الإسلام والإنسان..

الإسلام والإنسان..
شارك

الصادق أحمد العثماني – البرازيل

الإسلام رؤية فريدة تجعل الإنسان في قلب المشروع الإلهي، رؤية تنطلق من إعلان التكريم قبل التكليف، إذ يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ…»، وهو تصريح وجودي يضع الإنسان في مرتبة لا تمنحها أي فلسفة بشرية على هذا النحو الواضح. فتكريم الإنسان في الإسلام سابق على سلوكه، مستقل عن لونه أو نسبه أو دينه، وهو ما جعل العدالة والرحمة والحرية مبادئ ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة.

ويتجلى هذا التكريم في منح الإنسان العقل والاختيار والقدرة على الوعي، ليصبح قادرًا على تحقيق غايته في الكون. يقول تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ… فَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ»، وهذه الأمانة ليست مجرد تكاليف، بل هي مشروع حضاري كامل يضع الإنسان مسؤولًا عن ذاته ومجتمعه والكون الذي يعيش فيه. ومن هنا تأتي عظمة قوله ﷺ: «كُلُّكُمْ راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته»، ليؤكد أن الإنسان ليس كائنًا عابرًا في الوجود، بل محورًا للفاعلية الأخلاقية والاجتماعية.

ولا يفصل الإسلام بين الجسد والروح، بل يجعلهما وحدة متكاملة؛ فالإنسان في التصور الإسلامي ليس مادة خالصة ولا روحًا مفصولة عن الواقع، بل كائن يتوازن فيه الإيمان مع العقل، والعبادة مع العمل، والتأمل مع الحركة. ولذا قال تعالى: «هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا»، أي طلب من الإنسان أن يعمّر الدنيا، وأن يكون حضوره فيها بناءً لا انسحابًا. وجاء قول النبي ﷺ: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» ليجعل هذا العمران مصحوبًا بالأخلاق، فلا ينفصل الفعل الحضاري عن القيمة.

وتحتل الحرية موقعًا محوريًا في فلسفة الإسلام للإنسان؛ فالإيمان نفسه لا يتحقق دون حرية، ولهذا جاء القرآن قاطعًا بقوله: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ». فحرية الاختيار ليست امتيازًا سياسيًا بل ضرورة وجودية، ومفتاح الارتقاء الروحي؛ إذ لا معنى لإرادة لا تختار، ولا قيمة لتدين قائم على القسر. ولأجل ذلك قال النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»، فدلّ على أن القيمة الحقيقية للفعل الإنساني تنبع من وعيه واختياره لا من صورته الخارجية.

وإذا كان الإسلام قد أعطى الإنسان هذه المكانة الرفيعة، فإنه في الوقت نفسه لم يتركه بلا ضابط، بل وضع له خطًّا فاصلًا بين الحرية والفوضى، وبين الإرادة والميل إلى الظلم، فنراه يذكّره بقوله: «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ»، وقوله: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ…». وهنا يكتمل النموذج الذي يريده الإسلام: إنسان حر، لكنه عادل؛ قوي، لكنه رحيم؛ قادر على الفعل، لكنه لا يتجاوز حدود الأخلاق.

وهكذا يظهر الإنسان في المنظور الإسلامي كائنًا يحمل رسالة لا تتوقف عند حدود ذاته، بل تمتد إلى مجتمعه والوجود كله. إنه مخلوق يخطئ ويتوب، يفكر ويبحث، يبني ويهدم ثم يعيد البناء، لكنه يظل دائمًا في رحلة صعود نحو «إنسانيته العليا» التي عبّر عنها القرآن بقوله: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ». وهذا التقويم لا يُحفظ إلا بالوعي والعلم والعمل والإحسان.

وحين يُختزل الإسلام في مظاهر جامدة أو يُحصر في صراعات سياسية، تضيع هذه الفلسفة الرفيعة التي جعلت الإنسان مركز الرسالة، وقلب الخطاب، ومحور الحضارة. فالإسلام ليس دين خوف ولا دعوة انسحاب من الحياة، بل دين يحرر الإنسان من جهله وضعفه وقيوده ليكون فاعلًا ومؤثرًا ومتكاملًا. ولهذا سيظل التصور الإسلامي للإنسان أحد أهم المفاتيح التي يحتاجها العالم اليوم لإعادة التوازن بين الروح والمادة، وبين العقل والقيمة، وبين الحرية والمسؤولية. إنه تصور يعيد الإنسان إلى مكانه الطبيعي: مكرّمًا، واعيًا، مسؤولًا، ومسافرًا نحو الحقيقة التي خلق من أجلها.

ختاما، إن الحديث عن الإسلام والإنسان ليس بحثاً دينيًا فقط، بل هو بحث فلسفي عميق يعيد ترتيب العلاقة بين الوجود والغاية، بين العقل والروح، بين الحرية والالتزام.

ولذلك سيظل هذا التصور الإسلامي مصدر إلهام للفلاسفة والمفكرين، ومفتاحًا لإحياء قيم إنسانية يحتاجها العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *