مفهوم الشغل بالتحديد الماركسي

مفهوم الشغل بالتحديد الماركسي
شارك

بقلم: ذ. المعانيد الشرقي

     يحدد كارل ماركس مفهوم الشغل، من خلال كتابه المشهور  » رأس المال  » في إطار العلاقة المزدوجة للإنسان والطبيعة وبين الإنسان والمجتمع من جهة أخرى، ففي هذا الإطار، يقوم الإنسان بتحويل الطبيعة ومنتجاتها الخامة الى كيفيات للوجود تبدو عليها فاعلية الإنسان، بشكل جلي وواضح. وبتعبير آخر يبذل الإنسان طاقة جسمية وفكرية لتحويل الأشياء المادية وجعلها في صورة تتلاءم مع حاجات الإنسان الحيوية: مثل المأكل و المشرب و أدوات أو وسائل الإنتاج…

فبتحقيق الإنسان لهذه الحاجيات الحيوية يكون بذلك، قد حقق بالمقابل قواه الذاتية الكامنة فيه، أي تحويل الذات وتنمية قواها وتطويرها وتجسيد إمكاناتها في منتوجات اقتصادية مادية وأخرى فكرية نظرية أيضا، كما يمكن أن نخلص في هذا التحديد الأولي لمعنى العمل الإنساني،  إنه فعل ( أو مجموعة منظمة من الأفعال ) يحول به الإنسان الطبيعة ويؤنسنها لتلبية حاجاته البيولوجية، وذلك ضمن علاقات اجتماعية محددة. غير أن العمل يكتسب بفضل بعده الاجتماعي قيما أخرى اجتماعية ونفسية وأخلاقية تتجاوز قيمته النفعية البيولوجية الأولى.

     ففي العمل يتحقق البعد الاجتماعي للفرد الانساني، كما أشار إلى ذلك عبد الرحمان بن خلدون في مقدمته، حينما أكد على أن الاجتماع البشري ضرورة لا محيد عنها بالنسبة للنوع الإنساني، وباجتماع الانسان مع بني نوعه ينسج علاقات عمل، يتم بموجبها التحرر من الضعف، وقهر الزمان والتمكن من سهولة العيش أيضا، كما تتحقق ماهية الإنسان أي إمكاناته الذاتية وقدراته الخلاقة والمبدعة، عبر أفعال إرادية واعية هادفة يصنع بها الإنسان عالمه ويصنع بها ذاته باستمرار، أي أنه ينفيهما ويتجاوزهما تجاوزا ديالكتيكيا جدليا، وهذا ما نجد له صدى وترديدا في فلسفة جورج فلهلم غوتفريد فريدريك هيجل وبالتحديد جدلية العبد والسيد.

كما يمكن تحديد الشغل تحديدا عمليا ( التحديد الاقتصادي الاجتماعي) ودائما من خلال كتاب كارل ماركس رأس المال، والذي يعد من بين المؤلفات التي أحدثت زلزالا انطولوجيا في تاريخ الفكر الإنساني         ( مجاوزة الميتافيزيقا ) من محاولات التفسير والتنظير للعالم، إلى تغيير هذا الأخير يقول ماركس: » الفلاسفة قبلي فسروا ونظروا للعالم، لكن العالم يجب تغييره. »   فالشغل بهذا المعنى، ومن منظور ماركسي، هو كمية العمل اللازم اجتماعيا لإنتاج سلعة أو بضاعة، ويتضمن هذا التحديد لمفهوم الشغل عناصر ومفاهيم تحتاج الى شرح مفصل وهي: البضاعة – والقيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية للبضاعة.

     فالبضاعة هي شيء طبيعي أو مصنوع يمتلك صفات وخصائص، تجعله كفيلا بأن يشبع إحدى حاجات الانسان. أما القيمة الاستعمالية فتتحدد بمنفعتها الاجتماعية، الشيء الذي يجعل من كل سلعة أو بضاعة ثروة. أما بخصوص القيمة التبادلية فتتحدد بعلاقة التساوي أو التعادل بينها وبين بضاعة أخرى مخالفة لها كيفيا.

     على ضوء شرح هذه المفاهيم، نستطيع أن نضع تحديد الشغل في صيغة أخرى: الشغل هو كمية العمل اللازم اجتماعيا، لخلق القيم الاستعمالية والتبادلية، ومعنى هذا أن العمل يضيف إلى الأشياء كيفية جديدة، هي قيمتها الاستعمالية والتبادلية، بحيث يصبح مفهوم العمل هو: مقدار الجهد المجسد في منتوج العمل: والذي يكتسب بفضله هذا المنتوج قيمة استعمالية وقيمة تبادلية. وما دمنا قد بينا البعد الاجتماعي للعمل الانساني فإن علينا الآن أن ننتقل إلى تحديد المفهوم النظري العلمي للشغل، وكذا إلى دراسة الشغل في إطار التطور التاريخي للمجتمع أو في إطار التشكيلات الاجتماعية التاريخية.

    تقسيم العمل وتوزيعه: إن الطابع الجماعي الانساني يتضمن بالضرورة توزيع العمل، بين أفراد أو أعضاء المجتمع ( أمثلة: حدادة، نجارة، ….إلخ) . غير أن الانقسام الطبقي للمجتمع حول هذا التوزيع الطبيعي للعمل إلى تخصص قسري، وإلى فصل العمل اليدوي عن العمل الفكري. لهذا الشكل الطبقي الأخير، من تقسيم نتائج اجتماعية واقتصادية نكثفها في صيغة واحدة: استغلال (استلاب) العمل أو بضاعته: نذكر نماذج وأمثلة للعمل المستغل: العمل العبودي – المجتمع اليوناني والروماني أنذاك، العمل القناني – نسبة إلى عمل الأقنان في أراضي الإقطاعيين العصور الوسطى، ثم العمل المأجور الذي ارتبط بالإنتاج الرأسمالي، وفائض القيمة.

فبتحليل العمل المأجور، كنموذج للعمل المستغل في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي، يكون لزاما علينا شرح نظرية فائض القيمة، وتفسير استغلال العمل المأجور. فالبرغم من التطور التكنولوجي الذي عرفته أوربا ما بين القرنين 18 عشر و 19 عشر، في المجتمع الرأسمالي ومع ظهور الآلات ( وسائل الإنتاج ) أضحت معها القوانين المتحكمة في نمط الإنتاج الرأسمالي وفي تطوره تحتم داخل هذا النمط الانتاجي الزيادة المستمرة في الانتاج ومضاعفته، ويترتب على ذلك الزيادة في الأرباح، وبالتالي الزيادة في استغلال العمل عن طريق زيادة فائض قيمة قوة العمل.

    ومع التطور التكنولوجي المتلاحق لوسائل الانتاج، يترتب على ما سبق أن العمل أو الشغل يفقد في المجتمع الرأسمالي معناه ودلالته الانسانية، لأنه تحول هو نفسه إلى بضاعة تباع وتشترى، ويشكل مصدرا لتراكم الربح الرأسمالي عن طريق استغلاله، ولم يعد يحقق ماهية الإنسان بل أصبح يحقق فقط بعض حاجاته البيولوجية، ولكن في ظروف نفسية واجتماعية تحول فيها الشغل إلى مصدر لشقاء الإنسان ووسيلة لقتل طاقاته الجسدية والفكرية وإهدارها.

غير أن هذا الوجه السلبي الذي كشف عنه التحليل الماركسي لنمط الانتاج الرأسمالي يزدوج بوجه آخر ايجابي يفتح آفاق مجتمع جديد يتجاوز مشاكل الشغل المطروحة في المجتمع الرأسمالي. هذا الوجه الإيجابي هو أن: تراكم الربح أو فائض القيمة وتزايد استغلال العمل المأجور(استغلال العمال ) ينتج تناقضات طبقية يؤدي نموها حتما إلى إلغاء المجتمع الرأسمالي و قيام المجتمع الاشتراكي الذي يحرر الإنسان ويعيد له قيمه الاجتماعية والنفسية والأخلاقية. وهذا ما تؤكده الأزمات والضربات الموجعة التي هزت جل اقتصاديات العالم الرأسمالي. يقول كارل ماركس في هذا الصدد:

 » إن الرأسمالية ستدق آخر مسمار في نعشها بيدها… »

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *