهورهن كما كنا نفعل نحن، بل يستعملن في ذلك الدواب، وتردف قائلة، لم نكن نستعمل البغال، لأنه إذا حضرت المرأة غابت الحاجة إلى البغلة. وهذا ليس بخاف على كل من يزور المنطقة.
هذا الواقع الاجتماعي في المنطقة لا يزال في حاجة ماسة للبحث التاريخي الاجتماعي والأنثروبولوجي، وأن تلعب الجامعة والجمعيات النسائية دورها في استجلاء أسباب النشاط الاقتصادي الكبير للنساء في مقابل سلبية بينة لدى الرجال، مع التأثير الضعيف لهذا الشرط على علاقات السلطة غير المتكافئة بين الجنسين.
النص الثاني تحت عنوان « هل علمت؟ (1937) حول طريقة الإرث في فخذة بني سالم من قبيلة الحوز إحدى قبائل جبالة، الواقعة في محيط مدينة تطوان، بل إن جزءا من تطوان واقع على الضفة الجنوبية لإحدى جبال الحوز، ألا وهو جبل درسة. مدشر بني سالم، يرجح أنه منسوب لسالم المصمودي أحد أعوان طارق بن زياد وأنه من بقايا قبيلة مصمودة المحاذية لسبتة، ويقال قد تكون لها روابط العمومة مع قبيلة غمارة مما قد يرفع أي استغراب عن تشابه الأحكام القضائية ذات الصلة بالطريقة التي كانت ترث بها النساء.
حسب هذا المقال، يعتبر سيدي محمد الخلنجي أول من عمل في هذه البلاد على الأقل بهذا الصنف في طريقة إرث الزوجة نصف ما ترك زوجها مضاف إليه إما الربع أو الثمن حسب حالة وجود أبناء أم لا. هذا مقتطف من المقالة غير الموقعة:
» في فَخْذة بني سالم من قبيلة الحوز إذا مات الزوج فإن العمل الجاري هو أن تأخذ الزوجة النصف في ماله ثم تأخذ الربع أو الثمن من الباقي، وأول من قسم للمرأة بهذه الصورة هو الشيخ سيدي محمد الخلنجي تلميذ العارف بالله سيدي محمد الحراق. ولما سئل عن موجب القسمة بهذه الصورة أجاب بأن العادة الجارية في البادية هي أن الرجل يتزوج صغير السن لا مال له فيقوم هو وزوجته على تكوين ثروة البيت. فالمرأة في الأكثر تقوم بأكبر المجهودات البيتية وغيرها، والرجل لا يفوقها بشيء من العمل ثم يصير الزوج يكسب الحيوانات ويشتري الأراضي في اسمه الخاص والواقع أن زوجته شريكة له في هذا المال فمن الإنصاف أن تأخذ قسطها في الشركة وهو لا يقل عن النصف ثم تأخذ حظها في الإرث بعد هذه القسمة العادلة، ولو فرضنا أنها لم تشارك في الأعمال الشاقة فإن قيامها بالعمل داخل البيت موجب لأن تتقاضى عليه ما تستحق من أجرة ويلزم ألا يستغل جهلها بحقوقها ليظلمها الورثة فيما هو لها، وقد اقتنع السّالميون بهذه الحجج المتينة فصاروا يقسمون بهذه الصورة عن طيب خاطر إلى الوقت والساعة. هذه هي نظرة رجال الدين إلى المرأة وحقوقها فهل علم الأوربيون الذين يتقولون على الإسلام الأقاويل. هذا القدر في مكان يظن الاوربيون ان أهله همج واشباه الوحوش… «
مقالة « هل تعلم » تضيف لنا شخصية تاريخية عملت بحق الكد والسعاية أو حق الشقا بمنطقة أحواز تطوان لم تكن معروفة، ألا وهو سيدي محمد الخلنجي الذي تتلمذ على يد سيدي محمد الحراق (1772-1845). سيدي محمد الخلنجي لا نعرف عنه إلى حد الآن أي شيء، وهذا يبين حدود البحث العلمي في تراث المطقة حتى الآن.
وعلاوة على ذلك، يشكل هذا النص مساجلة مع الأوربي المستعمر الذي يدعي الحضارة، مبرزا وواقفا على مثال أحكام الإرث التي اعتبرها عنوانا للتمدن والحضارة. فهذا الحكم لم يتوقف العمل به إلا عند صدور أول قانون للأحوال الشخصية في بداية الاستقلال الذي انتصر والحالة هذه للمحافظة الظالمة لفقهاء فاس على وجه الخصوص.
وهكذا تكون نساء كل من قبيلة غمارة وقبيلة الحوز، وأيضا نساء منطقة سوس قد نزل عليهن ظلم ما بعده ظلم جراء مدونة أحوال الاسرة منذ السنوات الأولى من الاستقلال، وينزل اليوم على كل المغربيات في كل المدن والقرى. إننا نحتاج اليوم من أجل رفع هذا الظلم لجرأة سياسية تاريخية من الدولة ولحملة توعوية للمجتمع بتاريخه وتراثه المتنور، وللعب المدرسة والجامعة والإعلام أدوارهما في ذلك.
وإذا كان الفاعل السياسي غير قادر على رفع الظلم عن النساء لأن هذا لا يشكل عنده تناقضا رئيسيا، تقديرا منه أن النساء لا يشكلن أي ضغط وأية قوة، فهذا حسابهم، وهم مخطئون فيه وسوف يكون لهذا الموقف كلفة تنموية، بالمعنى الشامل لكلمة التنمية، كبيرة على تقدم البلاد في مساعيها للارتقاء إلى مصاف البلدان الصاعدة.
لهذا البلد تاريخ يفوق العشرين قرنا من التلاقح الثقافي بين دفتي الشمال والشرق، البونيقي والروماني والوندالي والبزنطي والعربي الإسلامي، وحتى بحر الظلمات لم يكن دوما كذلك؛ وله حاضر بما فيه من الحسنات والعيوب، من حسناته أن نساءه ورجاله اليوم يعيشون جنبا إلى جنب، في الشارع والعمل ومؤسسات الدولة، بشكل غير مسبوق. لم نكن قط في عزلة ورفض دائمين، لكن المغاربة رفضوا دوما ما رأوه جورا مفروضا، واستقبلوا البراني تارة عن طيب خاطر عندما تكون لهم مصلحة فيه، وتارة بتشدد وعناد الجهلاء ولو كانت فيه مصلحة.
إن لنساء قبيلتي اغمارة والحوز أن تثُرن على مدونة الأسرة بكل نسخها منذ النسخة الأولى في بداية الاستقلال التي شكلت انقلابا على أحوالهن ورمت بهن في ظلمات الجور لتسوِّيهن من تحت في الظلم مع باقي نساء البلاد، وأن يطالبن أصحاب القرار السياسي بتحمل مسؤولياتهم في استعادة العمل بمبدأ العدال الاجتماعي الذي يجب أن يؤسس لكل قانون أو سياسة كما عمل بذلك كل من ابن عرضون ومحمد الخلنجي والمختار السوسي.
تطوان، 24 يوليوز 2024