العقل والارادة
بقلم الأستاذ المبرز في الفلسفة: إبراهيم الفتاحي
سمعت أحدهم، ذات مرة يقول: الإرادة صفة لازمة للبشر حتى وإن قيَّدها غِلٌّ أو حالَ دون عملها مانع. كان المتحدث يَسْبِرُ غَورَ فلسفة ديكارت ويقتفي آثارها وهو يشرح قوله المشهور: « العقل ذو معرفة محدودة وإرادة حرة ». قال: المعرفة المحدودة هي سبب انحسار الإرادة وإحجامها عن توجيه الحكم والفعل، مما يجعل الأنا في حالة استسلام وتبعية للغير الذي تراه مالكا لتلك المعرفة الضرورية من أجل إنتاج الحكم السليم أو الفعل القويم، من هنا جاء مطلب السؤال لأهل الذكر كما في التراث، أو استشارة أهل الاختصاص بلغتنا المعاصرة. انبرى أحد السامعين معترضا فقال: أوليس ذلك الانحسار وذاك الاحجام عن الحكم أو الفعل من عمل الإرادة ايضا؟ وما الذي يمنع فعلي الاستسلام والتبعية من أن يكونا نتاجا للإرادة الحرة؟
ذكرني هذا النقاش، الذي استرقتُ فيه السمع بتلك الحكاية المشهورة من التراث، والتي مفادها أن ثلاثة أشخاص من النبهاء كانوا يسيرون مجتمعين فوجدوا آثار جمل: فقال الأول: إن هذا الجمل أعرج، وقال الثاني هو أبتر، بينما قال الثالث: إنه أعور. أكمل الثلاثة سيرهم حتى لَقُوا رجلا ملهوفا فبادرهم بالسؤال: لقد ضاع جملي وأنا ابحث عنه، فهل صادفتموه في طريقكم؟ قال الأول: أهو أعرج؟ فقال: نعم. قال الثاني: أهو أبتر؟ قال: نعم. قال الثالث: أهو أعور؟ قال: نعم. أجابه الثلاثة: لا. لم نره. قال صاحب الجمل الضائع: هل تسخرون؟ أنتم تصفون جملي ثم تقولون إنكم لم تروه؟ من أين أدركتم صفاته إذن؟ قال الأول: عرفت أنه أعرج لأن آثار أحد قوائمه أقل سُحْقًا من الثلاثة الأخرى. قال الثاني: عرفت أنه أبتر لأن بَعْرَهُ مجتمع، ولو كان ذا ذيلٍ لَتَشَتَّتَ البَعْرُ. قال الثالث: عرفت أنه أعور لأنه ظل يأكل من العشب على اليمين مع أن العشب على اليسار أفضل وأجمل.
إن الفلاسفة يصفون بدقة متناهية مالم يدركوه بالحواس. لكن، مثلما لم يسْطْعِ الثلاثة إدراك لَونِ الجمل وحجمه كذلك عجز الفلاسفة عن إدراك باقي التفاصيل، فغفَلوا عن كون عدم الحكم حكمٌ أيضا، والإحجامُ عن الفعل هو أيضا فعل، وأن الاستسلام من عمل الإرادة والتبعية من نتاجها، وآية ذلك ما تحدث عنه التحليل النفسي مما يسمى » المازوشية »، فهي استسلام وخضوع للشريك الجنسي. ليس كذلك فحسب، بل هي قمة اللذة والمتعة الشهوانية. إنه باختصار قِبْلةُ الإرادة الجنسية.
قال المتحدث: إن الذي يجعل الامتناع عن الحكم أو الفعل عملا خارجا عن الإرادة هو العقل الأخلاقي، فهو الذي يحدد ما يجب أن يكون، وما لا يجب أن يكون. قال المعترض: يزداد الأمر تعقيدا كلما زِدْتَ التوضيح، فما الذي يجعل العقل الأخلاقي مستقلا عن الارادة؟ أجاب المتحدث: الذي يجعله كذلك هو أن أساسه غير ميتافيزيقي، وإنما اجتماعي. قال المعترض مُنكرًا على المتحدث: يا أستاذي إن العقل هو المفهوم، وهو الذي وصفه كانط بالمَلَكة، وهو وَحْدةٌ منسجمة لا اختلاف فيها، أما العقل الأخلاقي أو العملي أو الخالص أو السياسي وغيرها، فهي مجرد اصطلاحات لاحقة بالمفهوم، وهي دالة على أبعاده واشتغالاته، الغاية منها مَيْزُ الحقول المعرفية عن بعضها، وقد وظفها الفلاسفة لتيسير التعليم ونقل المعرفة؛ حتى الأستاذ محمد عابد الجابري حينما سمى مشروعه الكبير : »نقد العقل العربي »، لم يكن في الحقيقة يجترح مفهوما خاصا به أو كان يؤسس فلسفة قومية، وإنما أبدع اصطلاحا مؤسَّسًا على مفهوم العقل كما انتهى عند كانط لتحليل مجال تداولي مخصوص وفهمه.
فهمت من ذلك المعترض كثير الجدل أن الجَمَلَ يبقى جملاً رغم صفاته اللاحقة: الأعرج والأبتر والأعور، بل إن وصف خصائصه ممكنٌ من آثاره، كما أنه يبقى مفقودا رغم إدراك تلك الآثار. لكن الإرادة نفسها هي من آثار العقل، وهي لا تشتغل بمعزل عنه، فهي نتاجه، ألم ينقلِ المتحدثُ عن ديكارت أن العقل ذو معرفة محدودة وإرادة حرة؟ وينتج عن ذلك أن عدم الحكم في حد ذاته حكم، والإحجام عن الفعل هو فعل أيضا، لأن مقاييس الميتافيزيقا ليست هي مقاييس الفيزياء. قال المتحدث للمعترض: بأي معنى تُقيمُ هذا القياس؟ قال المعترض: إذا كان الامتناع عن الحركة الذي هو السكون هو غياب الحركة، فإن الامتناع عن الفعل الذي هو عدم الفعل لا يعني غياب الفعل، إنه فعل بمعنى آخر.
يقال إن من أَخْصَبَ تَخَيَّرَ؛ ولكن واقعي، بين المتحدث والمعترض وحكاية الثلاثة والجَمَلِ، أنَّ مَن أخصب تَحَيَّرَ، فأنا بين إرادة ممتدةٍ في الفعل وفي الامتناع عن الفعل، وبين إرادة تنتج الفعل وتغيبُ حين الفعل؛ أنا بين بين جملٍ أصليٍّ لَحِقَتْهُ العيوب: العَرَجُ والبَتَرُ والعَوَرُ، وآخرُ تكون تلك العيوب هي صفاته تماما، وبها عُرِفَ.
قال المتحدث: لقد بنى ديكارت مفهوم العقل باعتباره أساس الأنا الواعية بحقيقتة ذاتها وبحقيقة العالم، لكن بضمانة الكائن الكامل الذي هو الله. الله موجود بالضرورة لأن فكرة الكمال موجودة فطريا في العقل، ولأن الحقيقة لا توجد إلا كاملة فإن وجود الله الكامل الذي يضمنها لا مناص منه. قال: العقل نصف الحقيقة وإرادة المعرفة نصفها الآخر، لكن سياجها هو الله الكائن الكامل ذو الإرادة الثابتة.
فهمت من كلام الإثنين: المتحدثُ والمعترضُ معا أن قدرة الثلاثة على تحديد عيوب الجمل من آثاره راجعة إلى وجود صورة الجمل السليم في أذهانهم، وهو ما يعني أن فكرة الكمال هي الأصل؛ من أجل ذلك، فالنقص لاحق يُفْهَمُ بالبحث عن الكمال، وحينما نبحث عن مثالب العقل ونقائص الإرادة فإنما نبحث لأننا ندرك كمال العقل وتمام الإرادة، وأن ديكارت حينما تحدث عن الارادة المحدودة للعقل يفعل ذلك من خلال وعيه بوجود إرادة مطلقة. أما حينما مازَ كانط بين العقل الخالص والعقل العملي فإنه يحدثنا، بوعي أو بغير وعي، عن محدودية العقل ونقائصه لما ينزل دركاتٍ إلى الأفعال: الفهم والسلوك.
ثم فهمتُ من المتحدث والمعتراض أن تحرر الباحث عن الجملِ من مشكلة الصِّلةِ اللازمة بين الإدراك والواقع قد حصل حينما علم أن الثلاثة أدركوا تلك الصفات بالآثار وليس بالمعاينة، وهو ما جعل سارتر يحرر الإنسان من الآثار معلنا أنه حُرٌّ حرية مطلقة، فكل الإكراهات مجرد آثار يكفي إدراكها ثم الوعي بها ليستمر مسلسل الحرية المؤسس للارادة، بل إن ذلك الوعي نفسه هو عمل الإرادة.
قال المعترض للمتحدث: إن معانِيك للعقل والإرادة تقودنا رأسا إلى الغرائز، أي أن عمل العقل محصور بين قبول تلك الغرائز ورفضها، أما عمل الإرادة فهو تنفيذ تلك الغرائز أو تفنيدها. هذا لفٌّ ودورانٌ ينتهي إلى حقيقة واحدة: الجسد بحاجاته ورغباته
انتفض المتحدث في وجه المعترض قائلا:
هل أنا عدمي؟
يتبع…