الدعاية ضد العقل وأجندات التفاهة ..

الدعاية ضد العقل وأجندات التفاهة ..
شارك

د. سعيد أولعنزي تاشفين

منذ عصر الأنوار كانت مشروعية الحكومات تتجلى في خدمة الشعوب ، حتى أن روسو في العقد الاجتماعي أكد أن العلاقات العمودية تظل تعاقدية لدرجة أن أي إخلال بأي شروط التعاقد بين الحكام و المحكومين يسقط العقد من أصله. ومونتسكيو في روح القوانين أكد على دقة فصل السلط في تنظيم آليات اشتغال المشروعية لصالح المجتمع من مدخل تدبير الدولة الديموقراطية. ولا غرو أن كل التجارب المقارنة الديموقراطية الناجحة تنتصر دائما إلى كون الحكومة الأداة المنهجية لدعم الشعب في حماية حقوقه .

مغربيا هرمنا ونحن ننتظر متى تفهم الأحزاب السياسية أن شرعية الفعل السياسي رهين بخدمة المصلحة العامة، على قاعدة القاعدة القانونية التي تتأسس من خلال بلورة منطق الحق الطبيعي كما أكد جون لوك، و ليس بصناعة الرعب كما زعم توماس هوبز في الليفيتان. إن المسؤول الحكومي أولا يتقاضى أجرته الدسمة من دافعي الضرائب، وهو ما يلزمه بالتواضع السياسي والوفاء الأخلاقي لخدمة الشعب، بدل التعسف باسم احتكار حق تحريك ماكينة العنف المشروع لضمان الإكراه على قبول الشطط واستيعاب التحكم. ومغربيا، من دون الذهاب بعيدا في تفكيك علم السلطة / السياسة، أؤكد على ما يلي :

✓ فشل أحزاب اليسار واليمين والذين في التمرين الديموقراطي عبر حسن استغلال السلطة الشعبية لخدمة الأسئلة المجتمعية المطروحة، إذ بمجرد ما يبلغ حزب سياسي معين دروة التدبير الحكومي يبدأ مباشرة في تعذيب الشعب نفسيا وكأن الشرعية لا تتم بضمان الخدمات بل بإذلال الرعايا،  هو تأويل فيودالي جامد للسلطة بما لا يعير السيادة الشعبية أدنى اعتبار، لأن الوزير والبرلماني بلغ مقصده بالمال السياسي أو بالعشائرية والقبلية بما ينسف كل تقدير محتمل لقدسية صناديق الاقتراع، حتى أن كل الأحزاب نجحت يتميز في تبخيس السيادة الشعبية .

✓ تواطؤ النخب المثقفة مع توازنات الإكراه، فتلتزم الصمت المشبوه، عبر اغتيال العقل النقدي حتى أن الكثير من المثقفين تحولوا تحت جاذبية السلطة والمال إلى أقلام مأجورة  » تحب  » الوطن من أجل ضمان الحق في كعكة الريع، أو  » تكره  » الفساد كوسيلة لممارسة الابتزاز وإخضاع السلطة، أو في أحسن الأحوال نهج موقف اللاموقف من خلال الإهتمام ب  » الريال  » و » البارصا  » والاعتكاف بالعلب الليلية بحثا عن الجسد وفرصة تحرير الهو، مع محاصرتهم للزوجات ومنعهن من أدنى شروط الحرية حتى أنهم تحررين داخل العلب الليلية وبشقق  » النشاط  » و » الزهو  » ومتسلطين عدوانيين أصوليين مع أهلهم و ذويهم .

✓ المجتمع المدني، الذي تشكل بأروبا الغربية منذ نهاية الحقبة الحديثة بسقوط الفيودالية المتواطئة مع الكنيسة ضد العقل، حتى إن ديكارت صاحب الكوجيتو كان كل همه بتأويل كارتيزيائي دقيق هو نسف نسق التحكم اللاهوتي ضد العقل عبر حسن استنزال الذات المفكرة وتحريرها، وهو ما يؤكد رجحان انبلاج العهد الجديد القائم على الاستقلالية والمسؤولية على نقيض محاكم التفتيش، أصبح عندنا مجتمع جمعيات السهول والجبال أولا التي احتكرتها طبقة الأثرياء المحظوظين، قبل أن تتشكل جمعيات  » لكامون  » و  » الصردي  » و  » الزربية البلدية  » ثانيا بتحديث البنيات القبلية والعشائرية ومنحها بريق مدني لشرعنة التسلط الباطرياركي الإكليريكي حينا، أو لتمكين المرأة من مدخل الجندر في نسق التبرجز المنفلت عن كل قواعد التحرر الفكري أحيانا أخرى لصالح طغيان النزعة الاستهلاكية المتماهية مع النوع لصالح الإخضاع في قوالب الهيمنة الاستهلاكية. لدرجة أن الذين شكلوا المجتمع المدني بأروبا الحديثة هم زمرة الفلاسفة من رواد النهضة الأوروبية والحركة الإنسية منذ إيرازم وصاحب  » مقال في المنهج  »  مرورا بجيورادنو برونو الذي قتله محاكم التفتيش حرقا، نحو باروخ سبينوزا الذي تمرد على الجهل المقدس في متنه  » رسالة في اللاهوت و السياسة  » ، في اتجاه رواد التنوير، نحو هيغل وماركس، وكلهم نجحوا في نزع طابع السحرية والطوباوية على فعل السلطة المقدسة بخلفية اللاهوت نحو إقامة السلطة النسبية القائمة على الحرية والمسؤولية ( ديكارت )، وعلى التعاقد والتمثيلية ( فلسفة الأنوار )، ثم على منطق الديالكتيك ( هيغل أولا ثم ماركس وإنجلز ثانيا ) ، نحو الفردانية و الذتانية مع فلسفة ما بعد الحداثة، قرونا قبل أن نستورد نحن فكرة المجتمع المدني كتحديث براني لعمق جواني جامد ومتخلف. و ها هو  » المجتمع المدني  » تشكل كسلطة انتهازية جامحة تستتمر في الجهل المركب وتدمج القبلية والعشائيرية والجهل المركب في الحداثة الشكلانية لصالح نخب مدنية معارضة للتنوير ومتمسكة بالفهم الفيودالي الكومبرادوري الذي يقف سدا منيعا ضد كل فرص تشكل العقل المدني المستقل عن السلطة وعن اللاهوت وعن المال والريع. وما كل جحافل الانتهازيين الذي يتموقعون ضمن نسق جمعيات  » الطبالة  » و  » الغياطة  » و  » النكافة  » التي تمارس أبشع أشكال الشعبوية باسم فعاليات المجتمع المدني الذي تخصص في اقتناص المنح و » الزرود  » والزغاريد والتصفيق والبهرجة والفلكرة المعادية للعقل المدني الواعي كما حدده كل فلاسفة اليسار العقلاني منذ ديكارت إلى ميشل فوكو ووجيل دولوز وٱلان تورين  بول ريكور .

✓ مؤسسات التنشئة الاجتماعية أصبحت مجرد ماكينة متخصصة في التدجين و  » تكليخ  » العقل واستصغار الذكاء الجمعي. وما السياسة الإعلامية سوى وسيلة لدعم التفاهة ونشر الثقافة المضادة التي نصبت رموزا جديدة ضمن عنف النمذجة كما هو ما  » مناضلي التلفزة  » من طينة إيكو الباسل ورشيد شو العايق ومول جزيرة الكنز المتعجرف وحديدان القوالبي وغيرهم من رموز الوضاعة القيمية المسنودة لصالح تكريس الغيبوبة الفكرية. وبشكل متواز مع الإعلام الرسمي نجد مواقع الانترنت تتيح كل فرص التموقع في ميزاج القطيع من لدن المخنتين والمسترجلات من صنف العلامة طالوني والمقاومة سالي كول والشيخة الكاميو وكل أصحاب الأخدود من الشواذ الذين يغتصبون يوميا الأخلاق العامة والآداب وكل القيم الممانعة. فالمغاربة نتيجة لا يعرفون العروي ولا الخطيبي ولا طه عبد الرحمن ولا محمد عزيز الحبابي ولا كمال عبد اللطيف ولا المصباحي أو الجابري ولا محمد زفزاف ولا شكري ولا محمد خير الدين .. بالأحرى يقفون إجلالا ل  » فناني  » باك صحبي و المؤخرات و و قيم الانحطاط، التي أصبحت عنوانا للحداثة المغشوشة التي تخرب فينا كل أنماط الفكر الممانع والمقاوم للانحراف الممنهج . إن كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية استقلت عنوة حتى أن الانتقال من الأسرة الممتدة  » المتخلفة  » ، إلى الأسرة النووية  » العصرية  » جعل الأسرة مجرد مقاولة قائمة على  » العشرة  » بين أفراد لا يربطهم أي رباط مقدس سوى الفراش لتلبية نهم الكبت التاريخي القابع في العقل الباطن لجحافل الجياع الذي جعل والزواج مجرد حادثة سير اجتماعية ضمن علائق الباطريريكية الجنساوية، وعلى نمو الأطفال عبر أسلوب التباهي للمتوقع في مدارس محظوظة للتمكن من اللغات الأجنبية التي تميز النوع البشري من صنف  » كيليميني  » بما يجعل الأسرة بنية تبعية للمقاولة ضمن نسق الرأسمالية المتورطة في سلعنة الأسرة وتبضيع الأطفال. كيف لا والخيانة موضة والشذوذ  » لوك  » والحريات الفردية قضية أمن قومي يرافع عنه جموع حقوقيو البذخ الفكري والترف النضالي على نقيض التنوير الفكري المسؤول والجاد . وما يسجل عن الأسرة والإعلام يطال المسجد و الشارع و الحزب والنقابة والجمعية .. وكل الفضاءات الرمزية التي تناط بها مهمة التنشئة الاجتماعية ضمن الانزياح الأكبر الذي ليس سوى الغيبوبة الفكرية و » الكوما  » التاريخانية التي أصبحت خيارا مفروضا من داخل علائق التبعية والانحراف الأكبر الذي ترعاه سلطة العولمة ضمن سياجات النظام العالمي الجديد .

ختاما إن اعتقال العقل النقدي و محاصرة اللغوس ليس سوى مظهرا جليا من مظاهر العولمة الليبرالية المتوحشة التي تحاول بكل الوسائل إخضاع العالم إلى سلطة الرأسمال ضمن نظام دولي جديد قائم على ما سماه ٱلان دونو بنظام التفاهة . و ما تدخل المختبر منذ فجر الألفية الثالتة سوى توريط العلم على مقاس تكريس الإخضاع بشروط الهيمنة الرأسمالوية لصالح تركيع البشرية خدمة لأجندات الصعاليك الكبار الذين يخططون من داخل الغرف المغلقة لتحويل البشرية إلى رقم مالي مستهلك بمنطق ضبط علاقات العرض و الطلب بمنطق مالتوس أولا و كينز ثانيا تنفيذا للهدف الأسمى المقدس و هو الهيمنة الرأسمالوية التي يتنافس عليها الضباع الكبار .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *