من التمدن إلى التحضر أو سؤال الحق في المدينة

من التمدن إلى التحضر أو سؤال الحق في المدينة
شارك

(مقاربة سوسيو سياسية أنثروبولوجية)

 التهامي حبشي/ إعلامي و باحث سوسيولوجي.

إلى أستاذي الجليلين الذين قضوا نحبهم وما بدلوا تبديلا

إلى روح الدكتور محمد جسوس، وروح  الدكتور محمد سبيلا

(الحلقة الثانية)

« ..إن التمدن غاية البدوي يجري إليها وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها. ومتى حصل على الرياش الذي يحصل له به أحوال الترف و فوائده ، عاج إلى الدعة وأمكن نفسه إلى ما بالمدينة. وهذا شأن القبائل المتبدية كلهم، بينما الحضري لا يتشوف إلى أحوال البادية إلا لضرورة تدعوه إليها، أو لتقصير من أحوال أهل مدينته.. »

ــ عبد الرحمن ابن خلدون/ المقدمة. ص.122.ــ

 » المدن هي البشر. المدن هي العلاقات بين البشر. »

ــ الروائي العربي عبد الرحمن منيف/ مدن الملح ـــ

سيرورة التمدن على المستوى الوطني:

  الآن هنا، وفي هذا السياق العالمي، وعلى المستوى الماكروسوسيولوجي الوطني، تخبرنا أرقام وإحصائيات المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب، أن المغرب قد انتقل من نسبة تمدين ضعيفة لم تتجاوز 8% من مجموع الساكنة في مطلع القرن العشرين، إلى نسبة تمدن قوية في القرن الحالي. ففي إحصاء سنة 1960 كانت نسبة التمدين 29%، ووصلت في إحصاء سنة 2004 إلى 55,1%، لتبلغ نسبة 60,3% حسب إحصاء سنة 2014 . لقد تضاعفت الساكنة الحضرية بالمغرب من 3,4 مليون نسمة سنة 1960 إلى 16,5 مليون نسمة سنة 2004، لتصل إلى حوالي 20 مليون نسمة سنة 2014. و يعود هذا الارتفاع المستمر في معدل التمدين أو التمدن ببلادنا، إلى عامل الهجرة من القرى إلى المدن، وتصنيف بعض المراكز القروية إلى مناطق حضرية، علاوة على توسيع المجال الحضري للمدن، وإنشاء مدن جديدة في إطار سياسة المدينة وإعداد التراب الوطني. وتشير المعطيات الإحصائية للمندوبية السامية للتخطيط، إلى أن معدل التزايد السكاني بالوسط الحضري، قد سجل نسبة 2,1% في الفترة ما بين إحصاء سنة 2004 وإحصاء سنة 2014، مقابل نسبة -0,01% بالوسط القروي. وخلال نفس الفترة، تضاعف عدد الساكنة الحضرية في المدن الكبرى بنسبة  1,2 مرة، بزيادة تصل إلى 21,1%. وفِي المدن المتوسطة تضاعف هذا العدد بنسبة 1,3%، بزيادة تصل إلى 26,2%. وبالنسبة للمراكز الحضرية الصغرى، تضاعف هذا العدد بحوالي 4,6 مرة، بنسبة بلغت 365,3%، أي أن 36,3 من الحضريين تزداد سنويا بالمدن المغربية الصغرى. فخلال سنة  2014، تم إحصاء 8 مليون نسمة، وبنسبة 43,8% من مجموع الساكنة الحضرية، تعيش بالمدن الكبرى، و 7 مليون و 116 ألف نسمة، بنسبة 42,1%، تعيش بالمدن المتوسطة، و2 مليون نسمة، بنسبة 14,8% في المدن أو المراكز الحضرية الصغرى. وحسب تقرير للمندوبية السامية للتخطيط، حول  » السكان والتنمية بالمغرب »، فقد تزايد عدد الحضريين بالمغرب، خلال 54 سنة، بأكثر من 17 مليون نسمة؛ وحسب الإسقاطات السكانية لنفس المندوبية، من المتوقع أن يصل معدل التمدن بالمغرب إلى 67,8% سنة 2030، وإلى 73,7% سنة 2050، بزيادة تقدر ب11,6 مليون شخص إضافي بالمجال الحضري في حدود منتصف الألفية الثالثة.

   وحسب الجهات الثمانية بالمملكة المغربية، فقد سجلت أعلى نسبة للتمدن 93,4% بجهة العيون الساقية الحمراء، تليها جهة الداخلة وادي الذهب بنسبة  74,3%؛ فيما احتلت جهة الدار البيضاءـ سطات الرتبة الثالثة، من حيث درجة التمدن بنسبة 73,6%، تليها جهة الرباط سلا القنيطرة، بنسبة  تمدن بلغت 69,8%. هذا مع العلم أن جهة الدار البيضاءـ سطات، قد احتلت المرتبة الأولى من حيث عدد الساكنة، حسب الإحصاء العام للسكان والسكنى بالمغرب لسنة 2014، وذلك بمجموع 6826773 نسمة، متبوعة بجهة الرباط سلا القنيطرة بتعداد 4552585 نسمة، تليها جهة مراكش آسفي بمجموع 4504767 نسمة.

   وبالجملة، فإن تكاثر المدن والمراكز الحضرية، أضحى حقيقة مؤكدة ببلادنا، بوتيرة متباينة، حسب جهات المملكة والتمركز في الساحل الأطلسي. ففي سنة 1960 كانت توجد بالمغرب 112 مدينة، منها 11 مدينة كبرى ومتوسطة (يفوق عدد سكانها 50 ألف نسمة).  و في سنة 2004 تجاوز هذا العدد 350 مدينة، من بينها 54 مدينة ذات كثافة سكانية تفوق 50 ألف نسمة. و تحتوي هذه الفئة من المدن، التي تمثل الْيَوْمَ أزيد من15% من مجموع المناطق الحضرية المغربية وحدها، ما يناهز 8 قرويين من  أصل عشرة، فحسب إحصاء سنة 2004، يهاجر يوميا 300 قروي إلى المدينة، تحت دافع الجفاف المقرون بندرة أو نقص في التجهيز بالعالم القروي.( تقرير الخمسينية ، المغرب الممكن، إسهام في النقاش العام من أجل طموح مشترك، مطبعة دار النشر المغربية، الدار البيضاء, 2006، ص.32-33).

  وصفوة القول، إن الدينامية الحضرية بالمغرب، كسيرورة تاريخية، مرشحة للاستمرار، وتطرح على هذا النحو جملة من الأسئلة الجوهرية المتعلقة بإعداد التراب، وتنظيم الإنتاجية والتنافسية والجاذبية المجالية، ولا سيما وأن تنامي أقطاب حضرية كبرى، كالدار البيضاء، وطنجة و أكادير..، على سبيل المثال، أصبح الْيَوْمَ يمثل، إلى جانب عوامل  أخرى، كالعولمة وتركز الرساميل المادية والرمزية، أحد المعايير الحاسمة  في تحقيق الجاذبية الترابية الحضرية، هذا دون  إغفال أن مدننا الكبرى تتجه نحو الإشباع (Saturation)، أو ما بات يعرف بالإجهاد الترابي(Le stress territorial)، بحيث أن المدينتين الكبيرتين بالمملكة، واللتين كانتا في ما مضى تجلبان إليهما أفواجا مهمة من المهاجرين القرويين، تعرفان الْيَوْمَ نسبا جد ضئيلة في معدل النمو السكاني الإجمالي: 0,8% بالنسبة لمدينة الدار البيضاء، و0,1% بالنسبة لمدينة الرباط. وهو الإشباع الذي يتم اليوم لفائدة المدن المتوسطة والصغرى المحيطة، كبرشيد، والمحمدية، وبوسكورة، والدروة، والسوالم.. بالنسبة للعاصمة الاقتصادية، وسلا، وتمارة، والصخيرات، وبوزنيقة…، بالنسبة للعاصمة الإدارية للمملكة، الأمر الذي يطرح بشدة، مسألة تأهيل البنيات التحتية، واندماج الخدمات الأساسية، ومختلف الوظائف الحضرية بهذه المدن الحديثة أو الجديدة، ذات الجاذبيات القوية والأحواض الهجرية الكثيفة. وتدلنا هذه الإحصائيات والمعطيات الكمية، حول تنامي الظاهرة الحضرية بالمغرب، منذ مطلع القرن 21، على انتقال الرهانات الكبرى للتنمية البشرية ببلادنا نحو المدن، التي من المتوقع أن يقطن بها 7 مغاربة من أصل عشرة في أفق سنة 2025؛ وبالتالي سيُصبِح اعتماد سياسة حقيقية ناجعة وفعالة للمدينة، مع إعادة تنظيم أشكال التضامن السوسيو مجالي، من الأوراش المهمة في مشاريع التنمية الترابية الحضرية منها بالخصوص.

    ومن هنا، لا يمكن توقع التطور المجالي وإعداد الترابات (Aménagement des Territoires)، إلا بسن واعتماد سياسة مندمجة وشمولية للمدينة؛ ذلك أن تدبير شؤون مدننا وفق المفهوم الجديد للسلطة وللحوكمة أو الحكامة الحضرية الذكية، لا يمكنه أن يظل حبيس تلك النظرة الضيقة، أو المقاربة الأمنية  للمجال الحضري، المسكونة بهاجس الضبط والتحكم الأمني؛ بل ينبغي على التدبير الحضري الذكي والجديد، أن يكون ذَا رؤية منفتحة عقلانية واستشرافية، تنطلق من المجال والعمران، لتركز على  الإنسان، أو تمتد من المورفولوجي إلى السوسيوأنثروبولوجي، لتشمل وتساءل الاجتماعي والاقتصادي، والسياسي والثقافي أيضا. فبما أن المدن ستصبح مواقع استراتيجية للحركية السكانية، وللتغير والسلطة، ولخلق الثروات والحريّة، وفِي الآن نفسه مجالات لانتشار ظواهر الإقصاء والاستبعاد الاجتماعي، والفقر والهشاشة الاجتماعية؛ فإن جبهات  أو أوراش  » معركة المدينة » يجب أن تتسع لتشمل توفير وتأهيل وتنمية وتجويد كل ما يتعلق بإطارات العيش والأمن والصحة، وخدمات النقل والتواصل، والتنشيط السوسيوثقافي، وتحسين مستوى الانسجام بين المرافق السكنية والإنتاجية والخدماتية والتنشيطية للمدن؛( تقرير الخمسينية، مرجع سابق، ص.266)، حتى لا تكون هذه حواضرنا مجرد « غيتوهات » أو أحياء سكنية معزولة(des blocs)، أو مجرد بنايات إسمنتية باردة، أو ثكنات جامدة للمأوى والمبيت ليس إلا؛ ذلك أن المدينة هي مراكز الحياة (la ville c’est les centres de vie)، بتعبير  الدكتور الخبير إدريس بنهيمة. ومن ثمة لا يمكن فصل رهان المدينة المندمجة عن الخيارات المرتبطة بالديمقراطية المحلية، بشقيها التمثيلية والتشاركية، وهو الرهان الذي لن يتم كسبه بدون ارساء وترسيخ آليات وذهنيات المشاركة الديمقراطية للسكان، في تسيير وتدبير شؤون أحيائهم ومدنهم، وبدون نموذج متجدد، تشاركي ومسؤول للتخطيط الحضري،.(Driss Benhima ; La bataille de la ville :une des grands chantiers au début du siècle », Rapport Cinquantenaire Le Maroc possible, 50 ans de géveloppement humain, perspectives 2025, RDH-Synthèse-Janvier 2006. ).  ولعل في توجيهات التقرير الاستراتيجي للنموذج التنموي الجديد للمغرب، ما يحفز على الفعل الترابي الجماعي الحضري ويفيد على أكثر من صعيد. و ذلك في إطار الدعامات الأربع الأساسية لهذا النموذج, وهي: 1ـ وضع الإنسان في صلب العملية التنموية، بالحد من الفوارق وتعزيز التماسك الاجتماعي. 2ــ إعادة النظر في العلاقة بين الإنسان والطبيعة، للتوجه نحو اقتصاد يعتمد مبادرة التجديد الاستباقي، 3ـ المساهمة في التحولات التي يعرفها كوكب الأرض على المستوى البيئي والسوسيواقتصادي والتكنولوجي (Planetarization)، بضمان التواصل والارتباط بين النطاق المحلي والعالمي. 4ــ إعداد المغرب لمواجهة التحولات التكنولوجية المتطورة (Exponentiality)، بوضع استراتيجية طموحة لتخطي مراحل بأكملها في مجال التنمية (Leapfrog). وذلك عبر تسهيل اقتصاد المنصات الرقمية (Platform Economy)، وتسريع التحول الرقمي، والرهان على الإنسان والابتكار، وإرساء الحكامة على أسس الذكاء الجماعي، من خلال إحداث تغيير جذري في العقليات، عبر إصلاح التعليم، لتكوين مواطنين مسؤولين، متشبعين بالسلوك المدني، والحس النقدي وروح المبادرة والمهارات القيادية، والقدرة على تدبير المشاريع التعاونية، والتوفيق بين التخصصات المتنوعة، واكتساب التجارب والخبرات، وتعليم اللغات الأجنبية، وتطوير الذكاءات المتعددة (Multiple Intelligences).هذا ولم يفوت هذا التقرير الفرصة للدعوة إلى مراجعة تدبير وتهيئة المجال الحضري، لجعل المدينة أكثر إنسانية لسكانها، وخاصة بالنسبة للفئات الأكثر هشاشة. وجعلها مدينة مستدامة، عبر إجراءات متعددة، من قبيل ترشيد استهلاك الماء والكهرباء، والرفع من مستويات جودة الهواء، وتقديم خدمات عمومية إلكترونية للحد من التنقل، ومكافحة ممارسات الفساد، واستئصال ظاهرة السكن العشوائي، ومنح البلديات مهمة تنفيذ سياسة للتملك العقاري لمنع التعدي على الأراضي الصالحة للزراعة.( المملكة المغربية، التقريرالاستراتيجي نحو نموذج تنموي جديد (ملخص) عدد الصفحات:9.(Iress) المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، 2019-2020،). وإلى ذلك، خلص التقرير العام لنموذجنا التنموي الجديد، الى رؤية جديدة بشأن دور المجالات الترابية، باعتبارها شريكا للدولة في البناء المشترك للسياسات العمومية وتنفيذها، داعيا الى انبثاق مغرب الجهات، لضمان الالتقائية ونجاعة المشاريع التنموية على مستوى المجالات الترابيةـ كما دعا النموذج إلى إعادة تنظيم ترابي متجدد، يضع المواطن في صلب السياسات العمومية، ويمكن من توزيع ناجع للخدمات العمومية، لتصل إلى أصغر وحدة ترابية ((الدوار))، كمكان للقرب ووحدة مناسبة لجمع المعطيات والبيانات حول الساكنة، والمنتجات المحلية والموارد الطبيعية، وكتراب يتم تحديده وتهيئته في إطار ديناميات التنمية المجالية.هذا ولم يفوت النموذج التنموي الجديد الفرصة للدعوة إلى مراجعة عميقة لمنظومة إعداد التراب الوطني، بشكل يتلاءم وتطلعات التنمية المستدامة، وذلك من خلال اعتماد تصور جديد للتعمير يتمحور حول مقاربات للتخطيط الحضري، تتمركز حول جودة إطار العيش والتمازج الاجتماعي والوطيفي.وتدعو اللجنة إلى اعتماد « إطار مرجعي وطني للتنمية الحضرية »، بالارتكاز على تدبير مستدام للوعاء العقاري ودعم الإدماج والتمازج الاجتماعي، وتكريس دور مرفق النقل العمومي كخدمة عمومية أساسية ووسيلة مفضلة للتنقل، بالنظر إلى المنحى الديموغرافي والتعميري، وتحسين الولوج إلى السكن الاجتماعي داخل المدن، للحد من تركيز السكم الاجتماعي بالضواحي، هذا مع العمل على إدماج مختلف المناطق السكنية في النظام الرقمي، من أجل دعم مشاركة السكان وتحسين الولوج إلى الخدمات العمومية، وخاصة في المناطق النائية. وفي إطار الأوراش التحولية لإطلاق النموذج التنموي الجديد، دعت اللجنة إلى اعتماد استراتيجية للتحول الرقمي يعمد بإدارتها إلى أعلى مستوى عبر إحداث مندوبية وزارية مشتركة مزودة بالخبرات والكفاءات اللازمة..، مع تأهيل البنيات التحتية الرقمية للصبيب العالي والعالي جدا، التابث منه والمحمول، وتوسيع نطاقاتها لتشمل مجموع التراب الوطني.هذا مع اعتماد منصات رقمية بالنسبة للخدمات العمومية والمقاولات، ومنصات تسمح بمشاركة المواطنات والمواطنين على المستوى الوطني والترابي، مع تسريع رقمنة الإدارة من خلال خلق منصة رقمية موحدة، وتكوين الكفاءات اللازمة لإنجاز التحول الرقمي وتنفيذه على أرض الواقع، دون نسيان تعبئة الشراكات الدولية لتعزيز الاستثمارات ونقل التكنولوجيات الجديدة والمهارات والخبرات التقنية الذكية.وفي الأخير أوصت اللجنة، بضرورة العمل على ترجمة نموذجنا التنموي الجديد إلى « ميثاق وطني من أجل التنمية »، وذلك قصد ترسيخه كمرجعية مشتركة بين كافة ااشركاء والفاعلين والقوى الوطنية الحية بالبلاد.(المملكة المغربية، النموذج التنموي الجديد ، تحرير الطاقات واستعادة الثقة لتسريع وتيرة التقدم وتحقيق الرفاه للجميع (التقرير العام)، اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي الجديد، أبريل 2021ن(152 صفحة)،ِWWW.CSMD.MA/RAPPORT.AR.ص.117 إلى ص.142.).

   وهكذا تأتي حزمة أهداف وإجراءات نموذجنا التنموي الجديد، جد « طموحة لتخطي مراحل بأكملها »، في وقت  تنمو وتتوسع فيه أغلب مدننا  الحديثة النشأة، وتزداد وتتفاقم مشاكلها، ولا سيما منها تلك المدن والمراكز الحضرية وليدة الظاهرة الكولونيالية مع مطلع القرن العشرين. فلا يخفى على أحد بأن المشهد الحضري المغربي، قد عرف تنوعا وتعددا في النماذج التعميرية، فإلى جانب المدن التاريخية التقليدية، العريقة أو الأصلية، شيدت الإدارة الاستعمارية مدنا أوروبية الطابع في المنتصف الأول من القرن 20. « و بعد حصول المغرب على الاستقلال، ستظهر أنماطا هجينة من المدن المغربية، لا هي غربية حقا ولا هي شرقية أصيلة. إنها ما أسماه جاك بيرك ب »المدن الأرخبيل »، حيث تتجاور وتتعايش أنماط السكن الراقي والأحياء الأوروبية الباقية، مع نمط جديد يسمى « التجزئات السكنية ». و إلى جانب هذه النماذج الرسمية، ستتفاقم وتتناسل نماذج غير رسمية، تتجلى في ما تسميه السلطات العمومية بالسكن غير اللائق أو غير القانوني أو العشوائي. وهذا النمط الأخير يتمظهر في عدة أشكال: مدن صفيح، سكن هش عن طريق وضع اليد، تجزئات سكنية غير قانونية تسمى « سرية ». إن هذه التعددية الحضرية تعكس، على مستوى المجال، التعددية التي ما فتئت تعرفها التشكيلة الاجتماعية والاقتصادية في المغرب.( د. عبد الرحمن المالكي، الثقافة والمجال…، مرجع سابق،ص.6). وذلك تحت ضغط الهجرة القروية نحو المدن العمالية، طيلة فنرة الاستعمار، وخلال العقود الثلاثة الأولى من فترة الاستقلال، الشيء الذي أثر على المشهد العمراني بقوة، وأدى إلى نزيف أو مسلسل ترييف المدينة، ذلك أن  » ما تفصح عنه الإحصائيات المتعلقة بالسكن هو ترييف المدن. ففي ضواحي المدن يعيد المهاجر إنتاج نموذج من السكن يوجد في القرية، بينما تتأنق البورجوازية الحضرية في التنافس من أجل تقليد السكن العصري » (د. رحمة بورقية، الدولة والسلطة والمجتمع، دراسة في الثابت والمتحول في علاقة الدولة بالقبائل في المغرب، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت، 1991،ص.142″). هكذا،ا ومن أجل إيقاف نزيف الزحف المتزايد للتوسع المجالي الفوضوي لضواحي المدن، على حساب الأراضي الفلاحية الخصبة، وكذا الزحف المتزايد للتجمعات السكنية الكثيفة، وتأثيراتها السلبية على تدمير وتشويه المشهد الحضري، وبهدف تجاوز هذه الاختلالات العمرانية العميقة، ومواكبة النمو الديموغرافي السريع في المجال الحضري، وإعادة التوازن الحقيقي لتهيئة التراب وضبط أواليات السوق العقاري، وضمان تمدن متوازن ومنسجم، انتهج المغرب، ومنذ مطلع الألفية الثالثة، سياسة جديدة تهدف إلى تشييد 15 مدينة جديدة في أفق سنة 2020، منها: مدينة تامسنا بضواحي غرب مدينة الرباط ،و مدينة زناتة على مستوى تقاطع تراب مدينتي الدار البيضاء والمحمدية، ومدينة الخيايطة على بعد 18 كلم جنوب الدار البيضاء، ومدينة تامنصورت على بعد 10 كلم من مدينة مراكش بتراب جماعة حربيل. ومدينة تكاديرت على بعد 6 كلم من مدينة أكادير، ومدينة ملوسة على بعد 10 كلم شرق مدينة طنجة).. ( د. محمد البكوري،  » المدن الجديدة بالمغرب نموذج جديد للحكامة الحضرية: دراسة حالة مدينة تامنصورت، دار المنظومة، العدد 46، يوليوز 2016/ص.2platform.almanhal.com/Filles/2/89689 consulté le 19/08/2021. ).

  وعموما، فقد حصل تمدن ملموس في المجال المغربي، بفعل ارتفاع ساكنة مدنه الكبرى والمتوسطة والصغرى، إما عن طريق الزيادة الطبيعية ( الفرق الإيجابي بين عدد الولادات وعدد الوفيات، أو عن طريق الزيادة غير الطبيعية ( أي صافي الهجرة الإيجابي بين الهجرات الوافدة (Immigration) والهجرات النازحة (Emigration). وذلك ما يعبر عنه ديموغرافيا بمعدل النمو الحضري، الذي يعطينا نسبة الزيادة السنوية في عدد سكان المدن في بلد من البلدان. كما اتسع المجال الجغرافي لعدة مدن كانت موجودة من قبل، وذلك بفعل اكتساح المدينة للضواحي المجاورة لها. ( كحالة مدينة برشيد مثلا)، وذلك ما يعرف باتساع المدار الحضري للمدينة، الذي يضيف للمدينة مجالا جديدا وساكنة جديدة، وكذا ارتقاء بعض التجمعات السكانية من مستوى جماعة قروية إلى مستوى جماعة حضرية، أو من قرية إلى مدينة، وذلك بعد توفر بعض الشروط الكمية والكيفية. ( د. عبد الرحمن المالكي، الثقافة والمجال…، مرجع سابق، ص.23.).

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *