وا العلوة فين امماليك؟
محمد فتاح
نحن عندما نكتب، لا نكتب بحبر القلم ،بل نكتب بما اعتصر في القلب من شوق ،فعذرا إن ظهرت بعض الجراح على السطور.
سئمت واكتفيت من الكلام، فآثرت الصمت لأترك القلم ليتكلم.
يألف الإنسان أمكنة أمضى فيها جانبا من حياته، المتأرجحة بين تلاوين يتداخل فيها الأبيض بالأسود، الفرح بالكآبة الغنى بالفقر الحب بالكره الانطلاق بالانغلاق والتعاسة بالسعادة وغيرها من الأحاسيس والعواطف الجياشة الدائمة التحول والتبدل في حياة الكائن البشري تبعا للمراحل العمرية والوضعية الاجتماعية، والحالة المادية والعاطفية التي يحياها.
بعض هذه الأمكنة يغادر الذاكرة والروح وبعضها الآخر يترسخ ليصبح جزءا أساسيا من كيان الإنسان المادي والروحي.
مسقط رأس الإنسان، وبغض النظر عن الحالات السلبية والإيجابية فيه يبقى أحب الأمكنة وأغلاها لديه كونه الحيز الذي رأى فيه النور لأول مرة وشهد تكونه الأول، وتنامت واكتملت فيه بنيته الجسدية والفكرية والعاطفية.
مدينة ابن احمد مسقط رأسي كانت ولايزال لها وقع ومعنى وصورة في نفسي ولو أنها قست علي كثيرا، ولكني أشتاق إليها كثيرا عندما أغادرها، فهي المدينة الوحيدة التي تحتفظ بأسراري وأحزاني ومسراتي، وهي مدينة النضال والجهاد والكبرياء والشموخ. لكنها تهمشت كثيرا في زمن تعاقب مجالس مشلولة عليها، وهذا ما ألاحظه خلال زياراتي المتكررة لأحيائها ودواويرها المجاورة لها حيث تستقبلني على غير عادتها بصمت، مدينة ميتة، بل صمت مدينة بائسة، مدينة تملكها بؤس رهيب في غياب برامج محكمة يفتقر إليها مسيري الشأن العام المحلي.
كانت مدينة ابن احمد « عاصمة التوت » ولا زالت عشقي البكر النقي، والرحيم الحنون الذي احتضن مرحلة تكويني الأول، وهي المدينة التي شهدت طفولتي ويفاعتي وشبابي وستشهد شيخوختي اذا كان في العمر بقية، الذي تكون بعشق الطبيعة والبساطة وسحر الحرف المطبوع الذي لا يضاهيه سحر.
لقد شكلت مدينة احمد المكون الرئيسي لذاكرتي البصرية، تعرفت فيها على النطفة الأولى من السعادة النقية، والفرح الابيض، والحنان الصافي، والتعب السعيد، فيها تشربت روحي ألفة الأهل، وحب الأرض ومهمة صاحبة الجلالة والجذور، وحركة الفصول وتبدلاتها، وفيها تعرفت إلى كتاب الكون المل-يىء بالأسرار والتساؤلات التي تبدأ مع بدايات الوعي الأولي، وتنتهي بانتهاء دورة الدم في العروق.
مدينة ابن احمد بالنسبة لي ذروة النضال على جبهات العيش، وبناء الذات معرفيا وماديا، والتأسيس لقاعدة المستقبل، لتضع الحي الهامشي الذي اقطن به في اللمسات الأخيرة لملامح هذا المستقبل.
مدينة ابن احمد ورغم سفري المتكرر لعدة مدن ،لم أنقطع أبدا عن التواصل معها بهذا الشكل أو ذاك، مما جعلها دائمة الحضور والتوجه في العقل والروح، ولأنني رأيت وعشت وعشقت مدنا أخرى غيرها، مدن منظمة ونظيفة ومرتبة، ومتكاملة فنا وثقافة وحضارة، لكن تظل مدينة ابن احمد « العلوة » هاجسي الذي مازال يسكنني بقوة، وكثيرا ما دفعتني غيرتي عليها أن أكتب عنها مرارا وتكرارا، أنادي عبر منابر إعلامية حرة نزيهة محلية جهوية ووطنية بضرورة تنظيمها وتجميلها وترتيبها حتى ترقى إلى مستوى نظيراتها من المدن التي رأيتها وعشتها وعشقتها، وبالرغم من ذلك، أصر المسؤولون عنها على التقاعس في إنجاز المرافق وتوفي الخدمات وفق القواعد والأصول العلمية والفنية والحضارية المطلوبة، مع أن ما رصد لها من أموال يغطي هذه الجوانب ويزيد؟
هذا الوضع من الإهمال العجيب-الغريب الذي تعيشه المدينة ، يقابله وضع آخر، هو قيام مسؤولين كثر خرجوا منها، وجميعهم طوروا منجزاتهم الشخصية في مدن مجاورة، وتغاضوا بازدراء عن المنجزات التي تفيد الناس والمدينة، وترفع من قيمتها الخدماتية والجمالية والاجتماعية.
ترى أما آن الأوان، لأن يأخذ الرجل المناسب طريقه إلى المكان المناسب؟ وإلى متى ستبقى ( المحسوبية والقبلية والعلاقات الخاصة) تطرد (الكفاءة الحقيقية الغيورة على مصلحة الناس والمدينة؟
لست أدري وأنا أتحدث هنا عن مدينة ابن احمد، كيف أنها نقطة التقاء بين مدينتين صناعيتين (برشيد/الدار البيضاء)ورغم هذا فهي تعرف تهميشا على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية، مما يطرح أكثر من تساؤل، عن هذا الوضع التي تسبب في استفحال ظواهر عدة أبرزها هجرة فئة عمرية محددة وهي « الشباب » صوب مدن أخرى أو خارج أرض الوطن، ظاهرة تجعل المتتبع يتساءل: لماذا يهجر أبناء مدينة ابن احمد بكثرة مسقط رأسهم؟
إن أسباب الهجرة متعددة ومتداخلة، حتى صارت المدينة مكانا لعناق الأهالي في إطار صلة الرحم فقط، وأن القائمين على الشأن المحلي من خلال المجالس المنتخبة لا يتحركون إلا في فترة الانتخابات، ولا يقومون بدورهم الفعال من أجل تنمية العنصر البشري، وخلق ثروة مشتركة ينتفع منها الكل، هذا إلى جانب تعطيل المشاريع الكبرى، وقد سبق التطرق سابقا في أغلب دورات المجالس المتعاقبة الى مشروع المنطقة الصناعية التي لم يكشف عن ملامحها حتى الآن، مما سيخلق عند إنشائها فرص العمل للشباب الذي لم يعد يعرف مفهوم العمل سوى خارج المدينة، وهو وضع جعل اليأس يتسرب إلى غالبية شباب المدينة، لدرجة لم يعد يثق في الوعود التي تتكرر على مسامعه من موسم انتخابي إلى آخر.
إن أبناء المدينة تجبرهم قساوة الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تعيشها المدينة على شد الرحال وتحمل الغربة، ليبقى الفراق حلا مؤقتا ويبقى قدرا للبعض أن يكونوا في هذه الحياة مسافرين أو مغادرين، ويقضي البعض الآخر من شباب المدينة جل أوقاته محاولا أن يحظى بفرصة للسفر أو العمل أو حتى الهجرة لمكان آخر، تدفعه أسبابه الخاصة وطموحه والعشق الغريب للحلول المؤقتة رغم بعد المكان الجديد واختلافه سياسيا ودينيا، إلا أنهم يفعلون المستحيل ويبذلون الغالي من جهدهم للهروب من مدينتهم.
كثير من الشباب يبحثون عن حياة أفضل في أماكن أخرى، منهم من قست عليهم مدينتهم، والبعض تم قمعهم ومحاربتهم في مدينتهم، ورغم القسوة والقمع، نجدهم لا يبرحون مدينتهم، لأن حبهم لها يبقى كامنا حتى ولو سكنوا غيرها.
إن الموضوع يحتمل مقاربات عدة، فهناك المقاربة السوسيولوجية التي ترى أن غلبة الطابع القروي على المدينة تعود للهجرة القروية المتزايدة من الضواحي، والمقاربة السياسية التي تعتبر أن تهميش المدينة وشبابها يتم من طرف المسؤولين على المجالس البلدية.
على المجالس المنتخبة التي تتعاقب على المدينة النهوض بها من جميع النواحي الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والثقافية والرياضية، فهي مدينة مهمشة بكل المقاييس بسبب عدم تنشيطها من خلال خلق مقاولات تستطيع أن تدمج اليد العاملة المعطلة في سوق الشغل، إضافة إلى غياب بنيات ثقافية كدور الشباب والمسرح، وعدم ارتقائها كقطب جامعي حقيقي، ومن جهة أخرى نرى أن الأسباب السوسيواقتصادية هي الأساس في ظاهرة الهجرة نظرا لغياب مشاريع التنمية في المدينة، وعدم الاهتمام بالرأسمال البشري والنظرة القطاعية لمفهوم التنمية.
ان مدينة ابن احمد إقليم سطات يمكن لي القول أنها مدينة الشيوخ والمتقاعدين والموظفين، مدينة يفضل بعض رؤوس الأموال داخلها الاستثمار في مشاريع بعينيها تتمحور حول المقاهي والعقار، في المقابل أنها مدينة الاختناق بالنسبة للشباب. وعليه فإن أغلب أبنائها اذا صح التعبير هم « نازحون » إما داخل الوطن أو خارجه، هم « نازحون » من أجل البحث عن لقمة العيش والحفاظ على كرامتهم وتحقيق آمالهم.
ان من أسباب هجرة الشباب للمدينة، غضب قديم لا تزال آثاره قائمة إلى حدود اللحظة، كرسه تدبير عدد من المنتخبين همهم الوحيد جمع الثروات الذين لا يملكون رؤية واضحة لمفهوم التنمية، كما أن بعض رؤوس الأموال عوض ان يقوموا بتوجيه خدماتهم ومجهوداتهم نحو خلق ثروة متنوعة من أجل احتضان شباب المدينة، حرصوا دائما على تحسين علاقاتهم الشخصية مع جهات إدارية ومصالح معينة بهدف الحفاظ على مصالحهم الخاصة لا غير.
عذرا ايتها المدينة، قد نقسو عليك أحيانا. .لكن قسوتنا لا تعني أننا لم نعد نحبك، كم نحبك وكم نتمنى أن تكوني حاضرة كغيرك من المدن الصاعدة.