عن ذاكم الفراغ أحكي لكم
خواطر امرأة
ثريا الطاهري الورطاسي
طنجة في 3- 2- 2025
أود أن أشير في البدء إلى أن الفراغ الذي أعيشه يبقى تجربة إنسانية شائعة ومع ذلك فضلت أن أكتب عنه من باب التأريخ أولا له، ومقاسمة أحاسيسي الخاصة حوله مع أحبتي ثانيا.
وسط ركام من الألم، من الذكريات الموجعة، من الوداعات الحارقة، كنت أتساءل كيف وصل بي الحال إلى الشعور بالفراغ، بعد أن تذوقت مرارة هزائم عدة، تتراوح جيئة وذهابا بين حدي معادلة هندسية، جامعة بين تشابه الطعم واختلافه، ومؤلفة بين الهزائم المتتالية الضربات: هزيمة الذات وهزيمة الموت وهزيمة المرض. وجميعها متوجة بهزيمة الهجرة والكثير من الوداعات ، وخلال مراحلها يبقى الخيط النابض بينها كبرت أم صغرت ، هو فقدان المعنى المصحوب بأجواء من الأسى والضياع ، والحنين المقرون بتوالي لحظات الإحباط والتوتر . فتأبى إلا أن تعبر بي نفقا مكفهرة أجوائه، لا طائل من عبوره أو حتى الانغماس بالنفس المنهزمة في ثناياه.
وأنا أحكي عن ذاك الفراغ المهول لا يسعني إلا أن أقول بأن هذه الحياة لا تحتمل الفراغ ولا تأبه بمن هم فيه منغمسون، فقد يحدث أن نحس بكل ما يثقل كواهلنا ويقض مضاجعنا، ويزيد من حدة الألم/ الفقد عندنا
حتى ونحن في اتزان كامل وانسجام مع أنفسنا. وقد يكون ذلك نتيجة طبيعية لمبالغتنا في الاعتناء بالآخرين دون أن نلتفت إلى بوصلاتنا الخاصة، كما يمكن أن يكون نتيجة طبيعية لمواقف قديمة منقوشة في أذهاننا، تأبى إلا ان تلاحقنا صباح مساء وتجز أشياء كثيرة في أعماقنا، فنعمد الى البكاء بعد أن نحس وكانه آلة حادة اجتثت «شيئا ما » ثمين عندنا: وداع أم مناضلة وحاضنة لتفرقاتنا ، وداع ابن وحيد هاجر تاركا وطنه مولدا عندي فراغا يهصر النفس ويسحقها ، بقايا غيوم كثيرة جاثمة على الفؤاد ….. وغير ذلك من الضربات التي تأبى الأ أن تندفع إلى الأمام ولا تجد فراغا يستوعبها ، فتمزق غشاءه لتوجد لها مكانا أوسع وأرحب من أجل تفرخ الحزن بكل تلاوينه القزحية .
الفراغ مثل الماء دائما يجد شقا ينفذ منه دون أن يشبع من البحث عن المجالات التي يستوعبه. إنها لعبته معنا نحن الكائنات الهشة السامحة له بالتشكل وفق ما يلتهمه من أحجام ومساحات، هو لعبة مغايرة لما اعتدنا عليه، نقطة سوداء توصلنا إلى قعر سحيق من جراء توالي الهزائم المبطنة، المخترقة لكل ما نعيشه بحثا عن نفق يوصلنا إلى فراغ يملأ هذا العالم بصراخه اللامتناهي وضجيجه المرهق.
ومع توالي النائبات لم يعد الفراغ مؤلما لي، بقدر ما صرت اشعر به من أحاسيس مولدة عنه وغصة تمزق القلب وتشرع أبوابه، فأتيه متنقلة من غرفة إلى أخرى باحثة عن هذا » اللاشيء » في عوالم الفراغ القاتل، مستحضرة ذكريات ولدي الوحيد المهاجر صحبة رفيقة دربه الى الديار الكندية، بعد أن ألزمته الحياة وعدم الاعتراف بمؤهلاته العلمية والمهنية كالكثير من أبناء هذا الوطن العاق. فلا غرابة والحالة هذه أن يكون الفراغ عندي أقسى من الغياب
رغم انه يؤلمني، ويدفع بي متخبطة وسط لج الشتات الذي لا يرحم، فأدخل غرفته لأجدها فارغة إلا من ذكرياته، بعض أشيائه الخاصة، أشتهي أن يباغتني من الخلف، غير أنه لا يفعل، فأقف في كل الزاويا مستحضرة تفاصيلها دون أن أقوى على الكلام، رغم أن الفراغ في مثل هذه الأوقات يحتاج إلى مناداة ….إلى صراخ ….إلى بوح … علني أتملص من ذاك الفراغ القاتل بحق، رغم اقتناعي بكونه مجرد فراغ وقتي أو لحظي، وليس فراغا روحيا أو عقليا وأنه وليد مرحلة فوضوية في المشاعر. بينما يبقى وفاة والدتي المرحومة » الصافية «
– وهي فعلا تبقى اسما على مسمى – مشكلا فراغا شاسعا بكل ما تحمل الكلمة من دلالات ومعاني حارقة وموجعة فأجد نفسي عالقة وكأن شيئا ما ينقصني، ربما هي ذكرى … تناسي …حنين …. اشتياق …. أمل في العودة … صدق في الاحاسيس …. وأنا التي كنت أظنها أياما وتمضي ، وإذا بها هي حياتي وواقعي المعيش ، وحالة قلبي الملأن بكل من رحلوا ( ن) عن عالمي، بعد أن شكلوا هالة الفراغ القاتل ، وبتوالي، الأيام اقتنعت أن الاشتياق لا يكون للراحلين فقط الى الأفق الأعلى وملكوت السماوات ، بل حتى للذين غابوا أو غيبتهم الظروف ، ومازالت ذكرياتهم تشدنا اليها وتنقلهم الينا – عبر مختلف الوسائط الالكترونية – ومع ذلك أقول : كم هو موجع هذا الفراغ المتجدد وكأنه هاوية بلا قرار، بالنسبة لمن لا يحب الانكسار، الذي قد يكون رابضا ببواباتنا معلنا استمراريته . وعندئذ لا مفر لنا من الوقوف في وجهه، معتبرينه فراغا مؤقتا تشتاق معه الروح – سرا – إلى أحبة كانوا وكن، ويخشى القلب بوحا بمحبتهم (ن)، فثمة حروف ملتهبة تعجز عن البوح وأشواق لا تحكى، تجعلنا نتخبط بين الإعصار والسكينة، وأنا المسافرة في الطريق باحثة عمن أحببت عسى ان أسمعهم(ن) صراخ قلبي الصادح بالشوق والاشتياق والحنين
معلنة أن الفراغ بعدهم موجع وقاتل لا محالة وسيبقى قلبي مسافرا حتى يصل لمن يحب كي يخبرهم أن الحنين موجع والفراغ بعدهم لامحالة في أنه قاتل.